فيصل بجي، دكتور في القانون الخاص، كاتب عام منتدى الكرامة لحقوق الإنسان فيصل بجي دكتور في القانون الخاص الكاتب العام لمنتدى الكرامة لحقوق الإنسان
أثارت مصادقة مجلس النواب بالأغلبية يوم 23 يوليوز 2024 في جلسة التصويت على مشروع القانون رقم 02.23 المتعلق بالمسطرة المدنية، التي شهدت غيابا ملحوظا للنواب، إذ صوت فقط 104 نائبا بالموافقة و35 نائبا بالرفض؛ سجالا حادا حول مجموعة من مقتضياته التي اعتبرها العديد من المختصين والباحثين والمهتمين بالحركة التشريعية بالبلاد مخالفة للدستور، وتضرب في الصميم عددا من المبادئ الدستورية والمكتسبات الحقوقية، كما تهدد استقرار المنظومة القانونية والأمن القضائي للبلاد، مما يعرض حقوق ومصالح المتقاضين للانهيار، حتى بدت ملامح أزمة واضحة بين الحكومة وأغلبيتها وبين المعارضة البرلمانية، كما ثارت احتجاجات المحامين والمفوضين القضائيين وأطياف الحركة الحقوقية بسبب مضامين المشروع، بعد رفض عدد من التعديلات التي تقدم بها أعضاء مجلس النواب، وصلت إلى 1161 مقترح تعديل، قبلت منها الحكومة 263 تعديلا و65 تعديلا جزئيا ورفضت الباقي، بعد أن عقدت بشأنه لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان 17 اجتماعا.
لم يقف الأمر عند المساطر القانونية للتشريع عبر المصادقة على المشروع بمجلس النواب، بل امتدت إلى سجالات عبر وسائل الإعلام انبرت للدفاع عن المشروع وأخرى لمعارضته، فهل تمكن بالفعل هذا المشروع من تجاوز الإشكالات التي أبانت عنها الممارسة العملية منذ إصدار الظهير الشريف بمثابة قانون رقم 1.74.447المتعلق بقانون المسطرة المدنية الصادر بتاريخ 28 شتنبر 1974؟ وهل راعت المقتضيات التي اعتمدها تلك الحقوق التي أقرها دستور 2011 وكرستها القوانين والاجتهادات القضائية على مدى نصف قرن على اعتماد القانون الجاري؟
إن مناقشة هذا التساؤل بامتداداته من أجل التقييم الموضوعي لمشروع قانون المسطرة المدنية، يستدعي القيام بقراءة علمية لبسط الجوانب التي يثار النقاش حول مخالفتها للمبادئ الدستورية ولمبادئ حقوق الإنسان، بعيدا عن كل آراء سياسية أو انطباعات سطحية، عبر الوقوف على الإشكالات المثارة لبعض المستجدات التي جاء بها وإخضاعها للتحليل العلمي القانوني لملامسة مدى استجابته لانتظارات المتقاضين، وذلك من خلال البحث في ما جاء به المشروع من مقتضيات تهم المساواة أمام القانون وما يتعلق بضمانات حقوق التقاضي.
