يوم بيوم نور الدين مفتاح يكتب: حداثيون على سنة الله ورسوله! نور الدين مفتاح نشر في 21 مارس 2024 الساعة 9 و 49 دقيقة أنا متأكد من أن التحكيم من طرف إمارة المؤمنين سيجد خيط التوافق، حتى في قضايا زواج القاصرات الذي هو اليوم بيد القاضي، والتعدد لأسباب قاهرة وهو بدوره بيد القاضي. ولكن الأهم من هذا أن التطور المجتمعي الحقيقي لا يأتي بالنصوص بل يأتي بحل إشكاليات حقيقية لا سبيل لمدونة الأسرة لحلها، وهي حل إشكالية التعليم وتعميم التمدرس والاهتمام بالفتاة في العالم القروي ومحاربة الأمية والقضاء على الفقر ومحاربة الفساد. وهذا يتطلب طبقة سياسية حقيقية وذات مصداقية، وهو ما لا نراه اليوم حيث تعلو أخبار بارونات المخدرات وناهبي المال العام من المنتخبين على أخبار القوانين، بما في ذلك هذه المدونة التي أصبحت في هذه الأجواء مجالا للمزايدات، بحيث سيظل المجتمع في واد ونخبه في واد آخر. نور الدين مفتاح [email protected]
هذا رمضانٌ استثنائيّ بكل المقاييس. نحن لا نتحدث عن الثابت الذي لا يتغير ويتعلق بمرتبة هذا الشهر العليا عند المسلمين، وعند المغاربة، وقدسيته ومكانته التي قال فيها الله عز وجل إن «كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به»، إضافة إلى طقوسه التي أعطت توليفة الديني والسوسيولوجي لها طعما خاصا لا يمكن أن يوجد في بقية الشهور أو بقية المجتمعات.
هذا الشهر كريم ومبارك، وها هو هذه السنة استثنائي كما قلنا على الأقل بثلاثة أشياء نبسطها هنا دون أن تفسد لحلاوة الصيام والقيام مذاقا.
أولا، هذا الرّمضان يمزق الأحشاء، ويدمي القلوب، ويدمع العيون، ونحن نرى أبشع حرب إبادة جماعية ضد إخواننا في غزة. الأطفال والنساء جائعون، والرجال تائهون يبحثون عن السراب، والجميع ينتظر في أي لحظة أن يلتحق بالرفيق الأعلى بقصف همجي ظالم من العدو الصهيوني الذي لا يرعوي ولا حدود لبطشه. فعن أي فطور ستتحدث المرأة الغزية وعن أي سحور سيتكلم الرجل الغزي، والناس ما عادوا يجدون اليوم حتى «الخبيزة» ليملأوا بها البطون؟
إنها قيامة تدير فيها جماعة من المجانين بتل أبيب حربا غير مسبوقة، هي أكثر من المحرقة التي تعطي الشرعية لهذا الكيان ليكون مدلل العالم الدموي؟ وحتى عندما نتابع الخلافات بين رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية جو بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فإننا نكون كمن يتابع مسرحية هزلية. بضع كلمات من البيت الأبيض، وبضعة صناديق مؤن مرمية من الطائرات، ثم مساندة لإسرائيل لمواصلة العدوان. أهذا ما يفعله الغرب اتجاه روسيا في حربها ضد أوكرانيا؟ وهل وصلت أصلا أوكرانيا إلى ما وصل إليه الشعب الفلسطيني المحتل والمقتل منذ 76 سنة، وكأن هذا الشعب حيوانات؟! لقد قالوا إنهم حيوانات وتعاملوا معهم كذلك أمام مرأى ومسمع العالم.
