الغرابة مجسَّدة في رجل. التقيتُ به بعد أن التحقتُ أستاذاً بكلية الآداب. كانت عيناه تشعّان ذكاء لا يُفصِح عنه فمُه، فقد كان قليل الكلام كثير الصمت. لم أحتَجْ إلى طويل وقت لتلتقط أُذناي ما كان يتهامس به زملاؤه عنه. كانوا يقولون إنّه غريب الأطوار، غريب الأفكار، غريب الذوق والسلوك والهوايات، يصعب على طلابه أن يفهموه بسهولة. كلماته رموز وعباراته ألغاز بعيدة المرامي. يجمع المتناقضات في عقله وتلتقي الأضداد في شخصه. يدرّس الأدب الإنجليزيّ، ولكنّه خبير في التراث العربيّ القديم. كان مثل طير متميِّز اللون يحلِّق بعيداً عن السرب في أعالي السماء. وصل أحد الطلاب الجُدد إلى قاعة الدرس متأخِّراً عشر دقائق. ولمّا لم يكن يعرف الأستاذ ولا الطلاب، فقد طَرقَ الباب وسألَ الأستاذ: هل هذا هو قسم الأستاذ سيدي محمد؟ لا، فدرسه بدأ الساعة الثامنة. أجاب الأستاذ بشكل طبيعي. انصرف الطالب الجديد خائباً ولم يُدرك معنى ضحك الطلاب الذي لاحقه، ولكنه علم بعد ذلك أن الأستاذ سيدي محمد قد لقَّنه درسه الأوَّل بصورة لا تُنسى، وفحواه: احترم الوقت، احترم المواعيد. فالوقت، بالنسبة للأستاذ سيدي محمد، مقدّس ذو قيمةٍ ساميةٍ تكاد تعادل قيمة الدرس أو تسمو إلى مرتبة الأستاذ نفسه، وكأنّه يِؤمن بمقولة: " لولا الوقت لما صار الإنسان إنساناً ". ولهذا لم استغرب حمله ثلاث ساعات في آنٍ واحد: ساعتان يدويَّتان: واحدة على كلِّ معصم من معصمَيه، وثالثة ساعة جيبيّة في جيب قميصه القريب من قلبه، وأحياناً يحمل بضع ساعات أخرى في بقية جيوب بذلته.ولعلَّ سلوكه هذا هو الذي دعا زملاءَه إلى وصمه بتهمة الغرابة. توثقتْ علاقتي بالأستاذ سيدي محمد بعد أن تأكَّد له أنّني أحترم الوقت وأنّني أفهم أو أتفهّم النزر اليسير من أفكاره التي باح بها إليّ. وهكذا اطمأنَّ إليَّ وزادت ثقته بي، فدعاني ذات يوم إلى منزله لتناول الشاي معه. داهمتني الدهشة والعجب عندما دخلتُ منزله، وبذلتُ جهداً كبيراً لإخفاء مشاعري، فقد خشيتُ أن أُسيء إلى مضيّفي إنْ ظهر الاستغراب على وجهي. كانت باحة المنزل غاصَّة بحشد غريب عجيب من الساعات القديمة والحديثة التي ينبعث منها خليط من الأصوات والدقّات والأنغام. ففي وسط المنزل كانت ساعة مائيّة تحتلّ مكان النافورة. عرفتُها من أسطوانتها المملوءة بالماء والآلة المجوفة الطافية على الماء والكرات الصغيرة التي تسقط واحدة منها كلَّ ساعة في طاس فتحدث طنيناً يُعلِن عن انقضاء ساعة. وفي أعلى الحائط المقابل نُصِبتْ ساعةٌ شمسيّةٌ كبيرةٌ. وهذه الساعة مؤلَّفة من عود خشبي مغروز في الحائط، تسقط عليه أشعة الشمس فينتقل ظلُّه على لوحة من الأرقام المخطوطة على الحائط لتحديد الوقت. وعلى جانبَي تلك المزولة عُلّق على الجدار إسْطُرْلابان كبيران أحدهما نحاسيّ والآخر فضيّ لا أدري كيف حصل عليهما، لأنّني لم أَرَ إسْطُرْلاباً قطّ في أسواق هذه المدينة التي أعرفها منذ سنوات عديدة. وبينما كنتُ أفكِّر أنَّ الساعة الشمسيّة والإسْطُرْلاب لا يساعدان على معرفة الوقت إلا في النهار المشمس، لمحتُ على منضدةٍ في زاويةِ باحةِ الدار ساعةً رمليّةً مؤلَّفةً من قارورتَين زجاجيتَين كبيرتَين