بدأ عبد الله زريقة في الشعر مناضلا طبقيا تسكن قصائده أصوات المكدودين وأحلام الثورة الموعودة وانتهى إلى رؤية قيامية تستند إلى الميتافزيقا، متخلصا من «الأوهام» ومحولا مصدر التجربة ومسارها في اتجاه الداخل، الذي يفرغ الشعر من وظيفته البرانية، وفي أعماله الأخيرة بدا زريقة ذلك السريالي الذي يمزج بين العبث وهبات من رياح الموت نبيل منصر: عبد الله زريقة صوت غريب في الشعر المغربي المعاصر. انحداره من جيل السبعينات ومن الحي الهامشي في مدينة الدارالبيضاء (حي بنمسيك) حمَّله هماً طبقياً مبكراً وجعل شعره يسكن، في البداية، تلك المنطقة الساخنة الآهلة بأصوات المكدودين وأحلام الثورة الموعودة. ولعل النبرة الحادة التي وسمت أعماله الأولى، بدءاً من «رقصة الرأس والوردة» (1977) هي التي دفعت الشاعر عبد اللطيف اللعبي إلى ترجمة نصوصه إلى الفرنسية، لتنعقد بذلك بين الشاعرين صداقة لم تزدها سنوات الاعتقال السياسي، ثم الرياح الثقافية التي هبت على مغرب الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، إلا رسوخاً. وشيئاً فشيئاً عثرت أعمال الشاعر في واقع «انجلاء الأوهام» على ما يحول مصدر التجربة ومسارها في اتجاه الداخل، الذي يفرغ الشعر من وظيفته البرانية، ويصله بأفق ميتافيزيقي بلا قرار. وهو الأفق الذي لامسه الشاعر في «تفاحة المثلث» (1988) العمل الذي دشن مغربياً المزاوجة بين الشعر والتشكيل، من خلال التفاعل مع التجربة التصويرية للفنان المغربي عباس صلادي (1950-1992)، وهي التجربة التي يجمعها بعبد الله زريقة ذلك الانحدار في مهاوي الرعب والسقوط والتآكل. ومع صدور أعمال أخرى للشاعر مثل «فراشات سوداء» (1988) و«فراغات مرقَّعة بخيط شمس» (1995) توسعت أكثر المهاوي الميتافيزيقية في الشعر المغربي المعاصر، وكان عبد الله زريقة صاحب نغمة خاصة هي أقرب ما تكون إلى نغمة الاشمئزاز الدادائية أو السريالية مع ظلال من العبث وهبات من رياح الموت. وجاء الإصدار الجديد للشاعر «حشرة اللامنتهى» ليكرس تجربة وجدت في قصيدة النثر ذلك الشكل الخاص القادر على صوغ التوتر، في الوعي والحساسية، ضمن جمالية شعرية مضادة للغنائية التقليدية. في «حشرة اللامنتهى» يُضاف إذن درج آخر إلى «سلالم الميتافيزيقا» (الديوان ما قبل الأخير» التي صار الشاعر ينظر عبرها الى الواقع. وفي التناقض بين احتمال دلالة «الحشرة» على كائن متناهي الصغر ودلالة «اللامنتهى» على قيمة معنوية مطلقة، ترتسم في ذهن المتلقي ملامح المتخيل الشعري في هذا العمل الذي يقيم في منطقة التوتر بين الأشياء الصغيرة والنافلة والأشياء اللامتناهية الامتداد. ومن داخل هذه المنطقة تطارد الذات الشاعرة «خضرة ذهب الظلمة» و«جنازة رمان الثلج» باحثة عن ذلك «العراء الذي تستريح فيه نملة الكون». وهذه الاستعارات هي عناوين دالة لثلاث قصائد تكشف عن مزاج النصوص الأحد عشر المشكلة لمتن المجموعة، وتكشف أيضاً عن ولع خاص باقتناص الصور الشعرية الغريبة والصادمة. ولا تفوتنا الظلال العبثية المنبعثة من صورة العنوان، فكلمة «الحشرة» تذكرنا بحشرة كافكا، وعندما تسند هذه الكلمة إلى دال «اللامنتهى» يأخذ العبث أبعاد طاقة رحمية تولّد مجازات التجربة ومتخيلها الشعري. بدايات نصوص عبد الله زريقة توحي غالباً بأنها استئناف لكلام سابق، كما أن نهاياتها تمنحنا الانطباع بتوقف مؤقت