أولا: في المساواة أمام القانون
من خلال الاطلاع على مقتضيات المادة 17 التي أثارت نقاشا واسعا حول مضامينها وصلت إلى المطالبة بحذفها من المشروع، يتبين بشكل واضح ومباشر المس الصريح بالمقتضى الدستوري القاضي بإلزام الجميع بالأحكام النهائية الصادرة عن القضاء (الفصل 126 من الدستور)، حيث تضمنت المادة المذكورة مقتضيات بإعفاء النيابة العامة من الخضوع للآجال القانونية للطعن في كل مقرر قضائي من شأنه مخالفة النظام العام، عبر تخويلها إمكانية طلب التصريح ببطلانه، وإن لم تكن طرفا في الدعوى، ودون التقيد بآجال الطعن، بناء على أمر كتابي يصدره الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض تلقائيا أو على إحالة من الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية في حالة ثبوت خطأ جسيم أضر بحقوق أحد الأطراف ضررا فادحا، مع أن الفقرة الأخيرة من المادة 16 منحت النيابة العامة حق الطعن ابتداء من تاريخ النطق بالحكم إذا كانت حاضرة في الجلسة أو من تاريخ تبليغها به إن لم تكن حاضرة، فلماذا يتم إلغاء واحد من أهم قواعد القانون وهو الآجال أمام النيابة العامة؟
إن المقتضيات التي جاءت بها هذه المادة ستجعل الأحكام والقرارات القضائية معلقة بشكل دائم، بالنظر لإمكانية تقديم الطعن فيها من طرف النيابة العامة متى تبين لها مخالفتها للنظام العام، مع ما يعرفه هذا المصطلح الفضفاض من زئبقية في التأويل، وذلك سواء أكانت طرفا رئيسيا أو منظما أو لم تكن أبدا طرفا في الدعوى، ودون التقيد بآجال الطعن، بل حتى لو كانت هذه الأحكام أو القرارات القضائية قد بلغت للأطراف واكتسبت قوة الشيء المقضي به، وتم تنفيذها وربما أنشأت حقوقا أخرى، وهو ما له تأثير كبير على استقرار المعاملات المؤسسة على الأحكام والقرارات القضائية، وفيه مس خطير بالمبادئ والحقوق الدستورية وبالأمن القضائي، لكون هذا المقتضى سيفرغ الأحكام والقرارات القضائية من مضمونها وسيفقدها حجيتها المطلقة وقوتها أمام الجميع، لكن كذلك سوف يضعف قوة القضاء ويمس بهيبة سلطته ويكرس تمييزا واضحا أمام القانون. فإذا كانت النيابة العامة خصما شريفا ومدافعا عن القانون فيجب أن تتمتع بنفس الحقوق التي يحظى بها أطراف الدعوى دون تمييز، فكيف والحال هذه أن تمنح حقوقا أوسع بكثير من تلك التي للأطراف، خصوصا أن الأمر يتعلق بالمعاملات المدنية التي لا يمكن توسيع تدخل النيابة العامة فيها وتمتيعها بسلطة مراقبة قضاة الحكم؟ وكيف يمكن تصور تحقيق الأمن القضائي دون تحقق أحد أركانه، وهو إلزام الجميع بالأحكام النهائية الصادرة عن القضاء؟
لم يكرس مشروع القانون وضعية التمييز فقط بين المتقاضي والنيابة العامة، بل تبنى مقتضيات تؤسس لوضعية التمييز حتى بين المتقاضين أطراف الدعاوى القضائية، إذ ميزت المادة 383 من مشروع القانون بين الإدارة والمواطن، عندما اعتبرت أن الطعن بالنقض من طرفها ضد الأحكام والقرارات القضائية لا يوقف التنفيذ، فيما اعتبر الطعن بالنقض الذي يتقدم به المواطن يوقف تنفيذ الأحكام الصادرة لصالحه ضد الإدارة، وهو ما يشكل مسا صريحا بأحكام الدستور القاضية بمساواة الجميع أشخاصا ذاتيين أو اعتباريين، بما فيهم السلطات العمومية، أمام القانون وهم ملزمون بالامتثال له (الفقرة الأولى من الفصل 6 من الدستور)، في حين أن المقتضيات المدرجة ضمن هذه المادة، لا علاقة لها بالمساواة أمام القانون.
