دون مبالغة من بين أكثر ما يترقبه العالم في مقابلات مونديال قطر 2022 اليوم هو اللقاء الذي سيجمع بين المنتخب المغربي والمنتخب الفرنسي. فهل يتعلق الأمر فقط بأداء كروي أم باعتبارات أخرى لازمت أداء المنتخب المغربي طيلة حضوره المميز في المونديال. جميع المنتخبات الرياضية لها "خط تحرير" خاص بها يشكل مرجعيتها الفنية والقيمية في الأداء الكروي وفي علاقتها بالجمهور والإعلام، خاصة حين يتعلق الأمر بمدارس عريقة في هذا المجال. غير أن أداء المنتخب المغربي تميز ب"خط تحرير" رياضي مميز وأصيل. ويمكن قراءة المعالم الكبرى ل "خط تحرير" المنتخب المغربي من خلال العناصر الثابتة في أداءه خلال المقابلات الخمس التي أجراها حتى الآن. وهذه المقابلات حكمها توجه واضح له أربعة أبعاد رئيسية أعطت لأداء المنتخب المغربي ميزة عالمية جعلته دون مبالغة أيقونة المونديال، بغض النظر عما ستسفر عنه التصفيات النهائية من نتائج. ويكفيه أنه اليوم المنتخب الأكثر حضورا في الاهتمام الإعلامي العالمي، بعد أن سجل مفاجآت حقيقية بالنظر إلى المنتخبات التي نازلها بنجاح. لكن الأداء الكروي ليس وحده العامل الذي سجل به المغرب حضوره الإعلامي العالمي، بل نجد عناصر أخرى أعطت لحضور المنتخب المغربي في مونديال قطر طابعا استثنائيا أثار اهتمام الجميع. وتلك العناصر هي التي تشكل السمات الأساسية ل"خط تحرير" الأداء الكروي للمنتخب المغربي، الذي زاوج بين أربعة أبعاد: فن الأداء الرياضي ونجاعته، جمهور ذكي وقوي، الحضور القيمي والثقافي الأصيل، والتأطير الشعبي العميق ببعد دولي. وسنقف عند كل بعد من تلك الأبعاد بشكل مقتضب تفرضه طبيعة هذا المقال. فن الأداء الرياضي ونجاعته لن نطيل الكلام كثيرا في هذا البعد، لأن الجميع رصد فعالياته في أداء عناصر المنتخب الوطني على أرضية الملعب. لكن يمكن القول إجمالا إن الذي ميز أداء المنتخب المغربي في كل النزالات الكروية الخمس التي خاضها حتى اليوم هو معنويات لاعبيه العالية عند كل مواجهة، والانسجام الفني بين عناصره، والانضباط الصارم لخطة المدرب وتوجيهاته، والقتالية العالية التي أبان عنها اللاعبون، بالإضافة إلى المتعة الفنية في اللعب التي أمتعت الجمهور الرياضي واهتزت لها المدرجات. وأكثر ما ميز الأداء الكروي للمنتخب المغربي الخطة الدفاعية الاستثنائية التي وقفت سدا منيعا أمام مختلف المدارس الكروية التي فشلت في إيجاد "الحل" المناسب للعقدة الدفاعية التي اعتمدها الناخب المغربي، ويُتوقع أن تشكل أيضا تحديا كبيرا للمدرسة الفرنسية بدورها، وهو ما جعل عددا من المحللين الرياضيين يتحدثون أيضا عن مدرسة كروية جديدة يؤسسها المغرب في مونديال قطر 2022. والمنتخب المغربي اليوم، بفضل أدائه المتميز، يسجل نفسه ضمن أقوى أربع منتخبات في مونديال قطر 2022 تتقاسم أمل الفوز بكأس العالم، وقد بلغ الأسود هذا المستوى الرياضي غير المسبوق في العالم العربي وفي أفريقيا (فشلت الكاميرون في ذلك سنة 1990، والسنيغال في 2002، وغانا في 2010)، بعد أن نازل بنجاح منتخبات كبيرة مثل المنتخب البرتغالي والمنتخب البلجيكي والمنتخب الاسباني والمنتخب الكندي والمنتخب الكرواتي، وهي كلها منتخبات عريقة وقوية، وتتوجه الأنظار إلى ما قد يحدثه من مفاجئات في لقائه مساء الأربعاء المقبل أمام المنتخب الفرنسي. جمهور ذكي وقوي القوة الضاربة للمنتخب المغربي، بعد قوته الذاتية، هي في الجمهور المغربي المؤازر، فالسفر إلى دولة قطر لم يمنع عشاق المنتخب من تسجيل حضورهم القوي في المدرجات، هذا الجمهور الذي تعزز بالجمهور العربي المساند، شكل الدراع السكولوجية القوية التي أحاطت اللاعبين بثقتها وأملها وحبها وانتظاراتها. قد لا يكون المنتخب المغربي الأول في