( 1 ) لم تكن سليمة تحب الرجال كثيرا، و لا معجن " الكاريينتي " كما هو حال باقي نساء المدينة، لكنها ربما كانت المرأة الأكثر جنونا بحبها للبحر. صحيح أن لا شيء قد يعوض لذة حب رجل لامرأة، لكن الأكيد هو أن عالم البحر كان بالنسبة إليها ذلك الجزء غير الطبيعي الذي يفجر باستمرار حنينها الدائم إلى كينونة لا تكتمل إلا بالتكرار: إن الجنة عندما تصير حلما ممكنا، فإنها ليست أكثر من تكرار حنين ما إلىشجرة، أو رجل أو سيجارة ! ربما لهذا السبب لم يجد أحد الجنة خارج قلبه، و يفضل بعض الرجال النظر طويلا إلى البحر، وتفضل النساء كالعادة – أثناء طقس التهام معجن الكاريينتي الجماعي – الحديث بنشوة عن قبلات الحبيب الأول، إصرارا منهن على تأكيد فكرة مفادها: أن الزواج من الرجل الحالي، كان بالتأكيد اختيارا خاطئا ! كان دائما يؤمن بأن الحب هو الموت . عندما سألته سليمة ذات مرة و هما يطلان على البحر كأي غريبين في هذه البقعة الصغيرة من الأرض، كيف ترى الحب ؟ .. لم ينظر إليها مثلما كانت هي تنظر إليه، ظل صامتا وهو يتأمل دخان سيجارته الذي يتصاعد من فمه و أنفه مثل منظر شجرة تحترق فجرا وسط جبل من ثلج، ظل صامتا و كأنها لم تقل شيئا، كانت تنتظر جوابه بقلق وحقد. لماذا يولد الحقد داخل لحظة دافئة مثل هذه ؟ ربما لأن المرأة عندما لا تأخذ من الرجل ما تريده تكرهه. لا أعرف إذا ما كانت هذه الفكرة صحيحة، لكن على الأقل كانت نظرتها مفعمة بحقد شديد لدرجة يصعب معها معرفة ما كانت تريده بالضبط . في النهاية المرأة لا تريد من الرجل إلا شيئا واحدا.. أقصد أن يكون رجلها ، رجلها وحدها ، وهذا السبب كاف لتحقد عليه و لكي تحبه في نفس الآن .. عندما أوشك على إنهاء سيجارته، كان يكتب في رأسه: " الحب فضيحة النقص ".. لم تسمع هي شيئا بكل تأكيد ، ولم يكن بهمه ما الذي قد تكتبه في رأسها هي الأخرى .. المساء بارد، أحس قليلا بالبرد، مال نحوها وكأنه يستعد للجواب بعد هذا الصمت العميق، ابتسم ابتسامة مخطوفة وهو يعيد ترتيب ملامح وجهه، ثم طلب منها أن يغادرا الشرفة ، عندما ابتعدا قليلا، كان صوت البحر هادرا بقوة.. هناك وسط الصخور العالية ، كان نورس صغير يولد من ضلع حجرة. ( 2 ) من هي سليمة ..؟ كل الذين عرفهم ، لم يعرفهم أبدا ، لهذا فحتى كل الذين عرفوه لم يعرفوه أبدا . إننا لا نقرأ الآخر و الأشياء، إلا بضبابية أفكارنا الصغيرة، ولا نأخذ عادة من الأصدقاء إلا ما نريد نحن، أو ما يمنحوننا هم إياه، حتى إننا لا نعرف ما الذي نفعله بأنفسنا عندما لا نستطيع أن نحس الآخر كما هو. إننا ببساطة نريده أن يكون كما نحن، نسخة لهواجسنا و أفكارنا، و هذا يكفي لكي نجعل منه – عند الضرورة آخرا لطيفا و متفهما و حرا ! هو أيضا، لم يكن يعرف عنها أكثر مما تعرف هي عنه. كان ما يثيره فيها بشكل غريب سذاجة وجهها الريفي، وصمتها السافر كطعنة في عينيها الدامعتين، كانت تقول كل شيء دون أن تتكلم، وعندما تتكلم خطأ أو صدفة لا تعرف ما تريد، كان هو يحب ذلك، وهو ينصت بقوة إلى صمتها، وإلى هدوئها الطفولي الجارف، تماما، مثلما تجرف زهرة ميموزا ميتة مياها مقذوفة إلى بحيرة . ( 3 ) مساء ذلك المساء،لم يكن يرغب في رؤية أحد، إانه يحس بالاختناق لأنه ممنوع في هذه المدينة الصغيرة من أن يشبه أحلامه، ممنوع تماما من الجنون، ومن الضحك بصوت عالي على العقلاء، على الشجر العالي و الأرصفة، وعلى المدينة المرمية على