وفي الوقت الذي كان يعول فيه من خلال مشروع قانون المسطرة المدنية العمل على تصحيح ما جاءت به المادة 9 من قانون المالية لسنة 2020 التي منعت الحجز على الأموال والممتلكات العمومية، لمخالفتها الصريحة للدستور، خاصة الفصل 126 منه، الذي يجعل الأحكام القضائية النهائية ملزمة للجميع، بالإضافة إلى ضربها لمبدإ المساواة أمام القانون والقضاء، ولمخالفتها للقانون التنظيمي رقم 130.13 لقانون المالية كنص أساسي يشكل جزءا من الكتلة الدستورية، خاصة المادة 6 منه، وكذلك لمخالفتها للمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، ولقواعد المحاكمة العادلة، التي يشكل تنفيذ الأحكام القضائية جوهرها الأساسي، لا سيما الفقرة الأخيرة من المادة 2 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية؛ جاءت مجددا مقتضيات تكرس هذا المنع من خلال البند الأول من المادة 502 من مشروع القانون التي تمنع من الحجز على أموال وممتلكات الدولة والجماعات الترابية ومجموعاتها وهيئاتها، مما يمكن معه القول بأنها مقتضيات تراجعية خطيرة عن منحى الحقوق التي قعد لها الدستور وأرستها القوانين، كما أنها تشكل زعزعة لثقة المستثمرين خاصة الأجانب في منظومة العدالة بالمغرب، وهذا انقلاب غير مفهوم عن التوجه الذي أرسته الدولة على مدى سنوات لتحسين جاذبية الاستثمارات وتحسين مناخ الأعمال مع اعتماد القانون-الإطار رقم 03.22 بمثابة ميثاق الاستثمار، وإصدار القانون رقم 47.18 المتعلق بإصلاح المراكز الجهوية للاستثمار وبإحداث اللجان الجهوية الموحدة للاستثمار، وكذا إصلاح الباب الخامس من مدونة التجارة، ولذلك يكون من الأصوب الاحتفاظ بالمقضيات الواردة بالفصل 361 من قانون المسطرة المدنية الجاري.
إن تمرير هذه المادة بصيغتها المصادق عليها من طرف مجلس النواب، يشكل عثرة في مسار بناء دولة الحق والقانون المنشودة، والتي يعتبر فيها القضاء حارسا للحقوق والحريات وعاملا على صيانته، كما أن التنصيص على هذه المادة، في غياب أي إجراءات عملية ناجزة وكفيلة بإجبار الإدارة والآمرين بالصرف والمحاسبين العموميين على التنفيذ، سيشكل لبنة إضافية في تقوية الفساد الإداري وفتح الباب أمام أشكال جديدة للتهرب من التنفيذ.
لم تقف إشكالية التمييز عند هذا الحد، فقد جاء المشروع بمقتضيات أخرى تكرس ذلك من خلال تقييد حق التقاضي على درجتين، فالمادة 30 مثلا رفعت الاختصاص القيمي للمحاكم الابتدائية غير القابل للطعن بالاستئناف إلى مبلغ 30 ألف درهم، وهو ما يعتبر تقييدا للحق في التقاضي بشكل غير مبني على دراسة واقعية لتقييم مستوى عيش المواطنين، على اعتبار أن هذا المبلغ يعتبر ببعض مناطق المغرب ذو قيمة حقيقية، كما أن النزاعات المتعلقة بالقضايا الاجتماعية، في إطار النزاعات الفردية المتعلقة بعقود الشغل، خاصة تلك المتعلقة بطلبات التعويض عن الفصل التعسفي، كثير منها لا يتجاوز هذا المبلغ، لا سيما فئات الأجراء الذين يتقاضون الحد الأدنى للأجور أو أقل في كثير من الأحيان، في ظل وجود مشغلين ينتهكون قوانين الشغل مع غياب رقابة حقيقية من طرف المؤسسات المختصة، فكيف يمكن حرمان هذه الفئات من التقاضي على درجتين بسبب تسقيف قيمة النزاع؟
أما بخصوص الحق في الطعن أمام محكمة النقض، فقد قيدته كذلك المادة 375 من مشروع القانون، عندما قرنت اختصاص هذه المحكمة بالأحكام الصادرة في الطلبات التي تتجاوز قيمتها 80 ألف درهم، وهو ما يشكل كذلك تقييدا للحق في الولوج لمحكمة النقض، على اعتبار أن هذا التحديد القيمي يتعارض مع حماية الحق في التقاضي الذي ضمنه الدستور من خلال الفقرة الأولى من الفصل 118، وبالتالي احتكار الحق في النقض لفئة معينة من المواطنين في تكريس غير مفهوم للتمييز على أساس مستواهم الاجتماعي.