نعم تحدثوا عن رمضان، وعن خصوصيته، وعن هدنة فيه، وفي النهاية جعلوا من هذا الشهر الفضيل مشجبا جديدا ليعلقوا عليه المقاومة الباسلة للاحتلال، ليقولوا إن هذه المقاومة هي من ترفض الهدنة لتستغل رمضان؟ ماكِرون وقتلة؟ هناك مليون ونصف مليون فلسطيني في رفح لوحدها تستعد إسرائيل لإبادتهم، فماذا يقترحون عليهم؟ أن يقبلوا هدنة من ستة أسابيع وتدخل مساعدات للتخفيف من التجويع، حتى إذا سمّناكم عدنا بعد الهدنة لقتلكم، أي منطق هذا؟ وأي غريزة انتقام؟ وكم من القتلى والجرحى تريدون لإشفاء غليل المتطرفين الدينيين في حكومة القتلة الإسرائيليين؟
قلوبنا معكم، وفطورنا مرّ ونحن نتابع محنتكم، ودعاؤنا هو ما نملك لتتكسر شوكة الغاصبين وينهزم القتلة المجرمون، فطوبى لكم بحمل شرف المقاومة من أجل التحرر والانعتاق، وما ضاع حق وراءه طالب.
ثانيا، وبعدما يخرج الواحد منا منهكا وهو يتابع ما يجري في غزة وفي الضفة وفي المسجد الأقصى، ويصل إلى السوق، فإنه يكتوي بلهيب آخر. وبدون مبالغة، يمكن أن نقول إن هذا هو أغلى رمضان مغربي على الإطلاق، فأسعار الخضر في عنان السماء، والقرع الأخضر على سبيل المثال يصل ثمنه إلى 20 درهما، والطماطم الأساسية في شربة الشعب «الحريرة» تصل إلى خمسة دراهم، والدجاج يصل إلى 25 درهما. ويصف ربورتاج دال ضمن هذا العدد حال امرأة تخرج إلى السوق وتنتظر نهاية تسوق الناس، لعل الباعة يخفضون أسعار ما بقي عندهم من مواد لكي تستطيع اقتناءها.
هذا الرّمضان بقفته قاس، والسبب لا يمكن أن نجده في المريخ وفي تبريرات الرسميين. إن الحكومة مسؤولة عن هذه المحنة الاجتماعية التي يعيشها أكثر من 25 مليون مغربي يمكن تصنيفهم في عداد الفقراء. فكيف يعقل أنه في بلد لا يتجاوز الحد الأدنى للأجور فيه 3000 درهم أن تعيش أسرة في رمضان بهذا المستوى من الغلاء الفاحش؟
إن التعلل بالتضخم والظروف الدولية لم يعد يجدي. لقد انتهجت هذه الحكومة سياسة ليبرالية متوحشة مغلفة بما يسمى بالدولة الاجتماعية. دعمت كبار الفلاحين، واهتمت بالفلاحة التصديرية، وأهلكت الموارد المائية وأشعلت أسعار المواد الاستهلاكية. فكيف يرتفع ثمن زيت الزيتون ب 100 في المائة، وتصبح الأسماك ترفا خاصا بالمرفهين.
هذه المحنة الشعبية وصمة عار على جبين الحكومة، كما هي هذه الساعة الإضافية التي ما إن عادت إلى طبيعتها حتى انفرجت كرب الناس وأحسوا بنشوة زمنهم البيولوجي الطبيعي. لقد أضفتم ساعة بناء على دراسة مغشوشة في حكومة كنتم مشاركين فيها، بدعوى اقتصاد الطاقة، فها هي كلفة الطاقة في عنان السماء يؤديها المواطن ويؤدي معها من راحته اليومية ساعة إضافية تعسفية تحكمية لا شعبية ولا شرعية.
ثالثا، نعيش في مطلع هذا الشهر الفضيل على إيقاع صدام مجتمعي حول موضوع حساس يتعلق بالأسرة. لقد حققنا قفزة معتبرة في 2004 عندما انتزعنا تعديلات تليق بمجتمع عصري يريد أن يعيش وفق المكاسب الحقوقية الكونية مع الحفاظ على هويته الدينية، وأصبحت الأسرة مسؤولية مشتركة بين الرجل والمرأة، وتم تقييد زواج القاصرات وتعدد الزوجات، وأعطيت الولاية للمرأة في الزواج وغير هذا كثير مما جعل هذه المدونة في حينها ثورة ولو أنها استغرقت 4 سنوات من المخاض العسير.
اليوم نحن أمام امتحان جديد، وبعد 20 سنة كان لابد أن يعاد النظر في هذه المدونة بناء على نتائج الممارسة، وقد أعطى الملك بصفته أميرا للمؤمنين للجنة خاصة مهلة 6 أشهر لترفع إليه مشروع تعديلات ستعرض بعدها على المؤسسة التشريعية كمشاريع قوانين.