الطرقات وهي تموت من الهذيان و الصمت. كل شيء يبدو هنا محرما .. " ما أطول هذه الغربة التي تبدد المكان باستمرار "، يقول في قرارة نفسه وهو يتأمل موجة توشك على الغرق. الأحلام هي أيضا مفاتيح سحرية للموت، المرأة وحدها تعرف أين توجد المفاتيح التي تمنح الحياة، لكنها عادة ما تضيعها عند اللمسة الأولى. كل حلم امرأة مقتولة، وكل امرأة مفتاح، و اللذة ليست إلا موتا يجرنا إلى لذة تجرنا إلى الموت. باللذة ذاتها يدخن الرجال كثيرا في المقاهي، ولا تستيقظ النساء إلا ظهرا. عندما كانت تكلمه سليمة عن ذلك، كان يبدو له الأمر مثيرا للسخرية و القرف.. - ها أنت قد صرت عرائشي، إانك لا تفارق المقهى أبدا... هل المقهى ممتع إلى هذا الحد..؟ - لا شيء أجمل من رائحة البحر، لذلك أفضل الجلوس بعيدا في المقهى مستمتعا برائحة التبغ و الثرثرات.. - لم أفهم؟ - ليس مهما .. المهم أنك إذا أحببت شيئا احرقيه، ذلك هو الحب. - أنت مجنون . - كم أنت رائعة . يتذكر هذا، وهو لا يزال هاربا من الأصدقاء و المقهى، هاربا من كل شيء، يجلس وحيدا قبالة البحر، وسط الأحجار الضخمة المبللة برذاذ الموج المشتت، يدخن باستمرار، يعلن هذه الحرية المقتولة داخل هذا السجن الواسع، يتأمل الموج الذي يموت عطشا وسط البحر، إنه حزين ومحاصر، وجبان أيضا، لا يملك القدرة على الغرق ولا صوتا لطلب النجدة. يجب أن تظل المرأة فعلا مفتاحا. وسط البحر لا توجد مفاتيح، وسط المفاتيح لا توجد نساء ولا أنهار، وسط المرأة لا يوجد أي شيء، خارج كل شيء من أين يأتي الحب ؟ كانت سليمة تبدو مثل مهرة متوحشة ، وهي تنبعث من شعرها الحارق رائحة النباتات والظلام، لكنتها الغجرية، وبساطتها الطفولية، كانت تجعل من كلامه معها أشبه بلحظات السكر. ( 4 ) في العزلة يتعلم المرء أشياء كثيرة ، يتعلم غربته واحتقاره للآخرين . يبدو أن لاشيء فعلا جدير بالاحترام، حتى أولائك الذين نحبهم، نحبهم أيضا لأنهم أحبونا ذات يوم، وهم أيضا أحبونا فقط لكي نحبهم بدورنا. يجب وفق هذا القانون البليد أن تستمر البشرية في تبادل حرمانها لكي تكون، لذلك فإننا نتمسك بأي شيء، ونحب أي شيء، لدرجة يبدو أنه من المثير حقا للمزاح و الشك، عندما يتبادل اثنان بدعوى الحب مثلا، ضحكة باردة أمام مدخل محطة أو مرحاض، بنفس اللطف الذي تعودناه دائما في حفلات الزفاف، و مراسيم التهنئة، و طقوس توزيع النياشين. الجميل في المرأة مثل سليمة أنها لا تتقن شيئا أكثر مما تتقن تلك الضحكة، تضحك من أجل الضحك وكفى، وهذا أيضا مضحك، لأنه على الأقل لا علاقة لضحكها بتاريخ الزواج، ولا بطقوس تعليق الأوسمة في حفل رسمي. إن أعمق ما يمكن أن تمنحه ضحكة مثل ضحك سليمة العفوي، هو ذلك الحنين المتسخ إلى طفولات ليست أبدا صادقة، وهي بقدر ما تكون طفولية أكثر، تتسع معها لعنة الحنين إلى هذه العودة المسافرة في ضحك حالم مضحك وبعيد.. لقد تعلم عندما كان طفلا ، أن كل امرأة هي أم بالضرورة ، وبأن كل أب هو رجل كبير فقط ، وصديق بالصدفة ، والاحترام الذي يمكن أن يكنه طفل لأبيه ، هو اعتراف ليس أكثر ، بصداقة دامت طويلا ، وفي زمن ضروري ، إنه يحب أمه على الرغم من حروبه الطويلة معها ، ويكره والده الذي كان يقول دائما بأنه رجل لا يمكن أن يكرهه أحد . لهذا كان في قرارة نفسه يعرض حبه الكبير لأمه، بحقده على كل النساء. إنه يغار من المرأة، كما يقول، يغار منها لأن أطفاله سوف يكرهونه بكل تأكيد وسوف