هذا، لكن الذي شكل الفارق هو ذلك المستوى من التواصل الراقي بين الجانبين، وذلك المستوى من التفاهم والتفهم. فالجمهور المغربي لا يريد أكثر من فريق يلعب في مستوى الفرق الكبيرة، ومهما كانت النتيجة فسيضل مؤازرا ومناصرا، والمنتخب بدوره لا تهمه النتيجة أكثر مما يهمه إرضاء الجمهور وإسعاد الشعب المغربي. وهذه الواقعية المتبادلة تحولت إلى تعاقد معنوي، وشكلت العنصر المهم الذي جعل اللاعبين أكثر جرأة في مواجهة المنافسين، فهم لا يخشون النتيجة ولكن يخشون أن لا يبدلوا أقصى الجهد وأجمل العروض لإرضاء هذا الجمهور وإسعاده. هذا التوافق الذكي جعل العلاقة بين الطرفين متينة ومرنة، مما حول الجمهور إلى مصدر لا ينضب يزود اللاعبين بطاقة إيجابية قوية تدفعهم إلى رفع مستوى القتالية لديهم، وتخفف عنهم آلام ما أصابهم من ضربات وكدمات وتشنجات عضلية وما عاشوه من تعب خمس مقابلات بإيقاع مرتفع تطلبت جهدا بدنيا استثنائيا. ومثلا حين يرفع الجمهور شعار "سير .. سير .. سير .." في اللحظات الحاسمة والحساسة، فاللاعبون يلتقطون الرسالة العميقة التي تشحن كلمته الدارجية الوحيدة "سير" والتي تتجاوز مجرد القول "تقدم إلى الأمام"، إلى مضمون غني بالمعاني القيمية والثقافية التي تشعرهم بالمسؤولية، ليس الرياضية فقط، بل المسؤولية المعنوية التي تستحضر الوطن والشعب وفرحتهما. الحضور القيمي والثقافي الأصيل هذا البعد الحيوي في "خط تحرير" الأداء الرياضي للمنتخب المغربي، شكل الاستثناء في مونديال 2022. وهذا بشهادة جميع المحللين والمراقبين. وإذا كان ما هو ثقافي وقيمي يحضر عادة بقوة في مثل محطات المونديال، فالمنتخب المغربي أعطى له طعما خاصا جعله أغنى وأعمق. ويمكن المجازفة في اعتبار المنتخب المغربي أبدع "مذهبا" ثقافيا وقيميا خاصا تحكمه عناوين كبرى يمكن تلخيصها في العناصر التالية: الأول، الله كمصدر للفوز والتوفيق، فأعضاء المنتخب الوطني، يستحضرون هذا البعد من خلال العديد من الصور، سواء بقراءة الفاتحة بشكل جماعي، أوبالدعاء عند بداية أي نزال، أوعند دخول اللاعب أرضية الملعب، أوبسجدة شكر جماعية عند النهاية بعد الفوز. وعلاقة بالشعب المغربي والجمهور المغربي فالتوكل على الله لا يعني ضمان الفوز بقدر ما يعني توفير شروطه والتسجيل ضمن المعايير الدينية والاجتماعية المتوافق عليها. الثاني، ويرتبط بالأول، لكن بعمق ثقافي مغربي قوي، ويتعلق بقيمة النية، فالشعار الميداني غير الرسمي للمنتخب هو "نديرو النية"، وهذه المقولة لها عمق ثقافي وقيمي كبير، يجعل صاحبه مخلصا وصادقا في القيام بالواجب، كما يغلق لديه منافد اليأس والخوف، ويمده بقوة خاصة تجعل عمله فوق الاعتبارات الشخصية الضيقة. الثالث، وهو عنصر شكل مفارقة الحضور المغربي في المونديال، وجعله ماركة خاصة سجلتها مشاعر ملايين الشعوب العربية والإسلامية، وجلبت اهتمام الاعلام الغربي، ويتعلق الأمر بحضور "الأم" أو "الوَلِدَة" بالدارجة المغربية. وحضور والدات اللاعبين يختلف عما ألفناه من حضور صديقات أو زوجات أو أبناء اللاعبين الغربين، حيث كان حضورا شبه ضعيف ثقافيا، ويكاد يطغى عليه البعد العائلي والشخصي، أما حضور "الوَلِدَة" مع المنتخب المغربي فهو حضور ثقافي غني بالمعاني والقيم، بدأ من العمر الغالب على الوالدات، ثم اللباس التقليدي المغربي الغني بالحمولة الثقافية المميزة للمغرب لدى أغلبهن، وتقبيل اللاعب رأس والدته قبل معانقتها واحتضانها له، وكل هذا له دلالات عميقة في الثقافة المغربية. وحين يستشعر اللاعب وهو في غمرة المواجهة أن والدته تنتظر أن تعانق فائزا، فإن ذلك وحده كاف ليشعل في دواخله نيران العزم والإصرار. وتقبيل رأس "الوَلِدَة" له علاقة وطيدة مع "رضاة الوالدين" وخاصة "الوَلِدَة"، حيث