هكذا نخلص لنتيجة مفادها أن مشروع القانون إذا كان يهدف من وراء تقليص نطاق الأحكام القابلة للطعن بالاستئناف أو بالنقض تخفيف الضغط على المحاكم، فإن ذلك سيتم على حساب حقوق وحريات المواطنين وكذا المبادئ الأساسية للنظام القانوني، ولذلك فاعتماد القاعدة القيمية للنزاع كحاجز مالي يحول دون الحق في التقاضي والولوج لدرجاته، مسألة غير مبررة وغير مشروعة.
ثانيا: في ضمانات حقوق التقاضي
نصت الفقرة الأولى من المادة 6 من مشروع القانون على أنه "لا يمكن الحكم على أي طرف في دعوى قبل استدعائه بصفة قانونية أو بسط أوجه دفاعه، ما لم ينص القانون على خلاف ذلك"، والحال أن ضمان المحاكمة العادلة وضمان الدفاع عن الحق لا يكون إلا بالتوصل الفعلي بالاستدعاء، لأن المقصود من إجراءات التقاضي مرتبط بمرحلة ما قبل التوصل وليس بالاستدعاء نفسه، في حين أن الاستدعاء قد يوجه ولا يتوصل به المعني بصفة قانونية، بل نص المقطع الثاني من الفقرة المشار إليها حتى إلى إمكانية تجاوز هذا الاستدعاء متى نص القانون على ذلك، وهو أمر فيه إخلال بحقوق الدفاع وفيه تهديد لواحد من أهم حقوق التقاضي.
وبالاطلاع على مقتضيات المادة 10 من مشروع القانون يتضح بشكل جلي افتراض سوء النية في المتقاضي، من خلال اعتماد نظام الغرامات ضد من يثبت في حقه سوء النية، وهو ما يثير إشكالا لعدم تحديد مفهومه قانونا في هذا المشروع على الأقل، كما أن الغرامات المنصوص عليها في هذه المادة وكذا المادة62 فيما يتعلق بالمماطلة والتسويف، تطرح إشكالا حقيقيا عند مقارنتها مع ما ضمنه الدستور من حقوق للمواطن، وما نصت عليه المواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب، كما تثير التساؤل حول الجدوى من هذه الغرامات التي يلزم بأدائها لفائدة الخزينة التي لا تعتبر طرفا في الدعوى ولا متضررة من التقاضي بسوء نية، بصرف النظر عن أحقية المتضرر في المطالبة بالتعويض.
إن إقرار غرامات على المتقاضين المفترض فيهم سوء النية أو المماطلة والتسويف، من شأنه أن يثني ذوي الحقوق عن التقاضي خوفا من السقوط في مشكل آخر وأداء الغرامة علاوة على تعويض المتضرر المفترض مما يؤدي إلى ضياع حقوقهم، وهذا فيه تعارض واضح مع مقتضيات الدستور القاضية بحماية القاضي للحقوق المنصوص عليها بموجب الفصل 117، وفيه ضرب كذلك لمجانية التقاضي كما هي منصوص عليها في الفصل 121 من الدستور.
وفيما يتعلق بمجال اختصاص المحامي فقد عملت المادة 76 من مشروع القانون على تقليصه كما قلصت احتكاره لحق الدفاع، عندما منحت إمكانية تقديم الدعوى بمقال موقع من طرف وكيل المدعي، ولم تحصر ذلك في المدعي أو محاميه، والواقع أن مجال الخصومة والدفاع يتعين حصره في المحامي باعتباره الجهة المختصة والمؤهلة للدفاع عن الحقوق، وهو ما يفتح المجال أمام أشخاص غير مؤهلين لممارسة مهام تتطلب معرفة دقيقة بمختلف القوانين، في توجه غير منسجم مع ما تقتضيه أعراف المهن المساعدة للقضاء التي تعمل على تيسير عمله، وهو ما من شأنه خلق صعوبات أمام المحاكم، كما أن مفهوم الوكيل غامض في هذا المشروع، مما يثير التساؤل حول التوجه لخلق مهنة جديدة منافِسة لمهنة المحاماة.