مُتَّصلتَين بعنقٍ صغيرٍ وقد مُلِئت القارورة العليا بالرمل في حين خُطَّتْ على القارورة السفلى خطوط وأرقام، وأخذت ذرّات الرمل تتسرَّب من القارورة العليا إلى القارورة السفلى من خلال العنق ليشير الحدُّ الذي يبلغه الرمل المتجمِّع إلى الوقت. وكانت بقيّة الجدران مكتظَّة بالساعات الحائطيّة من مختلف الأنواع والأحجام والأشكال: ساعة حائطيّة ببندول طويل يتدلّى منها ويتراقص يميناً وشمالاً، وساعة حائطيّة رقّاصها على شكل طير يزقزق الدقائق ويُطلق صيحات بعدد الساعة، وساعة حائطيّة تنفتح من وسطها بين ساعة وأخرى فيخرج منها تمثالُ رجلٍ صغيرِ الحجم ليعلن الوقت بصوت أجشّ ثم تنغلق عليه. شعرتُ أنّني ينبغي أن أقول شيئاً لأُخفي أمارات الاندهاش التي سيطرت على وجهي، فرسمتُ ابتسامةً على شفتيّ وقلت: هواية جمع الساعات رائعة. بدتْ لي عبارتي سخيفة ولا معنى لها في ذلك المقام، فأردفتُ قائلاً: منزلك أشبه ما يكون بمتحفٍ متخصِّص . قال دون أن ينظر إليّ: الساعة أروع ما اخترعه العقل البشريّ. ويعود الفضل لأجدادنا العرب القدماء. وهنا حاولت أن أقول شيئاً ذكيّاً ينمُّ عن إلمامي بتاريخ الساعات، فلم يحضرني إلا العبارة التالية: أتقصد بذلك الساعة الدقّاقة التي أهداها الخليفة العباسي هارون الرشيد إلى شارلمان، ملك الإفرنج، فأفزعتْ حاشيته؟ قال: لا أقصد بالساعة الآلة أو الأداة وإنّما الوحدة الزمنيّة، فالعرب البائدة من السومريين والبابليين والفراعنة هم الذين توصَّلوا إلى تقسيم الزمن إلى سنوات وفصول وشهور وأسابيع وأيام وساعات، عن طريق مراقبة الكواكب والنجوم وتقسيم الزمن الذي تستغرقه في كلِّ دورة من دوراتها. دخلنا صالة الجلوس فوقع نظري على لوحةٍ خشبيّةٍ كبيرةٍ معلّقة على الجدار وهي تحمل اثنتي عشرة ساعة جيبيّة. وكانت بقية الجدران مكسوَّة بالساعات الحائطيّة المختلفة، والطاولات في الغرفة مليئة بالساعات المنضديّة المتنوِّعة. وكانت دقّاتها تختلط في سمفونيَّةٍ غريبةٍ من الأصوات والأنغام والإيقاعات. لم يكُن خادمه العجوز موجوداً ذلك اليوم، فذهب بنفسه إلى المطبخ لإعداد فنجانَين من القهوة. واغتنمت الفرصة لإلقاء نظرة على لوحةِ الساعات الجيبيّة المعلَّقة على الحائط. كانت تشتمل على اثنتي عشرة ساعة جيبيّة، كما قلت. وكلُّ ساعة كُتب تحتها اسم مدينة من مدن العالم ابتداء من الشرق إلى الغرب، بحيث يكون الفرق ساعة واحدة بين كلِّ مدينة وأخرى: طوكيو ، كوالالمبور، بانكوك، إسلام آباد، دلهي، مكة، طرابلس، تونسالدارالبيضاء، لندن، إلخ. عاد الأستاذ يحمل صينيّة وفيها إبريق القهوة وفنجانان كبيران. ولمّا وضعها على الطاولة لاحظتُ أنّ أحد الفنجانين يحمل رسماً لساعة فيها ثلاثة عقارب ملوَّنة. لم أشأ أن أسأله عن سرِّ الساعات الاثنتي عشرة وعن فائدتها له وهو مختصٌّ بالأدب الإنجليزيّ وليس بالجغرافية. وحاولت أن أصرف المحادثة عن موضوع الساعات التي لا أعرف عنها كثيراً إلى موضوع آخر كالقهوة التي أعدّ نفسي خبيراً في شربها، فلم أوفّق إلا إلى قول سخيف آخر: هذا فنجان لطيف على شكل ساعة. وإذا به يقول: إن كلمة "فنجان" كانت تُلفظ " بنكان"، واستُعلمت كلمة "بنكان" في التراث العربي