إن الصدام الذي نعيشه اليوم ناتج عن سكيزوفرينيا نتعايش معها منذ الاستقلال، لقد ترك لنا الاستعمار مجالا واحدا مرتبطا بالشريعة وهو الأحوال الشخصية، وما تبقى أخضعه للقوانين الوضعية. وكما هو الحال في الحدود بين الدول الموروثة عن الاستعمار، فإن لا أحد اليوم يناقش الحدود في الشريعة وعلاقتها بالقانون الجنائي، وبالتالي أصبحنا في عموم حياتنا غربيين في الشارع محافظين في البيت، متحررين ومتشددين في آن، نلبس الجلابة وتحتها ربطة العنق، ونستبدل البلغة بالحذاء الغربي.
إن باب الاجتهاد في إطار المقاصد يجب أن يظل مفتوحا، ولكن الذي يخلق الصدام هم المتطرفون في الجانبين، فبعض من يسمون أنفسهم بالحداثيين أو ما بعد الحداثيين يعتبرون استفزازيين عندما يدافعون مثلا عن أسرة ليست بالضرورة متكونة من رجل وامرأة ولا بالضرورة بعقد زواج. هذا تهييج، لأنه أمر لن يحصل أبدا في مغرب ينص دستوره على الدولة الإسلامية ويقوده أمير المؤمنين. فلا يمكن تصور أسرة من رجلين أو سحاقيتين. كما أن التطرف من الجانب الآخر هو أن تتحرك آلة التكفير والشخصنة والتهييج في أمور يمكن أن تعالج بالاجتهاد. فلماذا مثلا التعصب للمذهب المالكي وقد تجاوزناه في ولاية المرأة في الزواج، وكيف يعقل أن يجد المحافظ مبررا لعدم تمكين المرأة الحاضنة بعد الطلاق من الولاية على أبنائها، بحيث إن مجرد استخراج عقد ازدياد للابن المحضون يتطلب إذنا من الطليق مما يفتح الباب للابتزاز وضياع الحقوق. ونفس الأمر ينطبق على التعصيب الذي يجب أن يراجع بما يحفظ حقوق النساء الوارثات، أو بخصوص الوصية التي تستند على حديث شريف يقال إنه ضعيف وهو «لا وصية لوارث».
أنا متأكد من أن التحكيم من طرف إمارة المؤمنين سيجد خيط التوافق، حتى في قضايا زواج القاصرات الذي هو اليوم بيد القاضي، والتعدد لأسباب قاهرة وهو بدوره بيد القاضي. ولكن الأهم من هذا أن التطور المجتمعي الحقيقي لا يأتي بالنصوص بل يأتي بحل إشكاليات حقيقية لا سبيل لمدونة الأسرة لحلها، وهي حل إشكالية التعليم وتعميم التمدرس والاهتمام بالفتاة في العالم القروي ومحاربة الأمية والقضاء على الفقر ومحاربة الفساد. وهذا يتطلب طبقة سياسية حقيقية وذات مصداقية، وهو ما لا نراه اليوم حيث تعلو أخبار بارونات المخدرات وناهبي المال العام من المنتخبين على أخبار القوانين، بما في ذلك هذه المدونة التي أصبحت في هذه الأجواء مجالا للمزايدات، بحيث سيظل المجتمع في واد ونخبه في واد آخر.
عموما، كان عندنا يسار لم يلتفت إلى البعد الديني المتأصل في المجتمع إلا بعد فوات الأوان تقريبا، وعندنا يمين يقول «إنه حداثي على سنة الله ورسوله!»(*)، وعندنا إسلاميون يريدون تحفيظ المرجعية الإسلامية في المحافظة العقارية. المشكل اليوم ليس إيديولوجيا ولكنه بالفعل قضية مجتمع الكل يتحدث باسمه ولا أحد يعرف حقيقته ومعاناته مع مشاكله المادية والهوياتية، مجتمع يعرف فقط أنه مغربي ينتظر الفرج والعيش بكرامة وما تبقى تفاصيل. ورمضان كريم، وقلوبنا مع إخواننا في فلسطين.
(*) قالها أبو الغالي قيادي البام نقلا عن الحقوقي أحمد ويحمان مع تغيير اليساري بالحداثي