غادرت العيادة الطبية في تمام الثانية بعد الزوال رفقة إبني، وكان يتعين علي اصطحابه إلى مدرسته ليتابع حصصه المسائية بعد إجراء فحصه الطبي.. لكنني بمجرد انطلاقي بالسيارة، لاحظت أن الأجواء غير اعتيادية، حيث كان الجميع يسوق بتهور من أجل الظفر بمقعد شاغر في إحدى المقاهي لمشاهدة مباراة المنتخب الوطني، لذا كانت النتيجة أن السياقة ذلك المساء كانت ضربا من المغامرة، الجميع يسرع ويتسابق في المدارات، وتجاوزات عن اليمين وعن الشمال، مما يضع أي سائق في وضع خطر وتحت توتر شديد.. هذا الوضع الغريب دفعني إلى التساؤل: هل يمكن أن تكون وطنيا وتكره المواطنين في الوقت نفسه؟ وهذا التساؤل يحاول كشف تناقض غريب: كيف يعكس تسابق المواطنين نحو المقاهي شعورا وطنيا وحرصا على متابعة مباريات المنتخب، وفي نفس الوقت تجد ذلك المواطن لا يخجل من أن يؤذي مواطنا آخرا ويمارس عليه كل أشكال العنف الرمزي والمادي، ويعتدي على حقه في الأسبقية، وهو في طريقه "ليمارس" وطنيته؟ هل تجتمع الوطنية بما تعكسه من حب مع إذاية المواطنين بما تعبر عنه من كراهية في قلب رجل واحد؟ أم أن هناك خللا حقيقيا في الطريقة التي نفهم بها الوطنية؟ وتذكروا معي ماذا تفعل بعض الجماهير الرياضية "الوطنية" الغاضبة وحتى السعيدة بعد مغادرة الملعب! والسؤال الحقيقي، هو: كيف يتم تدبير ملف الوطنية من قبل مؤسسات الدولة؟ وما هو مفهوم الوطنية الذي يتم تسويقه؟ وهل هناك استراتيجية واضحة لتدبير هذ الطاقة الوطنية الرياضية لدى الشباب؟ لكن بالعودة إلى سياق المونديال، تتناسل الأسئلة وتتضاعف؛ بل وتفرض أسئلة أخرى نفسها: ما دلالات تفوق النسخة القطرية وتميزها؟ كيف نقرأ إنجاز المنتخب المغربي؟ ما هي الرسائل المبثوثة؟ وأهم سؤال على الإطلاق هو: ماذا بعد المونديال؟ وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة، دعوني أعترف لكم بداية أنني قاومت طويلا لألتزم بقرار عدم الكتابة عن المونديال، لولا أن مشاعري وسعادتي غلبتا عقلي هذه المرة. ويعود اختياري السابق لعدم الكتابة عن المونديال لسببين اثنين: أولهما أن ما يكتب عن المونديال هو في الغالب يرتبط بأمثلة ووقائع ظهرت مع المونديال، لكنها تعبر عن قضايا أكبر توجد قبل المونديال وستبقى بعده، لذا ينبغي التمييز بين التفاعل الظرفي العاطفي مع الأحداث، والاهتمام العلمي الدائم بالقضايا التي تمثل تلك الأحداث إحدى التعبيرات الممكنة عنها؛ وثانيهما، هو "الازدحام" الكبير في الحديث عن المونديال؛ وأنا من عشاق الهدوء، ولا أحب التزاحم على أي شيء حتى ولو كان مكسبا أو مغنما، ومن سلبياته أنه ينتج إشباعا وعزوفا عند المتلقي في وقت وجيز، فيتوقف عن التفاعل المطلوب، لكثرة ما يحيط به من تدوينات على مواقع التواصل الاجتماعي ومقالات صحافية وتقارير إعلامية تعالج جميعها نفس الموضوع. في رأيي هناك حدثان أساسيان يستحقان الاهتمام وقراءة الرسائل المتضمنة، وهما الإنجاز المتميز للمنتخب المغربي، وتميز قطر في تنظيم مونديال كأس العالم 2022… فماهي الرسائل التي نستطيع قراءتها؟ * تأهل المغرب هو انتصار يفتح باب الممكن على مصراعيه؛ ويمنح طاقة إيجابية لكسر العديد من "المطلقات" المحبطة في مجالات حيوية كانت التألق فيها دوما حكرا على الشعوب الغربية؛ فهناك كثير من المستحيلات التي تغلغلت حتى سكنت وعي الشعوب ولاوعيها؛ وأصبحت الهزيمة الرياضية والعلمية والاقتصادية والحضارية قدرا لا فكاك منه؛ لهذا فتأهل المغرب ليس مجرد انتصار في لعبة كرة القدم، بل هو انتصار رمزي للشعوب الإفريقية والعربية والإسلامية، وهي جميعها معنية بولوج باب الممكنات الذي انفتح، وهو باب شاسع يرحب بعبور كل من خطط واجتهد وبذل مجهودا؛ * تأهل المغرب، ليس انتصارا معزولا، وليد الصدفة والحظ.. فالمهتمون بالرياضية (وأنا مع الأسف ثقافتي فيها محدودة) يعرفون التغييرات الجذرية التي حدثت وجهود المدرب الوطني وتضحيات اللاعبين. لكن ما ينبغي الانتباه إليه هو أن هذا الانتصار هو محطة واحدة في سلسلة انتصارات متوالية يقودها المغرب، أمثل لها بإدارته الناجحة لفترة انتشار الوباء والحجر الصحي، حيث توافرت المواد الأساسية بشكل عادي وبأثمنتها المناسبة، وحيث تم توفير اللقاح مجانا بل وأصبح المواطن مدللا وهو يرفض أخذ اللقاح ويحتاج إلى من يقنعه بجدواه، ومن كانت هذه الأمور تبدو له عادية فليبحث عن تجارب دول متقدمة في إدارة الأزمة لعله يفهم الفارق.. أضف إلى كل ما سبق الأهداف الثمينة جدا التي سجلها المغرب بشكل هادئ في مجالات استراتيجية من أبرزها السياسة الخارجية وقوة تموقع المغرب إقليميا ودوليا؛ * كشفت أجواء المونديال عن روح وطنية هائلة، حتى أنني فوجئت شخصيا بقوة التعبيرات الاجتماعية التي تعكسها، لكن مع الأسف يتم استثمارها حاليا وبشكل حصري من قِبل الشركات الإشهارية، وكنت أتمنى أن يوجد مخطط قبلي من مؤسسات الدولة لاستثمارها بشكل جيد، وإلا ستكون طاقة وطنية مهدورة تُستنفذ في توتر متابعة المباريات وفي أجواء الاحتفالات. وبكل صدق نحن أمام طاقة وطنية مهدورة، يعز علي أن يتم تفريغها فقط في مظاهر الاحتفال، وحمل الأعلام الوطنية… ثم يعود كل واحد منها بعد انتهاء المونديال إلى حياته العادية، ويستمتع حينها بممارسة أنانيته الفردية، ويمارس حصته اليومية من الفساد والتي تختلف باختلاف الموقع الاجتماعي: حيث يأخذ الفساد مظاهر اجتماعية عديدة ومتدرجة، من استغلال معرفتك بحارس الأمن لتجاوز الصف وعدم احترام دورك، وصولا إلى الفساد الانتخابي وصفقات بعض كبار المسؤولين المشبوهة التي تهدر ميزانية الدولة.. إن الشعور الوطني الفطري عند المغاربة هو محبة أصيلة تجد جذورها في التاريخ المغربي العميق، تاريخ الوطنية والمقاومة والكرامة. وهو أيضا شعور يَبني ويُنجز، وهو طاقة تمتلك القدرة على إحداث تغيير إيجابي وفعلي على أرض الواقع إن أحسنَّا توجيهه وتنظيمه. والبداية تكون بإعداد استراتيجية واضحة عند الدولة، تبدأ بإعادة تعريف الوطنية وتصويبه، حتى لا تبقى الوطنية محصورة في التحاف العلم الوطني في سهرة ماجنة، وحتى لا تكون الوطنية حبا سطحيا للوطن يصطحب معه إيذاء المواطنين وأشكالا من العنف التي تتلو المباريات مثلا… نحتاج إلى تسويق مفهوم صحيح للوطنية، باعتبارها شعورا هادئا ودائما، وقيمة أصيلة تنتج فرحة أثناء مباراة، لكنها توجه سلوكنا قبل تلك المباراة وبعدها… نحن نعلم جميعا أن من بين الجالسين في المقاهي والمشجعين للمنتخب الوطني، موظفين كسالى، وسياسيين فاسدين، ومقاولين جشعين، ومواطنين مساكين يحسبون أن حب الوطن يتحقق فقط في حماس الرياضة! والخطوة الثانية هي باستثمار هذه الوصفة الناجحة التي أهداها لنا المونديال: اِمزج الشعور الوطني، مع روح تنافسية وقتالية؛ فتحصل على طاقة هائلة تفعل الأعاجيب. وهذا يقودني إلى الحديث عن ضرورة امتلاك تواصل احترافي عند مؤسسات الدولة، ومع الأسف اختياراتنا الفرنكوفونية لا تخدمنا جيدا في هذه النقطة مقابل تفوق التجربة الأنجلوسكسونية في مجالات الإعلام والتواصل، والتي أدعو مؤسساتنا العمومية إلى الاستفادة منها. * يا