نفس الاتجاه سلكته المادة 79 عندما نزعت كذلك عن المحامين احتكار الدفاع وتمثيل المتقاضين أمام المحاكم فيما يخص المنازعات ضد الإدارات والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية ومجموعاتها وهيئاتها وكذا الجماعات السلالية، ومنحتها لموظفين يمكن انتدابهم لتمثيلها أمام القضاء، وهو أمر غير مفهوم طالما توجد مؤسسات تعنى بالدفاع عن قضايا الإدارات، وهي الوكالة القضائية للمملكة المنظمة بمقتضى الظهير الشريف الصادر بتاريخ 02 مارس 1953، والوكيل القضائي للجماعات الترابية المنصوص عليه بمقتضى القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية للاضطلاع بمهام مواكبة الجماعات الترابية وهيئاتها في مجال تدبير منازعاتها ودعم دفاعها، والذي تم تعينه بموجب قرار وزير الداخلية رقم 1555.20 المنشور بالجريدة الرسمية عدد 6899 بتاريخ 13 يوليوز 2020.
كما فتحت الفقرة الثانية من المادة 376 من مشروع القانون الباب لترافع الأشخاص بأنفسهم ضد المحامين والقضاة أمام محكمة النقض إذا كانوا طرفا في الطعن، في حين يطلب من المحامي التوفر على أقدمية 15 سنة بعد التسجيل في الجدول للقبول بهذه المحكمة، ما يحرم المتقاضي من الحماية القانونية لكونه سيواجه قاضيا أو محاميا يتوفر على قدرات معرفية وقانونية عالية لا يتوفر عليها المتقاضي العادي، وهو ما من شأنه أن يضرب حقوقه كمتقاضي كما سيمس برمزية القضاة والمحامين وبمكانتهم الاعتبارية، فكان الأصوب أن يتم التعامل على قدم المساواة مع جميع أطراف الدعوى كيفما كانت وظائفهم لتحقيق النجاعة والجودة المطلوبة.
وحتى إذا تجاوزنا مسألة الترافع الشخصي أمام محكمة النقض، فسنسقط في تناقض يفرغ هذا المقتضى من مضمونه ويثير التساؤل عن جدوى اعتماده، إذ نصت الفقرة الثالثة من نفس المادة على التشطيب التلقائي على القضية من غير استدعاء الأطراف، فيما يخص عدم تقديم مقال الطعن بالنقض أو توقيعه من طرف محام لا تتوفر فيه شروط معينة أو من طرف الطاعن نفسه، فإذا كانت الفقرة التي سبقتها قد فتحت أمام هذا الأخير باب الترافع الشخصي أمام محكمة النقض في الحالة المذكورة ضد محام أو قاض، فكيف تمنعه من التوقيع الشخصي على المقال وتسحب منه حق التقاضي عبر التشطيب على قضيته؟
من جهة أخرى، أعفت الفقرة الأخيرة لنفس المادة الدولة والجماعات الترابية ومجموعاتها وهيئاتها والوصي على الجماعات السلالية، طالبة كانت أو مطلوبة، من مساعدة المحامي أمام محكمة النقض، الأمر الذي من شأنه الرفع من عدد القرارات القضائية التي قد تصدر في غير صالحها وتكون مقرونة بأداء فوائد قانونية وغرامات التأخير، مما قد يؤثر سلبا على ميزانياتها وعلى السير العادي لمرافقها وعلى أدائها، عكس لو اعتمدت محاميا مقبولا للترافع أمام هذه المحكمة الذي راكم خبرات وتجارب متعددة تمكنه من الدفاع الجيد عن مصالح هذه الإدارات والمؤسسات.
