أدعو فقهاء القانون في المغرب إلى إدراج جريمة جديدة في قانون العقوبات، واقتراح عقوبة ملائمة لها، وهي جريمة الإضرار بصورة الوطن، فكثير من المواقف والتصريحات والأخطاء المهنية والهفوات التدبيرية التي يقوم بها البعض، تنتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي لتصل إلى قنوات إخبارية دولية وعربية، فيصبح بلدنا مادة خبرية، تستغل للسخرية والانتقاد والتفكه.
ما رأيكم في عنوان "ليلة الهروب الكبير" الذي عنونت به الحرة تغطيتها لأحداث الفنيدق؟ وهي بالمناسبة شبكة إخبارية يمولها الكونغرس الأميركي.
كيف نستطيع تصحيح صورة البلد الذي يطرد أبناءه في وعي الدول الأخرى التي شاهدت المناوشات والمطاردات التي تمت بين رجال الأمن وأفواج الشباب والقاصرين؟ هل وضعت الحكومة خطة إعلامية لمواجهة ذلك وتصحيحه؟ وهل استبقت ذلك بتوجيه خطاب تحسيسي متقن للشباب وأسرهم كان على الأقل لينقص عدد القادمين إلى الفنيدق؟
حينما كنت في أحد مقاهي سوق واقف في مدينة الدوحة شهر فبراير الماضي رفقة صديق عزيز، أعجبت بمشهد جديد لم آلفه في قطر، وهو أفواج من السياح الغربيين، يتبعون المرشدين السياحيين الذي يزودونهم بمعلومات وتفاصيل عن المكان، كان ذلك المشهد جديدا علي، فليس من عادتي أن أصادف سياحا بذلك العدد والإقبال في قطر.. وأسعدني ذلك كثيرا، لأن القطريين اشتغلوا بذكاء وجهد على تنظيم المونديال، كما ابتكروا مفهوم الإرث، ومعناه ببساطة هو تحويل تجربة المونديال إلى فرصة لتوليد وتحفيز التنمية ما بعد انقضاء المونديال، وهكذا نجح الحدث في إطلاق حيوية اقتصادية وتحفيز مجال واعد في الاقتصاد القطري وهو قطاع السياحة…
فهل نحن مستعدون إعلاميا لتنظيم المونديال؟ الإجابة ليست بالبساطة التي تبدو عليها، فالورش الإعلامي المواكب للمونديال ينبغي أن يشتغل على أربع جبهات على الأقل:
1- أبسطها جبهة تغطية المباريات بكل ما يقتضيه الأمر من جودة فنية وتقنية في التغطية والبث، ومن محللين حقيقيين يتحدثون عن علم وتجربة، ومن استخدام أحدث التقنيات والتجهيزات والإبداعات الإخراجية.
2- جبهة تسويق صورة إيجابية عن المغرب ككل، باعتباره بلدا جديرا بالاحترام والإعجاب، وهي صورة مركبة من نظام سياسي يقبل التعددية ويتيح هامشا كبيرا للحريات ويحقق الاستقرار، ومن ثقافة غنية ومتنوعة جديرة بالإعجاب، ومن دولة قوية ومتحضرة نجحت في تقديم تنظيم ناجح للمونديال وهو تحد كبير أمام سقف الإتقان الذي رفعته قطر كثيرا، ومن شعب راق ومضياف ومنظم وهذا ورش آخر وتحدٍّ كبير ينبغي الاشتغال عليه.
3- جبهة إشراك المغاربة في تحدي إنجاح تنظيم المونديال، فمشاهد المتسولين الذين يحاصرون إشارات المرور والمطاعم وغيرها من التجمعات ستكون مسيئة جدا لصورة البلد، أضف إليها أكوام النفايات التي تتجمع عشوائيا في كل مكان، وروائح البول (أعزكم الله) التي تزكم الأنوف أمام كل جدار أبيض مررت بجانبه، وبعض السلوكات الاستغلالية التي تنشط كلما تعلق الأمر بسائح أجنبي، والكلام البذيء الذي أدمنه الشباب والفتيان، والعبث بالمرافق العمومية وإتلاف تجهيزاتها، والعديد من المظاهر السلبية التي تسيء إلى صورة المغرب والمغاربة…
نحتاج إلى تسويق الوعي بأهمية محطة المونديال وما يمكنها أن تقدمه للمغرب والمغاربة من عائدات اقتصادية مهمة ومن فرص عمل ومن حيوية تنموية ما بعد المونديال.. ينبغي أن يشكل الحدث فرصة حقيقية لحملة إعلامية تقوي الإحساس بالانتماء الوطني، وترتقي بالوعي الاجتماعي، وتشرك الجميع، وتوزع مسؤولية إنجاح الحدث على المسؤولين وعلى المواطنين أيضا…
ينبغي أن يعي المواطنون أدوارهم، ويقدروا أهمية المحطة التي سنقبل عليها وحجم التحدي الذي سنواجهه، وما يمكن أن نكسبه جميعا، أفرادا ودولة، لو نجح الحدث بالشكل المطلوب.. لو نجح ذلك، سنربح إلى جانب تنظيم ناجح، شعبا ارتفع مستوى وعيه ووطنيته.
