التملق ومحاولات التقرب من أصحاب السلطة والنفوذ، ظاهرة عتيقة، لم يخل منها مجتمع أو تجمع على مر العصور، ولا زالت مستمرة إلى حدود اليوم، وستظل -حتما- باعتبارها سلوكا إنسانيا مثله مثل باقي السلوكات الصادرة عن النفس البشرية. في هذا الإطار، نجد أن التملق أصبح ظاهرة من مجموع ظواهر ملتصقة بالحقل السياسي وبدوائر صناعة القرار. إذ لا تخلو الساحة السياسية والحزبية من وجود المداحين والمتملقين المنتفعين، الذين يؤمنون بأن مفتاح التسلق التنظيمي وتحقيق المكتسبات المادية وتحسين الوضع الاجتماعي، رهين بمدى نيلك رضى "الزعيم" وباقي القيادات الحزبية. وأصبح تحقيق بعض المكتسبات والمصالح رهينا بمدى قربك من المسؤولين السياسيين بمختلف رتبهم، وقدرتك على التزلف إليهم والتردد على زياراتهم وتهنئتهم في كل المناسبات، وتأييدهم في الخطإ والباطل، كما في الصواب والحق.
إن ترسيخ هذه الظاهرة داخل التنظيمات الحزبية، من شأنه إنتاج طبقة من المريدين والأتباع الذين يولون بالولاء لرمز من الرموز، يوفر لهم إمكانية البروز والظهور، مقابل الولاء والطاعة والتصفيق له ولأفكاره، والترويج لمواقفه بغض النظر عن صوابيتها من عدمها.
كما أصبح الولاء للزعامات داخل بعض التنظيمات السياسية، معيارا أساسيا في اختيار الأطر وترشيحها لبعض المهام والمسؤوليات، وصار إظهار التودد والتذلل في بعض الأحيان مطلوبا من "الأتباع" تجاه قادة الصف الأول، لإثبات الكفاءة والجدارة وكسب الثقة داخل الحزب السياسي، حتى صارت علاقة بعض الأعضاء بالقيادات أقوى من علاقتهم بالمرجعية الفكرية التي تحدد انتماءهم للتنظيم ومشروعه السياسي، بحيث تجدهم لا يسجلون أدنى موقف تجاه مختلف القضايا المجتمعية، إلى حين خروج "الزعيم"، ليتبنوا حينها موقفه، ويصفقوا له بعبارات الإعجاب والتأييد والتمجيد حتى وإن كانت هذه المواقف تخالف مبادئ تنظيمهم وأوراقه المرجعية.
إن النضال السليم داخل التنظيمات السياسية يستلزم أولا وقبل كل شيء: الحرية في التفكير والتعبير. وذلك لا يتأتى إلا بالعمل على تحرير المناضلين من قيود التبعية وعقدة "القيادة". وهذه الأخيرة يجب عليها أن تتحمل مسؤوليتها الكاملة إزاء تنامي مثل هكذا ظواهر سلبية، غير مشجعة على انخراط الشباب في السياسة، بقدر ما تنفرهم وتزرع فيهم الخوف من تنميط محتمل، قد يصيبهم إذا ما انخرطوا في تنظيم سياسي، سيحولهم لأشخاص متشابهين يحملون ذات الأفكار والمواقف والرؤى، وفق قالب صنعه لهم "القائد" ورفاقه سلفا.
لذلك، صار مطلوبا من الأحزاب السياسية العمل على تمكين الشباب، وتجنب التضييق على حريتهم داخل التنظيم وفق مبررات هي في أصلها محض تقديرات تحتمل الخطأ مثلما تحتمل الصواب، مع الحرص على عدم الانزعاج من الأصوات ووجهات النظر المخالفة، التي ليست في النهاية إلا دليلا على حياة التنظيم وحيويته وتفاعله.
أما تكريس ثقافة "الزبونية الحزبية"، ستجعل النضال السياسي – لامحالة- مجرد وسيلة لتحقيق مكاسب شخصية، وليس من أجل خدمة الوطن والمؤسسات وفق تصور الحزب السياسي ومبادئه، وستنتج لنا نخبا سياسية "منافقة"، ديدنها التسلق بتقنية التملق إلى مواقع مؤثرة لتحقيق التألق وخدمة مصالحها فحسب.
بالمقابل، صار لزاما على الشباب ألا يراعوا في مواقفهم داخل أحزابهم، سوى مبادئ وقوانين التنظيم المؤطرة، وأن يعبروا عن آرائهم بكل الجرأة والقوة الممكنة، وفي إطار المسؤولية، مع احترام الأشخاص والمؤسسات، في إطار الثوابت الوطنية الجامعة، بعيدا عن المنطق المختل الذي يقول: "تملق إذا أردت أن تتألق!".