أن "مرضي الولدين" ييسر الله أموره ويجعل فيها البركة، والتيسير والبركة يعلم المغاربة أنهما أيضا لا يضمنان الفوز ولكنهما يضمنان شروطه مثل الإيمان بالفوز والثقة في النفس، وغير ذلك من القيم التي تعتبر العملة الصعبة في مثل تلك المحطات. وقد قدم الأسود صورا رائعة لمكانة الأم في الثقافة والقيم المغربية الأصيلة، كانت موضوع اهتمام الإعلام العالمي، شملت ما يتعلق بالتقدير والاحترام من تقبيل وعناق ورضى، كما شملت ما يعبر عن الفرحة المشتركة. الرابع، يتعلق بعنصر يمثل أيضا خصوصية مغربية، وهو موقع القضية الفلسطينية في الوجدان المغربي، فكما يستحضر الجمهور المغربي هذه القضية في شعاراته وأناشيده الحماسية، كما أن الأعلام المغربية التي تغطي المدرجات تعانقها أعلام فلسطينية هنا وهناك. و في اهتمامات المنتخب تحضر هذه القضية من خلال رفع العلم الفلسطيني. وهذا الحضور الفلسطيني في هذه المحطات يعبر عن عمق القضية في الوجدان المغربي. التأطير الشعبي العميق ببعد دولي سجلت وسائل الاعلام المختلفة كيف تفاعل الشارع العربي والإسلامي بشكل استثنائي مع الانتصارات المغربية في المونديال، فالمنتخب المغربي هو المنتخب الوحيد ضمن منتخبات المونديال التي أثارت تفاعلا شعبيا تجاوز حدود المغرب، ليسجل حضورا قويا في مختلف الدول العربية والإسلامية، بما فيها جارته الجزائر التي ضل إعلامها الرسمي شاردا ونشازا. فصور الاحتفال الحاشد والقوي الذي تعرفه مختلف المدن المغربية، تم رصده أيضا وبنفس القوة والحشد في عدد من الدول، والتي رفعت فيها الأعلام المغربية وصور جلالة الملك، وهتفت فيها جماهيرها "ديما المغرب". لقد سجل الاعلام الغربي هذا الاستثناء المغربي، وتساءلوا عن السر في كل هذا التلاحم بين الشعوب عكس ما تعبر عنه الشعوب الغربية من أنانية لا تتجاوز منتخبها الوطني. وهذا التلاحم أحيا عاطفة الوحدة بين الشعوب، وأطلق مطالب الوحدة بين قادتها. كما سجل الحضور القوي للقضية الفلسطينية في هذه الديناميكية التي يقودها المغرب في العالم العربي والإسلامي، واعتبر إعلام الغرب ذلك دليلا لا ينازع في كون التطبيع مع إسرائيل لا يتجاوز مجال ما هو سياسي رسمي إلى مجال الشعوب، وهو ما يفسر الحملة الصهيونية التي انخرطت فيها بعض وسائل الاعلام الغربية، والتي تحاول ابتزاز دولة المغرب في هذا الأمر، بمطالبته بالاعتذار لإسرائيلعن رفع العلم الفلسطيني من طرف الجمهور واللاعبين! ودون مبالغة، وبفضل "خط تحرير" الأداء الكروي للمنتخب، يقود المغرب اليوم عاطفة الشعوب العربية والإسلامية من خلال حضوره المتميز في المونديال. حضور مميز يعطي لكل انتصار مغربي لونا مختلفا عما يكون لانتصارات باقي المنتخبات، فالانتصارات المغربية بحكم "خطها التحريري" الذي حاولنا رصد بعض معالمه، لا تنفك عن بعدها الثقافي والقيمي والسياسي، فعاطفة الشعوب العربية والإسلامية التي احتشدت بشكل قوي منقطع النظير خلف المنتخب المغربي ترى فيه أكثر من فريق كروي ينتصر على فرق كروية منافسة، إنها ترى فيه هويتها التاريخية والثقافية، وترى فيه قيمها المشتركة الأصيلة، وترى فيه أملها الذي استعاد حياته في ظل الواقع السياسي والاجتماعي المتخلف الذي تعيشه، ونفس الشيء نجده في خلفية الشعوب الأفريقية التي ترى بدورها في المنتخب المغربي ممثلا للقارة السمراء، وأملها. يستحق المغرب أن أن تكون له مدرسته الكروية الخاصة، والتي يمكن تلخيص فلسفتها في كلمتين "النية والتقنية" لتحيل النية على كل ما هو قيمي وتحيل التقنية على كل ما هو فني واستراتيجي وتكتيكي. إن تميز الأسود في المونديال كتب به المغرب تاريخه وتاريخ العالم العربي وتاريخ القارة الافريقية، وقد أعاد أيضا رسم جغرافيا كرة القدم من جديد.