يحبون أمهم، التي لن يحبها. إن أسوأ ما يمكن أن يوجد في بيت ما ، هو أن يحب الرجل زوجته ، حب الزوجات لا يعلم الرجال إلا دروسا رديئة في الانضباط ، على عكس الخيانة التي تمنح الرجال تلك اليقظة الدائمة لحب نساء أخريات ، والتمسك أكثر بالزوجة . إن استمرارية الحب لا يمكن أن تتحقق إلا بهاجس الخيانة، مثل كل تجربة علمية أصيلة تلعب فيها المغامرة و الخطأ دورا قطائعيا لاكتشاف حقائق علمية أخرى، ثم إلى أين تذهب تلك الشموس و البحار، و النغمات الإلهية المعذبة، التي كنا نسمعها في أحلامنا بعد أن نتزوج، لابد أنها تذبل كل يوم لكي تموت، تموت لكي تبقى لامرأة أخرى في مكان ما، هي دائما في انتظارنا. لقد عرف نساء كثيرات في حياته ، تعدد العلاقات بالنساء كان يمنحه إحساسا انقلابيا مليئا بالخوف ، نحو العواطف المقبولة لكي تكون بمعنى ما حبا . أجمل ما ظل يتذكره من تاريخه الجنسي، هي الحروب. لكي نكون أصدقاء يجب أن نتبادل إطلاق النار .. أن نقبل بقتل بعضنا بوضوح تام وشفافية رائعة. . عندما كان يقول ذلك لها، كانت هي تعتبره مريضا نفسيا، فيما كان هو يوقن يقينا كبيرا بأن امرأة مثلها لا تستحق أبدا، ولو جهدا بسيطا لإطلاق النار نحوها. لقد مضى وقت طويل، دون أن يتغير أي شيء، الجلوس في المقهى أصبح عادة قاتلة، المرارة نفسها تكبر في الجدران و في الوجوه وصوت البحر، يجب أن نتعلم شيئا داخل هذا الموت، يجب أن نحرر المدينة من هذه الحرية المسروقة، وأن نمنحها سجونا أخرى أكثر اتساعا، من اتساع قلق شجرة " اليوكا " المقتولة هنا منذ سنوات. يكتب هذا في مذكرته وهو ينظر إلى المقهى المجاور من نافذة المقهى . حيث كان منظر امرأة نحيفة تدخن ، يحول الحقيقة إلى دخان، ظل يحدق فيها طويلا وهي تسعل كذئبة مجروحة، فيما كانت هي تستمر في السعال، كان هو يختنق. ( 5 ) لماذا المكان ؟ كان يحلو لسليمة من وقت لآخر ، أن تذكره بأنه بدأ يأنس المكان ، وبأن المدينة جميلة فعلا ، خصوصا في الخريف ، حيث تظهر الشجرات المنزوعة من كل شيء ، كنصب مشنوقة ، ويكون لصوت البحر ليلا طعم الجنائز في الجبال البعيدة ، وتكون الريح بكل أنوثتها الجارحة عذراء . غير ما مرة كان يقول لهابأن المرأة هي المكان، وأن المكان لا يكون حقيقيا إلا عندما يولد من نظرة أو صرخة، والذي يعلمنا حب مكان ما أو نسيانه، هو المرأة. - لقد أحببت أمكنة كثيرة ، وهجرت أمكنة كثيرة ، لكنني لم أحب غير امرأة واحدة ... - ألا زلت تحبها ؟ تسأله سليمة وهي تترشف ريقا عصيا يتجمد في حنجرتها كسفرجل فج. - لا أعرف !... - كل ما أعرفه ، أن بين الخطوة الأولى والله تنام امرأة غامضة . الطريق إلى الحب ، يجب أن تمر بالموت، الموت في كل مكان، وكذلك المرأة... ما أضيق هذه الجنة . - أية جنة ؟ - جحيم شفتيك . - أأنا حارقة إلى هذا الحد ؟ .......................................! كانت يده اليسرى تمسك بجبينه ، وكأنها تحاول وقف رأسه من السقوط، كان شبه مرتبك، وهو يرمي بنظراته الحادة إلى حائط الشرفة المقابل للمحيط، ويهمهم بقول أشياء غير مفهومة، عندما أشعل سيجارته، سألها: إن كانت قد أحبت رجلا في يوم ما، أخبرته بأنها لم تجرب ذلك أبدا، وبأن ذلك سيكون رائعا إذا ما صادفت أحدهم وأحبها بصدق.. ( 6 ) في كل مكان يوجد المكان باستمرار ، إنه كالموت لا يموت أبدا ، إننا نحبه كي نجدد هذا الثبات الدائم فيه من أجلنا ، من أجلنا فقط . فالأمكنة أيضا تحس بالعزلة