محمد كريم بوخصاص مع إطلاق الحكم الدولي الأرجنتيني "كليمون توريان" صافرة نهاية المباراة المجنونة التي جمعت منتخبي السنغال والإكوادور مساء الثلاثاء الماضي في استاد خليفة الدولي بالدوحة، اهتزت مقهى وسط القنيطرة وتعالت تصفيقات مرتاديها في مشهد أثار فضول كل المارين الذين تسطروا في جنباتها، قبل أن يُدركوا سبب الاحتفال من مشاهد العناق بين لاعبي أسود الترانغا ودموع مدربهم "أليو سيسيه" التي تسللت من عينيه لهول الإنجاز الذي لم يتكرر منذ جيل "الحاجي ضيوف" في 2002، ومن النتيجة المرسومة في الشاشة والتي تظهر فوزا سنغاليا بهدفين لهدف أمام منتخب أمريكي لاتيني قوي ومتمرس. تضامن انتقل إلى مواقع التواصل الاجتماعي مع تبادل النشطاء المغاربة التهاني والتبريكات بتأهل التيجانيين لمواجهة الإنجليز في دور الستة عشر، لدرجة أن اسم السنغال تصدر الترند المغربي لساعات.
نفس مشهد الابتهاج بفوز السنغاليين ظهر قبل أيام في جل المقاهي المغربية على امتداد ربوع الوطن، كما حصل يوم 22 نونبر الماضي عندما سَطَّرَ المنتخب السعودي ملحمة تاريخية لن تنسى في ملعب لوسيل بهزمه المنتخب الأرجنتيني بقيادة ليونيل ميسي.
أجواء الفرح بانتصارات العرب والأفارقة في مونديال قطر ليست حكرا على المغاربة، بل تكاد تكون تعبيرات موحدة في كل المنطقة العربية والإفريقية، كما ظهر من الصور والفيديوهات التي تؤرخ لاهتزاز مقاهي بمصر والجزائر وسوريا وفلسطين وتونس فرحا بهدف زكرياء أبو خلال في الدقيقة الثانية من الوقت بدل الضائع، والذي ختم به مسلسل الإبهار المغربي في ملعب الثمامة الجميل أمام "شياطين" بلجيكا التي اعتقد كثيرون أنها لا تُصَفَّدُ، وخروج سنغاليين للاحتفال بالفوز المغربي الثمين في شوارع دكار. وتزامنت هذه المشاهد الجميلة مع النجاح المبهر لقطر في تنظيم المونديال والذي بث الشعور الجمعي لدى العرب بأنه مونديال العرب، كما أعلن عن ذلك أمير الإمارة الثرية بنفسه في افتتاح المونديال في ال21 من نونبر.
الانتماء والمصير المشترك
منذ الجولة الأولى من دور المجموعات، حظيت المنتخبات العربية بدعم منقطع النظير من السكان والزائرين، ونالت منتخبات المغرب والسعودية وتونس أكبر قدر من المتابعة نظرا للنتائج الإيجابية التي حققتها في أولى مبارياتها بالمونديال، خاصة بعد الظهور الباهت لقطر في المباراة الأولى، وتزينت ملاعب البيت والثمامة ولوسيل بالأعلام العربية التي تَوَحَّدَ حاملوها في رسم أحلى صورة عن تضامن عربي فريد وشعور بالانتماء والمصير المشترك.
ليست المشاركة العربية في مونديال قطر الأولى من نوعها، فللعرب جولات وصولات في المونديالات السابقة، لكنها المرة الأولى التي تحتضن دولة عربية المونديال العالمي، لذلك يشعر كل العرب أنهم يلعبون في "بيتهم" ويجدونها فرصة لتقديم أجمل صورة باسم كل العرب، خاصة بعد النجاح المبهر للمونديال على مستوى التنظيم الذي أصبح مرجعيا.
تشارك في مونديال قطر أربعة منتخبات عربية، وهي إضافة إلى البلد المنظم قطر، كل من المغرب والسعودية وتونس، في تكريس للرقم القياسي المحقق لأول مرة في نسخة روسيا 2018 عندما شارك رباعي المغرب والسعودية ومصر وتونس. وعكس النسخ المونديالية السابقة، فقد استفادت المنتخبات العربية هذه المرة من القرب الجغرافي وحسن ضيافة أهالي قطر لتسجيل أقوى حضور جماهيري عربي في تاريخ المونديالات، والذي زاد الشعور الجمعي بتسجيل تألق عربي غير مسبوق.
هذه الأجواء والظروف، إضافة إلى ارتفاع العمالة الإفريقية في قطر والبلدان الخليجية، ساهمت في توفير قاعدة جماهيرية واسعة لباقي المنتخبات الإفريقية المشاركة في المونديال، والتي كان أنصارها يتزاحمون في المدرجات في مباريات منتخباتها مدعومين بالمشجعين العرب الذين يتوحدون في دعم السنغال والكاميرون وغانا.
وعلى امتداد نسخ المونديال ال22، حظيت ثمانية منتخبات عربية بشرف تمثيل العرب 28 مرة في المحفل العالمي، ويبقى المغرب وتونس والسعودية الأكثر ظهورا بست مرات، تليهم الجزائر بأربع مرات، ومصر بثلاث مشاركات، ثم مشاركة وحيدة لكل من الإمارات والكويت والعراق. وبدون احتساب الأهداف التي سجلها العرب في مونديال قطر فإن غلة المنتخبات العربية من الأهداف بلغت 61 هدفا، ويعتبر المنتخب المغربي الأكثر تسجيلا بواقع 14 هدفا، تليه الجزائر وتونس ب13 هدفا.