4- جبهة التسويق المحلي، أو بالأحرى جبهات التسويق المحلي الإيجابي، لصور المدن التي ستستضيف المباريات، ولثقافات المغرب المتعددة، ولمطبخه الغني، ولعاداته وتقاليده، ولمؤهلاته الطبيعية والسياحية المحلية، ولا أقصد المعالم الشهيرة ولا الفنادق المصنفة، بل المزارات الطبيعة بالهوامش المحيطة بالمدن الكبرى، ودور الضيافة القروية التي يمكنها الاستفادة من الحدث إن أحسنا التخطيط.. وهي فرصة أيضا لتسويق عدالة موقف المغرب من قضاياه الأساسية وتمسكه بصحرائه بأسلوب ذكي وليس بتسييس فج ممنوع في مثل هذه الملتقيات الرياضية.
فهل تمتلك الدولة استراتيجية إعلامية واضحة لإنجاح الأوراش سالفة الذكر؟ وهل يمتلك الإعلام الوطني استراتيجية محددة وموارد كافية لإنجاح هذا الاستحقاق؟ وهل المديريات الجهوية والإقليمية للسياحة والثقافة والجماعات الحضرية والقروية مستعدة لإنجاح هذا الورش؟ أم أن أقوى نجاحاتها التواصلية هو موقع إلكتروني جامد وحساب على منصة التواصل الاجتماعي مهمتهما عرض صور المسؤول حيثما حل وارتحل؟ وهل الجامعة الملكية لكرة القدم مستعدة للإبداع والانفتاح على مؤسسات غير تقليدية وإشراكها في إنجاح هذا الاستحقاق الكبير؟
لا أخفيكم تشاؤمي، إذ ما من مؤشرات جديدة تلوح في الأفق نستشف من خلالها تغير عقلية المؤسسة ووعيها بأهمية المجال الإعلامي والتواصلي… وهذه بعض المؤشرات السلبية:
في ثالث أيام الشهر، أوقفت سيارتي أمام بيت الوالد، فلمحت شابا يطرق باب الجيران ويحمل في يديه لوحا رقميا، فعرفت أنه مكلف بالإحصاء.. فتحت الباب ودخلت، لتخبرني والدتي أنها لم تستطع فتح الباب أو الحديث إلى المكلف بالإحصاء، لأن القيم التي نشأت عليها تمنعها من الحديث إلى رجل غريب في غياب زوجها..
حينما غادرت البيت، كان الشاب مازال واقفا في مكانه، توقعت أن يستغل الفرصة ويبادرني بالحديث، لكنه لم يفعل… عرفت حينها أن المندوبية السامية للتخطيط مثلها مثل معظم المؤسسات العمومية في المغرب، ما زالت تتعامل مع الجانب التواصلي بشكل تقليدي للغاية… فعادة ما يتم إسناد الحملة التواصلية إلى موظف في المؤسسة أو جهة خارجية كعملية لاحقة على البرنامج أو التدخل المؤسسي، في حين ينبغي أن يكون التواصل جزءا أساسيا من المشروع نفسه…
في المدن الصغرى والبوادي، تحتم الأعراف والتقاليد على الزوجة عدم الحديث إلى أي رجل غريب في غياب زوجها، وهذه مسألة معروفة، وكان ينبغي توقعها، باعتبارها من معيقات نجاح الإحصاء.. وكان ينبغي استباقها بوصلات إعلامية في التسويق الاجتماعي، يتم الاستعانة فيها بوجوه فنية تحظى بمحبة وتقدير المغاربة، وكانت الممثلة القديرة فضيلة بنموسى مثلا لتكون مناسبة جدا، تخاطب الأسر المغربية بالقيم التي تؤمن بها وباللغة الحقيقية التي تتحدث بها، وتوضح لهم أن الإحصاء استحقاق وطني مهم، وأن المكلف به هو في مقام الابن أو الأخ، ولا بأس من الإجابة عن أسئلته ولو عبر النافذة أو من وراء الباب، ومشاهدة الأسرة لهذه الوصلة الإعلامية كانت ستسمح لها بمناقشة المسألة والاستعداد لها.