يخلو من صرامة النهاية أو الكلمة الأخيرة في معجم القصيدة. وهذه المفارقة في البناء تكشف عن لا جدوى الكلام الشعري وعن حيويته في آن واحد. وبين الحاجة إلى الكلام والضجر منه تمتد يد راتقة خفية لتبني مجازات القصيدة بكثير من العفوية والمكر. فالبحث المهووس الذي تكشف عنه الذات الشاعرة في مجال تشكيل الصورة، يقابله إهمال ماكر على مستوى البناء. لذلك لا تحتاج اليد الراتقة إلا لحرف الواو الذي يربط بين الجمل في شكل يبعث على الرتابة ويُشعر باللاجدوى والعبث. وهذا البناء المفارق يجعل بنية التجاور أداة البناء المهيمنة، التي تجعل فعل الرتق مفجراً لشعرية تراهن على جماليات المجاورة والتراكم، أكثر من رهانها على جماليات العضوية، التي دافعت عنها القصيدة العربية المعاصرة. تتناول قصائد «حشرة اللامنتهى» موضوعات الكتابة والموت والفراغ. وهي موضوعات شكلت هاجساً رافق دائماً الشعر والشعراء، لكنها تتجه، في تجربة عبد الله زريقة، نحو أن تكون موصولة بحساسية شعرية خاصة، تجمع بين تلوينات العبث والقسوة والاشمئزاز واللاجدوى، كأفعال سلبية تسم فاعلية الذات في هذه اللحظة من تجربتها في العالم. لذلك فهي تجد العالم شبيهاً ب«الثلاجة»، عندما تفتحه لا تجد «سوى رائحة البياض المتعفن بالثلج» (ص 11)، كما تجده رديفاً للتيه والسقوط والعمى، لذلك تتساءل «وأين أروح/ والمرآة تقود إلى العمى/ والظل إلى الشيطان/ والصحراء إلى الكتابة»، وتضيف: «وكل ما في الورقة كلمة بدون لحم/ دمعة بدون ملح/ وبياض يهرب منه حتى الموتى» (ص 16/17). ويلاحظ أن البياض يأتي دائماً عند زريقة مقروناً بإيحاءات جنائزية، ونادراً ما يأخذ الموت عنده ألواناً أخرى، إذا استثنينا هذه الصورة المشعة بغرابتها «فالموت ليس إلا زمردة خضراء في ظلمة قبر أزرق» (ص37). إن هذه الصور وسواها، التي تتناسل أمام أعيننا بغزارة، مشكلة، من داخل مأتمها الخاص، عرساً لنا «عرس قارئ» (ص 37)، هي مع ملمحها السريالي تبقى أبعد ما تكون عن الكتابة الآلية. لذلك فإن صوراً مثل «سماء بنهد واحد من سحاب» و«صحراء تنتهي بعانة غابة» و«شخير الخواء المتطاير فوق حلمات القمح» (116و117)، هي على رغم صداميتها وفجائيتها، تبقى خاضعة لتصميم في البناء يجعل الشعر كتابة قصدية صادرة عن اختيار جمالي ونزوع فلسفي واع. وهذا النزوع يقيم ميتافيزيقاه الشخصية على تخوم الموت، لذلك لا تجد الذات الشاعرة أفضل من هذا التشخيص للحقيقة: «آه الحقيقة كوجه ميت تفحَّم بظلمة قبر» (ص19)، وهي لا ترى إلى الجمال خارج الموقف السوداوي: «لكن رؤية وجه جميل كرؤية قاع قبر» (ص54)، وهو ذاته إحساسها بالعطر «والعطر كذباب الموت» (ص62). إن كل ما يشكل، في الذائقة الشعرية العامة، قيمة جمالية راسخة، يتحول، في هذه التجربة، مصدراً للقسوة والاشمئزاز والغروتيسك. بل إن الطفولة، التي اعتبرت دائماً مصدراً للنقاء والبراءة، لم تسلم بدورها من هذه الرؤية المرعبة، فالأطفال ليسوا أكثر من «مسامير نعش» والشاعر لا يملك إلا أن يصرخ: «الأطفال يمزقون أذني كما يمزقون دفاترهم» (ص78). هكذا انتهى عبد الله زريقة، الذي ابتدأ في الشعر مناضلاً طبقياً، إلى هذه الرؤية القيامية، بعدما جرت مياه كثيرة في نهر الشعر والحياة. وكأنني به يحقق، على طريقته، رؤية أنسي الحاج: كي تكون شاعر نثر حقيقياً عليك أن تكون مريضاً (ملعوناً) كبيراً.