كما تحس بالدفء والرغبة والخوف، ليس المهم إذن ذلك الذي يربطنا بالمكان، المهم أن نظل أقوياء، أوفياء جدا لقوة الصدق الذي يقودنا إلى الجنون. هذه الحقيقة وحدها ، إذا ما تحققت قد تعطي لوجودنا معنى سحريا بالمكان الذي يمنحنا إحساسا دائما بالاغتراب . أن تكون في كل مكان أن تمشي في كل الاتجاهات بلا رغبة، أن تركض هكذا بلا وعي، تلقائيا وعنيدا، كثورة مفاجئة لخيول تتأهب للانتحار، هكذا فقط تكون ثائرا وخائنا، بنفس الحماس الذي قد يجتاحك في رعونة الحب الأول، وأنت تتحدث في أحد الصباحات الشتوية بحماس مفجوع إلى امرأة مفجوعة ! يبدو أن لا شيء يربط البحر ، بمستقبل الموتى القادمين إلى هذا الضباب ، المدينة مغلقة على ذاتها ، وترفض كل ما لا تستطيع تذويبه ، مدينة قاتلة بدون شك ، لأنها على عكس خصوبتها تغتال التعدد اللانهائي للحب والمعنى . الضباب وحده على كل حال يحتفظ بوضوحه ،على عكس المرأة، والبحر، والانتخابات، و الثروات الهائلة التي يراكمها بعضهم هنا، من تجارة المخدرات، والمضاربات العقارية، والرشاوى، والتهريب، والصيد البحري. من أين تأتي النقود ؟ كان دائما يطرح هذا السؤال على نفسه بسذاجة ، ثم ينفجر ضاحكا – كما يقول – إلا أن يمشي في الطريق التي قد توصله إلى حل . على الأقل ليفك لغز النقود. إنها لا تأتي ، ولا تذهب . النقود مثل الألقاب و السلطة والسلالات تتوارث وتتناسل حتى تصير قوة مخيفة، ثم يكون لصاحبها وحده الحق في أن يكون شريفا و مواطنا، وأصيلا. لهذا السبب ليس صدفة أن يجتمع في بعض العائلات ، الشرف ، والثروة ، والسلطة ، والقداسة ... ( 7 ) إن الإحساس الذي قد تمنحه الطبيعة، بأن الإنسان كائن فارغ فعلا، كان يعني دائما البحث بعنف عن الآخر، ذلك الغامض الذي نبحث فيه عن الاعتراف، إنها ضرورات غير مطمئنة أبدا، لأنها تتمثل باستمرار وبصورة أحادية، كصور جنسية، لكن بشكل أكثر التباسا وخطورة. لقد باتت سليمة أكثر تمسكا به ، وهي تقترب منه أكثر ، لنيل حقها من الاعتراف ، الاعتراف بأنها جميلة ، ومتميزة ، ومثيرة ، إنها فعلا جميلة وقوية ، قوية لأنها جميلة ، الجمال هو القوة ، هو العنف الأكثر وسامة ضد الموت . إن هناك دائما أسطورة ما تقودنا إلى الموت، والجمال هو هذه الأسطورة، لذلك فهي أيضا تبحث عن أسطورتها، عن موتها في حياتها الجديدة، عن حياتها بعد موت بعيد. لم تعد كعادتها تطيق تصرفاته الخرقاء ، لقد ملت غموضه وأنانيته ، وبدأت تستعد مؤمنة بضرورة إطلاق النار نحوه ... من أنا بالنسبة إليك ؟ أريد حلا ؟ هل يمكن لهذه الصداقة أن تتحول حبا ؟ هل أعجبك، كما كانت تعجبك الشاعرة ... - هل تكرهني ؟ تسأل بنبرة باكية وهي تقترب منه أكثر .. - ولماذا أكرهك - إذا ماذا ؟ - أنت لا تستطيعي أن تنظري إلي أكثر من كوني رجلا . - وكيف أنظر إليك ؟ - كجرح .. أو كخرافة . - و أنا ؟ - أنت اليقين الذي لا يحتاج إلى تفاهتي لكي يكون . - لم لا تعترف بأنك تحب هذا اليقين، أو تحتقره ؟ ..................................! في مقهى " بدر" حيث كانا يجلسا هذه المرة، كانت مزهرية جميلة، موضوعة بعناية قرب لوحة " لبيكاسو"، كان يحدق فيها، وكأنه يشير إليها بالجواب، لكنها كانت مرتبكة و هائجة ولم تنتبه إلى اللوحة. هذه المرة لم تكن هي تضحك كعادتها ، ولم يدخن هو أيضا .. من النافذة، كان صوت البحر لا يزال هادرا.. هناك كان نورس ميت فوق حجرة ، وكان المكان وحيدا في مكانه .