كشفت الأحداث المتعاقبة التي شهدها المغرب خلال السنوات الأخيرة، عن هشاشة مواقف نخبتنا السياسية، وفشلها في الدفاع عن مكتسبات دستور 2011، وتقاعسها عن المساهمة في عملية الانتقال الديمقراطي المرجوة، في مواجهة موجة التراجعات التي تستهدف الوطن على مختلف الأصعدة، خصوصا بعد «البلوكاج» الحكومي الذي تلا انتخابات سنة 2016، والذي انتهى بإعفاء رئيس الحكومة المكلف آنذاك، الأستاذ عبدالإله بنكيران، ثم تشكيل حكومة أقل ما يمكن أن يُقال عنها، إنها جاءت عكس آمال ناخبي السابع من أكتوبر، بأداء سياسي تعتريه الكثير من الأخطاء المنهجية والتقديرية، التي تضرب في عمق الممارسة السياسية السليمة. الأمر الذي ساهم بشكل كبير في تنامي حالات الإحباط والتيه لدى قطاع واسع من المواطنين، وبالأخص الشباب، الذين وقفوا في لحظات عديدة حائرين، أمام كمية الأحكام القضائية القاسية، الصادرة في حق صحافيين بارزين، ونشطاء حراكي جرادة والريف، في ظل صمت مطبق لسياسيي وحقوقيي البلد، إلا من رحم ربي. وما زاد طينة بلة، هو ذاك الإصرار، الذي طبع قرارات الفاعلين السياسيين، على توقيع شيك على بياض لصالح مربع السلطة ضدا على مبادئ أحزابهم، وهويتها، وشعاراتها التاريخية، التي أوصلتهم إلى مواقع التدبير والمسؤولية، ومنحتهم ثقة الناس وأصواتهم، غير آبهين بما قد يشكله فعلهم السياسي/اللاسياسي من تيئيس للمواطنين من جدوى العمل السياسي، وهم يشاهدون أن مواقف ممثليهم -الذين انتخبوهم قبل ثلاث سنوات- في واد، وتطلعات الشعب في واد آخر. من المعهود في التنظيمات الحزبية، أنها تختار فكرة أو فلسفة للتعبير عن هويتها، لكن مع تسارع الأحداث مؤخرا، صار من الواضح أن الكثير من المحسوبين على النخبة السياسية، فقدوا بوصلتهم، ولم يعودوا قادرين على تحديد مواقفهم من الأحداث، والأزمات، والقرارات، وما إذا كان عليهم الاستبشار والإشادة بحدث أو قرار ما، أو رفض واستنكار توجه اَخر، في غياب تام لأي مرجعية تمثل لهم بوصلة في تحديد المواقف، وكأن كل المرجعيات والعقائد السياسية للأحزاب الموجودة، أصبحت فجأة هي نفسها، اللهم ما دوّن في أوراقها المنسية من مبادئ وأهداف «أصبحت غير صالحة لممارسة السياسة»، كما يروج لذلك النموذج الجديد من السياسيين الذي تركوا انتماءاتهم الحزبية في المقرات، ليقدموا أنفسهم ب»بروفايلات» تقنية أو شبه أكاديمية، مستعدة دوما لشغل المناصب والمسؤوليات، والعزف على أي لحن تتبناه السلطة وتدعمه. بالمقابل، وفي ظل هذا الوضع، أصبح الناس مخذولين، منهم من لا يعرف حتى ما هو حقه، وما ليس من حقه.. ضاعت بوصلتهم بين قانون يُقرأ وآخر يطبق.. بين وطن ملون على التلفاز، وآخر بالأبيض والأسود مرئي بالعين.. بين مبدأ حصاده الخسران، وتملق أو تسلق نتيجتهما التألق… إن بوصلة الفاعل السياسي المغربي، تعاني من عطب حقيقي، فهي منذ مدة لم تعد تشير إلى «القطب الشمالي» كي يتم تحديد المسار الصحيح لعملها نحو تحقيق تطلعات الشعب المغربي، كما أن إبرتها عالقة باتجاه معاكس كليا لأي انتقال ديمقراطي محتمل. لذلك، فإن الفاعل الحزبي الذي يستسيغ تدخل الغير في القرارات الداخلية لتنظيمه السياسي، وفي توجيه انتخاب هياكله، ويقبل تشكيل أو المشاركة في حكومة هجينة تمت خياطتها على مقاس السلطة والجهات النافذة، علما أنه لا رأس مال انتخابي له سوى مقدار مصداقيته عند الناس، حري به قبل رفع شعار «الاستمرار في مسلسل الإصلاحات القطاعية»، أن يقف وقفة حقيقية مع ذاته لإصلاح بوصلته أولاًّ، لكي لا يتوه في صحراء سياسية بزاده المتواضع، انتهى كل من فقد بوصلته فيها إلى «جيفة»، تنتظر استكمال عملية «تحلل» جثتها.