من خلال دراسة هذه المواد وغيرها من مشروع القانون رقم 02.23 المتعلق بالمسطرة المدنية، يتضح أنه يغلب عليه هاجس تصريف العدالة مع إقحام مقتضيات غير واضحة الجدوى، ولو كانت على حساب المتقاضي، فاتجه بشكل مباشر لاستهداف الحقوق الدستورية التي تضمن حق التقاضي لكل شخص للدفاع عن حقوقه ومصالحه التي يحميها القانون أمام المحاكم بمختلف درجاتها، وذلك من خلال محاصرة هذه الحقوق، تارة بمبالغ كبيرة كشرط للطعن بالاستئناف أو بالنقض، وتارة بتسليط سيف الغرامات عند الاتهام بالتقاضي بسوء نية أو بالتسويف والمماطلة، وتارة أخرى بتخويل النيابة العامة حق طلب التصريح ببطلان كل مقرر قضائي من شأنه مخالفة النظام العام وبدون قيد الآجال، إلى جانب التضييق على عمل المحامين بفتح مجال الترافع أمام أشخاص غير مؤهلين لذلك، وهو ما يضرب منظومة الدفاع ويهدد حقوق المتقاضي، التي يفترض أن يوفرها هذا المشروع عبر منح الضمانات التشريعية والمسطرية لتيسير ولوج المواطن للقضاء من أجل تحقيق العدالة وضمان حماية الحقوق، لكونه قانونا إجرائيا وشريعة عامة في المجال المسطري يحتكم إليها عند غياب نص إجرائي خاص كحل للنزاعات المطروحة.
إن كانت من حسنات تحسب لمشروع القانون، الذي عمل على تعديل 440 فصلا من القانون الجاري وإضافة 145 مادة جديدة ودمج حوالي 45 مادة كانت منظمة في نصوص وقوانين مختلفة؛ أنه تضمن مجموعة من المستجدات التشريعية والتعديلات الهامة، كما جاء في بيان أسبابه، وهي تجميع شتات المساطر المدنية والإدارية والتجارية، وتلك المتعلقة بقضاء القرب، والاستناد إلى مبدأي وحدة القضاء والتخصص فيه، والضبط القانوني للمقتضيات المتعلقة بالاختصاص القضائي الدولي، وكذا اعتماده على وسائل التكنولوجيا الحديثة في إجراءات التقاضي، ثم مراعاة المستجد التشريعي الذي عرفه قانون المسطرة المدنية الحالي، بفصل المقتضيات المتعلقة بالتحكيم والوساطة الاتفاقية منه بموجب القانون رقم 95.17 المتعلق بالتحكيم والوساطة الاتفاقية، غير أن هدف المشروع طغى عليه التخلص من النزاعات بهاجس تجاوز إشكالية بطء المساطر وتعقد مسارها وتصريف العدالة ولو بصرف المتقاضين، بدل مضاعفة جهود تطوير الإجراءات المواكبة لتوفير الخدمة القضائية سواء على مستوى البنية التحتية أو الموارد البشرية.
وإذا كان مشروع القانون قد عمل على تكريس بعض الاجتهادات القضائية كما يروج لها، فإنه يخشى من خلال اعتماده ونسخ القانون الجاري، تجاوز ما يزيد عن عمل نصف قرن من التطور والاجتهاد القضائي في عدد مهم من القضايا الأخرى، مع إقرار مقتضيات تضرب بعض أحكام الدستور، وتشكل تراجعا عن بعض المقتضيات التي رسخ لها القانون الجاري، ولذلك يعول على تدارك الأمر في مجلس المستشارين، كما أصبح لزاما إحالة مشروع القانون على المحكمة الدستورية التي لم يسبق لرئيس مجلس برلماني أن قام بها منذ إقرارها بموجب دستور 1992، ثم الإسراع بإصدار القانون التنظيمي المتعلق بالدفع بعدم الدستورية الذي طال انتظاره منذ إصدار دستور 2011، وهو ما يحتم استمرار اليقظة والنضال في مواجهة بعض مظاهر التراجع في مجال الحقوق والحريات، والتصدي لبعض الإرادات الرامية إلى تحجيم سلطة القضاء، من خلال إفراغ الأحكام والقرارات القضائية الصادرة في مواجهة الإدارة من محتواها.