وكان من المفروض إعداد خطة تسبق التمثلات السلبية أو العادات الثقافية التي قد تشكل عائقا أمام إنجاح الإحصاء، ثم تصميم حملة للتسويق الاجتماعي تنطلق في شهر غشت، وتجهز المغاربة لتقبل عملية الإحصاء والتفاعل معها بشكل إيجابي. وهناك فرق كبير بين ما يبث من وصلات "تحسيسية" وبين حملات تسويق اجتماعي مدروسة، فالأولى تبث وصلات متفرقة دون استراتيجية كلية، بمنطق الإشهار التجاري ودون دراسة حقيقة للجمهور المستهدف ولا لدوافع الممانعة عنده، بينما حملات التسويق الاجتماعي تقوم على استراتيجية واضحة ودراسة للجمهور بمختلف فئاته وعقلياته وطرق تفكيره، وتهدف في النهاية إلى تعديل السلوك المجتمعي.
ولهذا انتقد الكثير من رواد مواقع التواصل الاجتماعي بعض الوصلات التي تبدو حالمة وغير واقعية ومثالية أكثر من اللازم توزع فيها الابتسامات والسعادة بشكل مفرط وكأن الأمر يتعلق باستقبال جائزة وليس المكلف بالإحصاء.
فمن التمثلات السلبية التي ستعيق عملية الإحصاء، التخوف من الإفصاح عن الممتلكات مثلا، أمام أسئلة عن وسيلة التنقل للذهاب للعمل، وعدد غرف المنزل مثلا… أما بعض سكان العمارات الراقية فيتعاملون مع موظفي الإحصاء بنفس طريقة تعاملهم مع الباعة المتجولين، بقدر كبير من التعالي أو التجاهل وعدم الرد عليهم أو حتى نهرهم بطريقة فظة!
أما العاملون في الإحصاء، فتركوا لوحدهم في مواجهة سوء أخلاق بعض المواطنين، وجهل بعضهم، وتخوفات آخرين، دون أن يزودوا بتدريب متخصص في التواصل، يعينهم على مواجهة ما سيواجهونه من مواقف وردود أفعال بعضها مهين لهم ويحط من كرامتهم رغم أنهم يمثلون الدولة في مهمة رسمية، لكن تدريبهم انحصر فقط في فهم الاستمارة وكيفية التعامل معها… وأنا شخصيا أعتبرهم ضحايا لسوء تقدير القائمين على الإحصاء لأهمية التواصل والعلاقات العامة، بحيث يدفعون لوحدهم ثمن غياب تدريب عن التواصل، وثمن غياب حملة تسويق اجتماعي تمهد للإحصاء وتهيئ المواطنين لاستقباله.
وإذا كانت تصريحات بعض مسؤولي الحزب الحاكم عن جامعته الشبابية قد صيغت بعناية، فإن الفيديو المسرب لرقص مسؤوليه على أنغام أغنية "مهبول أنا" أكثر مصداقية من أي تصريح سياسي.. وما روجه الفيديو من صورة سلبية عن الحزب وشبيبته، يفوق تأثيره كل الحملة الإعلامية التي قام بها الحزب لتغطية الجامعة، حيث سينسى الجمهور كل التصريحات الرصينة، وسيتذكر فقط أن مسؤولي الحزب وشبيبته فضلوا الرقص على أغنية تفتقر إلى الرصانة عوض قراءة الفاتحة على ضحايا الفيضانات الأخيرة.
أمام الضعف الإعلامي المواكب لعملية الإحصاء، والفضائح الإعلامية المتجددة لبعض الوزراء والبرلمانيين، وضعف أداء مسؤولي التواصل في دواوين الوزراء والمسؤولين والمؤسسات العمومية، وغياب استراتيجيات علمية للعلاقات العامة عند مؤسسات الدولة وعند الأحزاب الكبرى…
أستبعد أن يكون المغرب مستعدا إعلاميا وتواصليا لتنظيم كأس العالم.. أتمنى أن أكون مخطئا أو حتى "مهبول أنا"… لكن الوقت قد حان لبدء العمل وتدارك الأمر!