حاوره: محمد كريم بوخصاص في هذا الحوار مع الأكاديمي المغربي عبد الحفيظ اليونسي، قراءة في ما وراء الإنجاز التاريخي لأسود الأطلس بمونديال قطر، وتحليل للرموز التي ترافق احتفالات المغاربة قاطبة، وتفكيك العناصر التي ينبغي البناء عليها لتحقيق إنجازات في مجالات أخرى.
فجر الإنجاز التاريخي للمنتخب المغربي شعورا شعبيا بالانتماء، يعكسه حجم المتابعة الجماهيرية للمباريات من مختلف الفئات المجتمعية وأجواء الاحتفالات المصحوبة بكل رموز المملكة من رفع الأعلام الوطنية وعزف النشيد الوطني وكل ما يثبت الانتماء للوطن، كيف تفسر ذلك؟
الرياضة في عالم اليوم، وكرة القدم على الخصوص، تتجاوز البعد الرياضي المباشر إلى أبعاد أخرى منها الاقتصادي، حيث تحولت كرة القدم إلى صناعة قائمة الذات وبسلسلة إنتاج تدر الملايير على الدول والشركات والأندية واللاعبين، بل تحولت كرة القدم إلى آلية للترقي الاجتماعي وقصص النجاح الفردي. كرة القدم اليوم في العالم في علاقة الاتحادات الوطنية بالفيفا تعكس البعد العولمي الذي يمنع من تدخل السياسة في كرة القدم، وفي حالة التداخل هناك آليات قانونية لمنع حصول ذلك، أهمها المنع من المشاركة في البطولات الإقليمية والدولية، فمثلا في كاس العالم قطر 2022 كان منتخب الإكوادور مرشحا لعدم المشاركة لهذا الاعتبار.
الخلاصة أننا أمام مجال معولم ومنظم وفيه آليات تدبيرية ومالية رهيبة. هذا شجع على تطور اللعبة وساهم في هذا الهوس الذي يغزو العالم، وهو هوس تستثمر فيه دول العالم برهانات متنوعة، لعل أبرزها هو أن كرة القدم تحولت إلى آلية مهمة لتمارس الدولة وظيفتها الاستخراجية أي القدرة على التعبئة بكل الوسائل الممكنة، فتتحول بطولة كأس العالم إلى لحظة حاسمة لتغذية هذا الشعور بالانتماء إلى الوطن ورموزه، بل هي لحظة تعمل الدول بكل الوسائل للحضور فيها لتحقيق هذه الوظيفة. فالدولة الحديثة اليوم في تعريفها تتجاوز التعريف «الفيبري» (نسبة إلى ماكس فيبر) التقليدي إلى تعاريف جديدة لعل أهمها هو أن الدولة أيضا عبارة عن سرديات كبرى تعزز هذا الشعور بالانتماء إلى الوطن والتعبير عن التعلق برموزه. وما حصل بالمغرب في الأسابيع الأخيرة على هذا المستوى ربما يغني عن العشرات من الأغاني الوطنية والخطب الرنانة حول الانتماء للوطن والفخر برموزه. يجب أيضا ألا ننسى أنه في زمن الانفجار المعلوماتي الرهيب وعولمة القيم وما يسميه أحد الباحثين ب»حالة الاغتراب عن الذات»، تأتي هذه اللحظات ليعبر الفرد عن انتمائه للجماعة. اليوم هذه المتابعة للفريق الوطني من مختلف الأعمار إناثا وذكورا هي تعبير عن حالة فرح جماعية تختفي معها ولو لحظيا التباينات والاختلافات الاجتماعية أو القيمية أو غيرها.
