بالنظر إلى التطورات والأحداث التي عاشها حزب العدالة والتنمية منذ سنة 2017 (بالضبط مرحلة البلوكاج)، إلى اليوم، نجد أنه قد أصبح في أمس الحاجة إلى وقفة تأملية مع الذات، لمراجعة أوراقه ومعالجة الأعطاب، بدءا بالاستماع إلى مختلف الأصوات التي أصبحت تصدر من داخله وخاصة تلك التي تطالب بتصحيح المسار والتفكير الجدي في صياغة أطروحة جديدة بخطاب جديد يواكب المتغيرات التي يعرفها المجتمع المغربي والمحيط الإقليمي والعالمي. ليس تجنيا على "البيجيدي" القول إن عطب عقله النظري قد أصبح جليا، وفي حاجة ماسة إلى الصيانة والمعالجة، سواء على مستوى تمثل القيم المرجعية في العمل السياسي أو على مستوى تجديد الخطاب المتعلق بالدفاع عن قضايا الهوية، أو على مستوى حشد الدعم لفكرته الإصلاحية (على الأقل كما جاء في أطروحة النضال الديموقراطي)، وتجسير الفجوة مع القوى الحية الأخرى من يسار وليبراليين (وقد حاول بن كيران القيام بمجهود في هذا الإطار، سواء من خلال التحالف الاستراتيجي مع حزب التقدم والاشتراكية، أو من خلال محاولة ترشيح شخصيات يسارية باسم حزب المصباح خلال استحقاقات 2016 البرلمانية، وكذا محاولة نسج علاقات ودية مع مختلف الفعاليات والشخصيات الحاملة للهم الديمقراطي، لكن أثر العملية كان ضعيفا). كما أن قيادة الحزب التاريخية أبانت عن محدودية كبيرة في التواصل ومصالحة المواطن مع السياسة على مدى عقد كامل من التدبير الحكومي لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية.
لقد عكست طريقة تدبير الحزب "الإسلامي" للكثير من الملفات، وأيضا التصريحات الطائشة لبعض قياداته في قضايا حساسة بالنسبة إلى قاعدته الانتخابية مثل موضوع "التطبيع"، إلى حد كبير الفقر النظري والخصاص الفكري الموجود وضعف التملك الجماعي للفكرة الديمقراطية، الذي كان سببا من الأسباب التي أدت إلى أزمة "البلوكاج" التي أعقبت انتخابات 7 أكتوبر 2016.
أما في ما يخص الجواب الذي قدمه الحوار الداخلي للحزب سنة 2018، فإنه لم يكن كافيا، وقدم بعض المسكنات التي لم تنفع إلا في معالجة بعض الأعراض، ولكنها لم تنجح في إخفاء المرض الذي يسكن جسد الحزب. خصوصا وأن الحوار لم ينجح حينها في جذب أحد أهم العناصر الفاعلة في صناعة أحداث تلك المرحلة، ألا وهو بن كيران. ناهيك عن سقطة انتخابات الثامن من شتنبر 2021 المدوية، التي قسمت ظهر الحزب وأدخلته في داومة من التيه والحيرة على الرغم من عودة زعيمه التاريخي إلى قمرة قيادة الحزب عبر بوابة الأمانة العامة. لكن يبدو أن اعتماد القائد القديم الجديد خطابَ البدايات الممهور بهواجس التأسيس، خلال المرحلة الحالية، لم ينجح في تقديم الإجابات الكافية لاستعادة المبادرة ومن ثمة كسب ثقة جزء غير يسير من المناضلين والمتعاطفين الذين فضلوا التواري والركون إلى الخلف على غرار قيادات الحزب التاريخية.
كما أنه في الوقت الذي توقف فيه العقل النظري للحزب عن إبداع أفكار وأطروحات تنعش الخيال السياسي للناس وتساهم في خلق حاضنة شعبية لمشروعه النضالي، يلاحَظ انتعاش المواقف ذات الطابع التبريري والتنظيرات المؤسسة لأطروحة "ليس في الإمكان أبدع مما كان"، والتأسيس لمدرسة براغماتية جديدة ستساهم في تغذية النزعات الانتهازية المغلفة بالطموح الشخصي، والتي لا يخلو منها أي تنظيم سياسي. علما أن الطموحات الشخصية لا تتناقض بالضرورة مع صدقية الإيمان بالمبادئ والأفكار، لكن ما يضعف صلابة الموقف القيمي عند المناضل السياسي هو تداخل هذا الموقف مع الطموح الشخصي، الذي كثيرا ما يؤثر بشكل سلبي في عملية إنتاج المواقف، التي تصبح خاضعة للحسابات الذاتية ومنطق "الآلة الحاسبة"، حيث يصبح المكسب الخاص مستأثرا بالمركز الأول في قائمة هموم واهتمامات بعض السياسيين، على حساب قلق الأفكار والانتصار للمبادئ.
إن حزب العدالة والتنمية والذي دبر مرحلة هامة من تاريخ الحكومة المغربية باعتباره حزبا من ضمن الأحزاب الوطنية المفترض فيها خدمة المغرب أكثر من أي وقت مضى لمواجهة مختلف التحديات المقبلة، في حاجة اليوم لثورة فكرية تفكر في سؤال المستقبل: مستقبل المغرب، مستقبل الحزب في إطار مواقفه من قضايا ومصالح الدولة من جهة وقضايا الأمة من جهة أخرى.. في حاجة إلى التجديد الفكري والسياسي والتحرر من الوصاية التي لم تكن في يوم من الأيام في وئام مع التجديد والاجتهاد والتطور… هذا إن أراد أن يكون له موطئ قدم في الخارطة السياسية وأثرُ في الدولة والمجتمع، في عالم يعيش على وقع تطورات متسارعة ولا يسعه انتظار أحد.