المشهد الاول : باريس 2014 كانت قدماي تداعبان الاسفلت بخطوات مرحة وأنا أقطع شوارع عاصمة الحب والجمال باريس متجهة صوب كنيسة نوتردام، أشهر كنائس أوربا على الاطلاق. اعجبت بفخامة البنيان قبل أن ألج إليه وأنا أردد في نفسي ( ما أتعس من صدق بألوهية المسيح وقتل الاله على الصليب وأباح لنفسه شرب الخمر والنبيد وألغى عقله فآمن بالتثليث). كانت الكنيسة مكتظة بزوار قدموا من كل حدب وصوب، لا تسمع لهم حسيسا، يتحركون من غرفة لأخرى كأرواح لطيفة سحرها الإعجاب والانبهار بهذا السكون العجيب الذي يفوح من المكان. تشعر هنا أنك خارج الزمن ... مجرد كتلة تتحرك ببطيء في عالم لا نهائي ... وحدها الجدران العالية المحيطة بك تذكرك بالمكان... خيوط من الشمس تتسلل عبر فجوات تلقي بضوئها على وجوه الزائرين .. تماثيل القديسين وصور المسيح ومريم العدراء ... شموع وخزانات زجاجية مملوءة ببعض التحف والمجسمات ... وصلوات يؤديها قلة من الزوار في سكينة وهدوء. تكرر المشهد نفسه في كنيسة اخرى بمدينة (رين) الفرنسية، هذه المرة لم يكن هناك سائحون، كانت تفتح أبوابها للراغبين في الصلاة ... للراغبين في التواصل والالتحام مع السماء... فالمسيح المخلص كان بوجهه الصامت الحزين ينظر الى حفنة من الزائرين ممن قادهم اليقين ودفعهم صوت الضمير إلى الجلوس بين يدي إلههم المسيح بحثا عن سعادة وطمأنينة فشلت الحضارة المادية ببريقها وجاذبيتها أن تمنحهم قسطا منها. فضاء يسحرك بسكونه ... شموع وأضواء خافتة... أصوات هامسة ... كراسي مصطفة ... جدران و أرضية نظيفة ... جمال وجلال لا يشوهه إلا تلك الصور والتماثيل التي تذكرك بمن وصفوا الله بما لا يليق به ، تعالى الله علوا كبيرا أن يكون له صاحبة أو ولد.
المشهد الثاني: الرباط –شهر رمضان- ليالي رمضان لا تشبه كل الليال .. تشعر بانتعاشة غريبة تسري في جسدك ... تحس بطاقة كونية تتسلل إلى كل البيوت والأزقة .. وكأن للسماء عيون ترقب السالكين دروب التوبة، تغدق عليهم حبا لم يتذوقه العاشقون ووجدا لم يرقى اليه العارفون . اقطع الطريق متجهة نحو المسجد مع والدتي، امشي بخطوات سريعة لأجد لي موطئ قدم في بيت من بيوت الله . جموع المتسولين تملئ أبوابه، يستدرون عطف المصلين بدعوات فقدت دفئها من كثرة التكرار .. نساء وأطفال ورجال من كل الاعمار .. تتساءل وأنت تنظر إلى وجوههم كيف يقفون على باب الرزاق يسألون غيره .. يبعثرون كرامتهم على باب الكريم لا تحرك قلوبهم صلوات تقام ولا دعوات تقال . تدخل الى جناح النساء، فيصدمك هذا الكم الهائل من الكراسي التي حجزت بها بعض النساء أماكنهن داخل المسجد، وهن يقبعن في بيوتهن حتى يحلو لهن المجيء... حتى في بيوت الله تبدو الصورة قاتمة وهي تذكرك بمجتمع يعاني من عدم تكافؤ الفرص ... مجتمع تغلغلت فيه الفوضى والغوغائية فطغى فيه الشكل على المضمون والمصلحة الخاصة على العامة. تبحث عن مكان مناسب لا يغري بالجلوس فيه، وأنت تحلم بلحظات من القرب والصفاء الروحي.. ما بين الركوع والسجود والتسبيح وقراءة القران تمزق ادناك جلبة وأصوات ... نساء يتبادلن التحية والسلام وأخبار الطقس والصحة والأقارب والجيران ... اطفال يقفزون ويلعبون .. بعضهم يصرخ والبعض يتأوه مستعدا لنومة عميقة والأمهات ما بين عتاب وتهديد ووعيد .. لا تشعر إلا بضربة في الرأس أو الكتفين... امرأة تبحث لها عن مكان متخطية الصفوف، غير آبهة بما تحدثه من خسائر في الابدان والنفوس. يرتفع الادان، فيبدأ الهجوم، وكأن سفارة الانطلاق اعطيت لبدء فصل آخر من فصول (التعبد المؤلم).. الذي سرق منا كل ما هو جميل سرق منا آدابا رفيعة جاهد الرسول صلى الله عليه وسلم ليرسخها في امة وصفت بالخيرية والوسطية وهو القائل (انما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق)، فصارت مساجدنا صورة مصغرة لمجتمع تحكمه العبثية والانانية واللامبالاة. عبثا تحاول نصحهن وإرشادهن إلى التحلي بآداب المساجد، فالغالبية يرفعن في وجهك عيونا متسائلة وهن يرددن نفس الجملة (تزاحموا تراحموا) وكأنها آية من كتاب الله او حديث نبوي شريف ... تحاول أن تشرح لهن أن تراص الصفوف وتسويتها دليل على الانضباط والنظام الذي يجب أن يطبع حياتنا داخل وخارج المسجد، وأن الزحام لا منطق له ولا رحمة فيه....لكن لا حياة لمن تنادي. يسحق الزحام أعضاءك فلا تدري حتى أين ستضع يداك، فلم يعد لها مكان لا فوق الصدر ولا تحت السرة. تنشغل بوضعية قدميك... تفكر أثناء قراءة الامام أين ستضع جبهتك وانفك وكفيك. تزكم انفك رائحة الجوارب ... تسمع قرقرة الحساء الثقيل في معدتك وأمعائك وأنت تسال الله تعالى أن تتم صلواتك على خير ... تحاول جاهدا أن تركز بخشوع في قراءة الامام لتفوز بأجر (الدين هم في صلاتهم خاشعون)...عبثا تحاول ... فكل ما حولك يدفعك إلى أن تردد في داخلك بصوت منخفض (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)... جملة رددها الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يواجه شرذمة من الصبيان والجهال الدين قذفوه بالحجارة وهو على مخارج مدينة الطائف فادموا قدماه الشريفتان، لا لذنب سوى انه دعاهم للخير ووجههم لما يصلح قلوبهم وعقولهم وحياتهم. حينما يسلم الامام تشعر بارتياح بطعم الذنب، تسأل الله المغفرة بقلب مشتاق إلى لحظة صفاء لم تجدها داخل بيته ... تخرج حزينا لتستقبلك جماهير المتسولين ... تتمنى لو كانت لك اجنحة تطير بها الى مكان مقفر يسكنه الطير والوحش، علك تجد حقولا مليئة بسنابل الخير وظلمة ترى فيها وجه القمر، تسجد فوق تراب بلله المطر وتمد يدك إلى السماء، ترتل بصوت المشتاق إلى اله يغمرك بالحنان، يستقبلك خارج المآذن والأسوار.