بغض النظر عن حجم المتابعة الجماهيرية للساحرة المستديرة، وكون الكرة لعبة شعبية في المملكة، ما هي الدروس التي يمكن استخلاصها من المونديال في علاقة المواطن بالدولة وتعزيز الشعور بالانتماء والاعتزاز بالهوية الوطنية؟
ما نعيشه اليوم هو شعور لحظي مؤقت سيختفي لا محالة بمجرد انتهاء مشاركة المنتخب الوطني، لكن حجم ما تختزنه ذاكرة الشباب والمراهقين من إحياء لفكرة الانتماء للوطن بمعانيه السامية مهم جدا، وهذا يجعل من كرة القدم وسيلة للتنشئة السياسية، ويعطي مؤشرا على مدى ومستوى تفاعل المواطن الفرد مع النجاحات التي يمكن تحقيقها في مجالات مختلفة. ربما الرهان اليوم على إبقاء جذوة هذا الشعور الوطني من خلال الحرص على النجاح في المجالات الأخرى، والصور التي تصاحب مباريات كرة القدم للفريق الوطني تعطي إشارات لهؤلاء الشباب والمراهقين خصوصا على مستوى القيم التي تميز المغرب كبلد يعتز بحضارته وهويته، فحضور الأم والأب ومؤسسة الأسرة إلى جانب اللاعبين، وهذا الاحتفاء الكبير بالأم من قبل بعض اللاعبين، كلها عوامل تحيي هذه القيم الأصيلة التي بني عليها تماسك الأسر المغربية، كما أن الحضور الطاغي للعلم الوطني واللباس التقليدي المغربي يعكس مدى تعلق المغاربة ببلدهم وحبهم لتقاليده وتراثه، والصور القادمة من قطر في مباريات المنتخب المغربي أعطتنا صورة حقيقية لتعريف من هو «المغربي»، والغريب أنه ربما لدى الكثير من متخذي القرار والنخب انطباعات تعاكس الواقع.
تستفيد الكرة المغربية من إمكانيات مالية ولوجستيكية ضخمة لا تقل عن تلك الموضوعة رهن إشارة المنتخبات الرائدة كرويا، هل معنى ذلك أن المغربي إن توفرت له مثل هذه الشروط يكون النجاح حليفه؟
كما قلت سابقا، كرة القدم اليوم هي صناعة قائمة الذات وراءها سلسلة إنتاج ضخمة. بالنسبة للمغرب، فعلا الأرقام التي يقدمها رئيس الجامعة السيد فوزي لقجع عند انعقاد الجمع العام للجامعة الملكية لكرة القدم تبين المبالغ الهائلة التي تخصص للمنتخبات الوطنية على الخصوص، وهي مبالغ تضاهي تلك التي تخصصها الدول الغنية أو الدول العريقة في كرة القدم، وبغض النظر عن مدى جدوائية هذا النوع من الاستثمار وأهميته وعائده المباشر وغير المباشر على الدولة والمجتمع من زاوية الربح والخسارة، ربما ستكون هناك محطات لتناول هذه الجوانب، لكن أظن أنه كلما توفرت ظروف العمل وكانت هناك احترافية وأن يشتغل في المجال أهل التخصص، تكون النتائج جيدة وربما مبهرة.
وبالتالي فتعميم هذا النموذج في مجالات اقتصادية واجتماعية وثقافية سيكون له أثره المباشر على الدولة والمجتمع، وأظن أن ما شهده المغرب في هذا المونديال من زاوية الدولة الحديثة يفوق بكثير من حيث العائد الأموال التي استثمرت أو صرفت على كرة القدم طيلة هذه الفترة. والإشارة هنا أيضا إلى أن النجاح الظاهر للمنتخب الوطني هو تجلي لعمل فريق متخصص في مجال كرة القدم، فكلما حضر أهل الاختصاص في مجالهم إلا وكان النجاح حليفهم، وفي الحقيقة نتمنى أن يتم تعميم هذا النموذج في التمويل والتدبير على بقية المجالات في بلادنا، لأنه من المؤكد أن النتائج ستكون جيدة ومرضية.