لها من طاقة إيجابية هائلة عند الشباب، حتى عند أولئك المحسوبين على البطالة والعنف والبذاءة من ضحايا الفقر وغياب المؤهلات، أولئك الذين يواظبون على الاستماع إلى أغانٍ تمجد المخدرات وتشجع على الهجرة غير الشرعية وتنتقد "الحكرة" وتشكك في مؤسسات الدولة؛ لكنهم في المقابل يفرحون بانتصار المنتخب المغربي بشكل هستيري ويتابعون النشيد الوطني بقلوب مرهفة؛ هؤلاء ضحايا لساحة التواصل التي غابت عنها المؤسسات السياسية والبحثية وتركتها لنوع خاص من المرتزقين من بعض "المدونين والمؤثرين والفنانين" الذين ينشرون التفاهة والعدمية والإحباط عند شبابنا ويهدمون عندهم حس الانتماء إلى هذا الوطن يوما بيوم.. إننا فقط لا نمتلك اللغة الملائمة لمخاطبة شبابنا، وقبلها لا نمتلك الإرادة والرؤية السياسية للتعاون معهم والتواصل معهم؛ فنحولهم بذلك إلى عبء على الوطن! * وبالحديث عن لغة الخطاب، أستحضر مشاهد الآباء والأمهات المغاربة بجلابيبهم المغربية التقليدية ومظاهرهم البسيطة، التي لم تثر حاليا أي تنمر ولا شعور بالنقص، منذ أن درسنا في التعليم الابتدائي الفرق بين الفلاحة العصرية الناجحة والفلاحة التقليدية الفاشلة، ونحن نكبر ويترسخ في وعينا انبهار بالعصري وخجل من التقليدي، في سوء تدبير -مع الأسف- لملف تقاليدينا الأصيلة بقيمها التي لا تتعارض إطلاقا مع القيم الإنسانية وأسباب التفوق الاقتصادي والعلمي والاستراتيجي… إن الذي منح اليوم المشروعية بل والتتويج لصورة الأم التقليدية والأب التقليدي، والسلوك التقليدي الأصيل بتقبيل يد أو رأس الأب والأم (وليس المشهد التمثيلي للانحناء على قدم الأم كما يروجه أحد البرامج التلفزيونية) هو ارتباط تلك المشاهد بالإنجاز والفاعلية، حيث ظهر للجميع أن تقاليدنا العائلية هي تقاليد منتجة للنجاح والتميز وليست أبدا مصدرا للخجل؛ وبالإضافة إلى الحيوية التي أضفاها سلوك اللاعبين المغاربة على قيمة البر بالوالدين، فإن ما أهداه المدرب وليلد الركراكي لقيمة "النية" من زخم وإعادة إحياء وتسويق إيجابي لم تستطعه كتب ولا دراسات ولا مؤتمرات تهتم بموضوع القيم وتحاول ترسيخها في المجتمع، وليس المقصود هنا التبخيس من أهمية الدراسات والجهود المهتمة بالموضوع (وأنا أحد المشتغلين بها)، وإنما لفت الانتباه إلى ضرورة التجديد والإبداع في الخطاب والوسائل والاستراتيجيات؛ فالنية باعتبارها قيمة دينية وثقافية في المغرب وفي دول أخرى، كانت حبيسة العادي المستهلَك، حتى تمت إعادة تسويقها بشكل ناجح من خلال استخدامها بشكل جديد مع مدرب المنتخب الوطني الذي أحييه على احترامه وتقديره للثقافة المغربية، ونجاحه في استدعاء مفهوم النية الديني/ الثقافي، وتوظيفه في سياق بعيد عنه عادة وهو التنافس الرياضي؛ وفي هذا إعادة الاعتبار إلى البعد الإيماني وكيف يمكنه صنع الأعاجيب إن رافقه أيضا عمل وتخطيط وعلم، ولعل بعضكم قد شاهد فيديو طلبة القرآن الذين كانوا يتابعون مباراة المنتخب ويواكبون ذلك بالدعاء له وتلاوة أسماء الله الحسنى. وفي هذا أيضا رسالة إلى الكثير من الباحثين الذين يشتغلون على القيم، وإلى مراكز البحوث والدراسات، بضرورة تطوير منطق وأشكال اشتغالاها، وقنوات نشر مخرجاتها، حتى نستطيع إعادة إدماج القيم الأصيلة في حياتنا المعاصرة؛ * ومن الملاحظات الأساسية أن كثيرا من المنتخبات القوية، خصوصا الأوروبية منها، تضم في تشكيلاتها الكثير من اللاعبين من أصول إفريقية، مما يعزز ما بدأت به باب الممكنات، فالنجاح هو التزام وتخطيط وعمل، وليس قدرا