لتدلَّ على نوع من الساعات ذات الآلات الميكانيكيّة. والفنجان الذي ترتشف القهوة منه الآن يقوم بالوظيفتَين. فعندما تنتهي من شرب قهوتك تستطيع أن تقرأ فيه الوقت الذي استغرقتَه في الشرب. لم أدرِ ما أقوله له، ووجدتني أشيح بوجهي عنه وإذا بعينيّ تسقطان على طاولةٍ قريبةٍ منا وعليها سبع ساعات يدوية لها الحجم نفسه والشكل نفسه، أو هكذا تبدَّت لي تقريباً. وألفيتني أسأله بشيء من نفادِ صبرٍ: وما فائدة اقتناء سبع ساعات يدوية من نوعٍ واحدٍ، كتلك الساعات المرتَّبة على الطاولة؟ أجاب بهدوء أقرب إلى الرتابة وكأنَّه يلقي درساً كرَّره مراراً: إنّها ليست من نوعٍ واحد، فالأولى تعمل باللولب، والثانية تعمل بالبطارية، والثالثة بحركة اليد، والرابعة بنبض المعصم، والسادسة بالطاقة الشمسية، والسابعة بحركة الهواء. أضف إلى ذلك أن كلَّ واحدةٍ منها تقوم بتنبيهي إلى أمر مختلف بنغمة مختلفة. قلتُ له وكأنني أنتقد بصورةٍ غير مباشرة هوسه بالوقت: ظننتُ أنّ أجدادنا العرب القدامى لم يحفلوا بالوقت كما نحفل به اليوم، فبعيرهم في الصحراء لا يعبأ بالوقت كما تتقيّد به طائراتنا اليوم. قال مستغرباً قولي: على العكس تماماً، كانت معرفتهم الدقيقة بالوقت تعوّض عن ضعف وسائل الاتصال والمواصلات عندهم. وكان من حرصهم على الوقت أنَّهم خصّصوا اسماً لكلِّ ساعة من ساعات الليل والنهار. فأسماء النهار الاثني عشر، مثلاً، هي: الذرور، البزوغ، الضحى، الغزالة، الهاجرة، الزوال، الدُّلوك، العصر، الأصيل، الصبوب، الحُدُور، الغروب. سرد تلك الأسماء بطلاقةٍ متناهيةٍ حسدتُه على خفَّةِ لسانه فيها. كانت الساعات المختلفة الجداريّة والمنضديّة والجيبيّة واليدويّة تقرع بين آونة وأخرى أجراساً وجلاجل متباينة الأنغام متنوِّعة الإيقاعات. وبمرور الزمن اكتشفتُ أنّ حياة الأستاذ سيدي محمد تتحكَّم فيها أجراس ساعاته. فجرسٌ يوقظه من نومه في الفجر لأداء صلاة الصبح، وجرسٌ آخر يقرع ليدخل الحمام ويستلقي في مائه الدافئ المريح، وجرسٌ آخر يُخرجه من الحمام، وخامسٌ يُجلسه على مائدة الفطور، وسابع ينبّهه إلى الخروج في اتّجاه الكُليّة. وجلجلةٌ خفيفة من إحدى ساعتيه اليدويَّتَين تسترعي انتباهه إلى التوجُّه إلى قاعة الدرس، وجلجلةٌ من الساعة اليدوية الأخرى تذكّره بانتهاء الحصّة وهكذا دواليك. توثَّقتْ صداقتنا حتّى أخذتُ أقترب من تفكيره وأمسيتُ أقرب الناس إليه. ولم يُثِرْ استغرابي كونُه يعيش وحيداً، فليس هنالك امرأة تستطيع أن تعيش مع جميع تلك الساعات الدقّاقة. أما خادمه العجوز فقد اكتشفتُ أنَّه مصاب بالصمم، وأنه اعتاد على مُجرياتِ حياةِ الأستاذ المنظَّمة بحيث إنّه لم يَعُدْ بحاجة إلى قراءة شفاهه لمعرفة تعليماته. وعندما مرض الأستاذ كنتُ كثيراً ما أعوده، فأُعجبُ لصمت تلك الساعات. لقد توقّفت عن قرع أجراسها وكأنّها تحرص على عدم إزعاجه. طال مرضه ودام صمتُ ساعاته شهوراً. وذات يوم هاتفني خادمه العجوز يستدعيني إلى منزله على عجل. أسرعتُ إلى المنزل. ودخلت غرفة نومه. كان مسجّى على فراشه وقد فارق الحياة. وكانت جميع الساعات تقرع أجراسها بشكلٍ متواصلٍ. .................................... علي القاسمي