يلاحظ أن كل إمكانيات الدولة تسخر لتحقيق إنجاز مونديالي بما في ذلك الصور الرمزية وحضور شخصيات الدولة في المدرجات، إلى أي مدى أصبحت الكرة أحد أدوات الحكم؟
حِرصُ رجال الدولة والسياسة على الحضور في مناسبات النجاح المختلفة، ومنها كرة القدم، هو حرص حاضر في الدول الديمقراطية والسلطوية. فالجميع يحرص على هذا الحضور لما له من تسويق للحظة الإجماع الوطني، والحضور في لحظات تختزنها الذاكرة الجماعية. هو حرص لتسويق صورة لشخصيات عامة سياسية أو أمنية في لحظة نجاح كما قلت، ويجب التذكير هنا أن المكتب الجامعي يضم في عضويته وجوها حزبية بارزة من مكونات حزبية مختلفة غالبا هي أحزاب محسوبة على الإدارة.
إذن، هاجس التسويق السياسي لهذه الشخصيات حاضر ولا يمكن نكرانه، لكن حضور شخصيات محسوبة على الدولة قد يفهم منه أن الدولة حريصة على توفير جميع الظروف للذهاب بعيدا في هذه البطولة، لاسيما أن كواليس الفيفا تعرف حضور منطق القوة والنفوذ أكثر من منطق الاستحقاق والجدارة، ولنتذكر جميعا كيف حسمت الولاياتالمتحدةالأمريكية تنظيم كأس العالم 2026. عموما، يبقى استثمار أو استغلال مثل هذه اللحظات شيئا عاديا في جميع الدول، ولكن في العمق هذه مسائل لحظية وقتية سيكون لها معنى لو تم البناء على لحظة الإجماع الوطني لكسب بقية الرهانات. ولنأخذ على سبيل المثال البرازيل موطن كرة القدم ومنبع نجوم اللعبة، كيف استثمرت كرة القدم في تأكيد صحوة هذه الدولة التي عانت من الحرب الأهلية والديكتاتورية، وكانت كرة القدم عاملا مساهما في ظهور البرازيل كاقتصاد نامي من بين العشرين الكبار في العالم.
كيف يمكن الاستفادة من هذا الإنجاز الذي حققه المنتخب الوطني لرفع الهمم وتحقيق إنجازات تاريخية في كل الميادين السياسية والاقتصادية وغيرهما؟
هذا هو مربط الفرس كما يقال. وهذا النوع من الأسئلة يهم النخبة للنظر في مآلات الأمور من زاوية وطنية وليس زاوية ضيقة لتحصيل منافع فئوية قد تكون سياسية أو اقتصادية. الجماهير تعبر عن فرحها في لحظة ما بعد كورونا والأزمات المتتالية، وكأنها لحظة نسيان مؤقتة، إذ سرعان ما سيعود الناس ليواجهوا أسئلة توفير لقمة العيش وتلبية حاجيات أسرهم في حدودها الدنيا، في ظل موجة الغلاء التي يظهر من معطيات الواقع الملموس أنها ستطول. وهذا الإجماع المعبر عنه حول الرموز الوطنية، وهذا الاعتزاز بالعلم الوطني والانتماء لبلد اسمه المغرب، أمور لا تتكرر دائما، وبالتالي ينبغي استثمارها في المنحى الإيجابي لبناء ما يسمى «جماعة المواطنة»، وهي جماعة تتقاسم قيما معينة أهمها الرغبة في العيش المشترك في وطن واحد، لكن دور الدولة هنا هو تعزيز هذا الشعور الوطني من خلال تكريس دورها التوزيعي في توفير الخدمات الأساسية لضمان العيش الكريم في مرحلة أولى، وفي مرحلة لاحقة تحسين جودة العيش.
هناك علاقة جدلية بين القدرة التوزيعية للدولة للخيرات والقيم وبين تعزيز رابطة الولاء، وثمة تحديات حقيقية تواجه بلدنا لا يمكن مواجهتها وكسب رهاناتها إلا من خلال معاينة عموم الجمهور لإنجازات ونجاحات ملموسة كما هو الحال مع المنتخب الوطني لكرة القدم، وتبقى شرعية الإنجاز في عالم اليوم مهمة لتجاوز اللحظات المفصلية في التاريخ.