لشعوب وأعراق دون غيرها، فالدول الإفريقية أولى بلاعبيها إن هي أحسنت احتضانهم؛ * والملاحظة السابقة، تقودنا إلى الحديث عن مفاهيم الهوية وما يرتبط بها من إشكالات غير تقليدية تحتاج إلى عقل استراتيجي هادئ يشتغل عليها. حيث يمكن التفكير في مسألتين على الأقل: الأولى هي البنية الديموغرافية والثقافية للمجتمعات الغربية التي هي قيد التحول، وما قد ينتجه الحضور الإفريقي المتنامي في تلك الدول من تحولات استراتيجية وما قد يفرضه ذلك من تحديات وفرص، وكيف يستطيع المغرب الإفادة من ذلك؛ والثانية هي الجالية المغربية المقيمة بالخارج، وكيف نستطيع استثمار روابطهم الوطنية القوية ببلدانهم وقد لاحظنا كيف اختار لاعبونا القميص الوطني دون تردد، ثم كيف نخرج بهم من الدور التقليدي باعتبارهم مجرد جالبين للعملة الصعبة إلى مشاركين حقيقين في تنمية أوطانهم، وأخيرا كيف نحول الجالية المغربية إلى مرافعين يحسنون تمثيل بلدهم والدفاع عن قضاياه ومصالحه؛ * ولنختم الحديث عن الهوية، فإن المونديال أعاد شحن أجواء التعاطف والمحبة بين الدول العربية والإفريقية والإسلامية، وأبرز وفرة المشترك الذي يجمعها، حيث نقل لي بعض الأصدقاء أجواء رائعة من الحماس للمغرب في الدول الإفريقية، كما سعدت باستقبال التهاني من أصدقاء من مختلف الدول العربية من الجزائر إلى أقصى بلدان الخليج؛ لذا فالقائمون على السياسة الخارجية المغربية، مدعوون إلى استثمار المشاعر الجامعة وهذه الدعاية الإيجابية للمغرب في امتداداتها الإفريقية والعربية والإسلامية؛ * تجربة قطر في تنظيم المونديال تجسيد عملي ومبدع لباب الممكن، وهي فعلا تجربة حُبلى بالدروس التي تستحق أن يُستفاد منها، ورغم أن بعض المعلقين حاولوا حصر الإنجاز القطري في بعد الصراع الإيديولوجي الضيق، إلا أن ما حققته قطر أكبر من ذلك، لا ينبغي أن يقرأ في أقل من المستويين الاستراتيجي والحضاري، فالخطاب الإيديولوجي مستنزِف، ويفوت علينا التقاط المنافع الحقيقية، خصوصا على المستوى الوطني الذي نحتاج فيه إلى لغة جامعة تقوم على المشترك الواسع وتتعالى على الاختلافات الضيقة؛ * أخيرا؛ ماذا بعد المونديال؟ إن ما حققه المنتخب الوطني إلى حدود الآن هو إنجاز مشرف وغير مسبوق؛ آمل أن تسود هذه الطاقة الوطنية الإيجابية بين الناس بعد المونديال وأن يعبروا عن وطنيتهم بسلوكيات مواطنة ناضجة وخدمة بعضهم البعض، لكنني أتمنى أكثر، أن يستثمر المسؤولون ما تحقق، ومن العيب حقا هدر ما كسبناه: * فكيف نستثمر هذا الإجماع الوطني، وهذه الروح الوطنية القتالية التي سادت بين الشباب وفي المجتمع وتنتظر من يحسن توجيهها للحفاظ على الإجماع أولا، وللبناء التنموي ثانيا؟ * وكيف نستثمر المشاعر الإيجابية والتعاطف الذي حصل عليه المغرب في العمقين الإفريقي والعربي الإسلامي لتحقيق مكاسب استراتيجية، والتفكير في تكتلات اقتصادية؟ * وكيف نستثمر الدعاية الإيجابية للمغرب في جلب الاستثمارات وإنعاش الاقتصاد الوطني والسياحة وعلامة صنع في المغرب؟ * وكيف نستثمر هذه المشاعر الوطنية لتحقيق إجماع وطني على النموذج التنموي الجديد باعتباره توجها استراتيجيا وطنيا يحتاج إلى مشاركة الجميع، وتطوير آليات اشتغال مؤسسات الدولة؟ * وكيف ننتقل من انتصار في الكرة إلى انتصارات في الاقتصاد والتعليم والطب والتنمية عموما؟ إذا لم يجب المسؤولون وبشكل عملي على هذه الأسئلة، فسنكون قد أهدرنا فرصة تاريخيا من الصعب أن تتكرر، وخذلنا الشعب المغربي، وأهدرنا جهود هذا المنتخب الرائع والوطني جدا.