ورغم عدد مشاركاتها في الدورات السابقة، لم تتخط المنتخبات العربية دور المجموعات إلا ثلاث مرات، الأولى في مونديال المكسيك سنة 1986 بعد الانتصار التاريخي للمنتخب المغربي على البرتغال بثلاثة أهداف لهدف، والثانية في مونديال أمريكا سنة 1994 بالتفوق السعودي التاريخي في المجموعة التي ضمت المغرب أيضا، والثالثة في مونديال البرازيل في 2014 مع الجزائر، قبل أن يتكرر المشهد هذا العام بعبور أسود الأطلس للدور ال16 عن جدارة واستحقاق، فيما يبقى أمل المغرب قائما في تجاوز هذا الدور الذي عجزت كل المنتخبات العربية المتأهلة عن تخطيه في المرات السابقة، حين خسر المغرب قبل 36 عاما أمام ألمانيا الغربية بهدف لصفر، وانهزمت السعودية بثلاثية لهدف أمام السويد، وضَعُفَت الجزائر أمام ألمانيا في الأشواط الإضافية بهدفين لهدف واحد.
صولات الأفارقة
وتبقى المشاركة الإفريقية المونديالية أفضل من العربية على مستوى النتائج المحققة، حيث شاركت منتخبات القارة السمراء 49 مرة، ويتصدر المنتخب الكاميروني الأفارقة بثماني مشاركات، يليه المغربي والتونسي والنيجيري بست مشاركات، والجزائري والغاني بأربع مشاركات، ثم المنتخب المصري والجنوب إفريقي والسنغالي والإيفواري بثلاث مشاركات، فمنتخبات الكونغو الديمقراطية وأنغولا والطوغو بمشاركة واحدة لكل منها.
فضلا عن ذلك، يُعَدُّ الوصول إلى نصف النهائي أكبر إنجاز إفريقي، حققته ثلاثة منتخبات، وهي الكاميرون سنة 1990 والسنغال سنة 2002 وغانا سنة 2010 في انتظار تكرار هذا السيناريو من طرف المغرب أو السنغال في مونديال قطر 2022.
ويبقى المنتخب المغربي صاحب قصب السبق في كل شيء، فهو أول فريق إفريقي يحصل على نقطة في المونديال، حين تعادل مع بلغاريا في مونديال 1970 بالمكسيك بهدف في كل شبكة، وكذلك أول فريق إفريقي يتخطى الدور الأول سنة 1986، بينما كانت تونس أول فريقي إفريقي يفوز بمباراة في كأس العالم، حيث فازت على المكسيك بثلاثة أهداف لهدف في مونديال الأرجنتين عام 1978.
"أنا" جمعية !
إجمالا، يشكل مونديال قطر أفضل فرصة للمنتخبات العربية والإفريقية لتحقيق أفضل نتيجة ممكنة، خاصة في ظل التعبئة وحجم التضامن الواسع بين مختلف الجماهير، والذي لا يوجد مثيله بين منتخبات الجغرافيات والإثنيات والقارات الأخرى، وبدا جليا من خلال انتصار المغرب على بلجيكا بوجه خاص والسعودية على "أرجنتين ميسي" والسنغال على الإكوادور وغانا على كوريا الجنوبية حتى الآن.
وفي محاولة لتفسير هذا التضامن العربي والإفريقي الملحوظ، اعتبر عالم الاجتماع المغربي أحمد شراك أن مباريات العرب والأفارقة بقطر فجرت ما سماه ب"الوجدان الروحي والوجدان الشعبي ووجدان الانتماء إلى إفريقيا وإلى العالم العربي، وعموما إلى المجتمعات الفقيرة أو التي تسير نحو التقدم والتنمية"، موضحا أن في ذلك "تفريغا لمكبوتات وعلى رأسها الانتصارات في الميدان الاجتماعي والسياسي والاقتصادي داخل الميدان الرياضي وهو الميدان الجماهيري، لأن فتنة كرة القدم تكاد تكون فتنة عامة وعمومية تلتقي فيها هكذا مشاعر وهكذا انتماءات وولاءات ضمن مجموعات إثنية أو قارية"، مشيرا إلى أن "اللحظات المبهجة قد تجعل المنتمي يفجر فرحه اعتزازا بذاته واعتزازا بقيمه واعتزازا بالمنظومات الاجتماعية".
ومضى شراك في توصيف الظاهرة بالقول: "صحيح قد يعبر عن هذا الفرح في أحيان غير قليلة بالعنف المادي أو العنف اللفظي، لكن لسان العربي والإفريقي في المجمل يريد أن يقول نحن أمة قادرة على الإنجاز الشعبي، وفي المقابل أمة مهملة على صعيد السياق الاجتماعي حيث تكثر البطالة والتسول والتهميش بالمعنى الواسع في الميادين الاجتماعية والسياسية والاقتصادية".
وختم شراك تحليله قائلا: "في كل الأحوال لا شك أيضا أن إقامة هذا المهرجان العالمي في دولة قطر كدولة عربية وإسلامية قد عزز هذا الانتماء وشحنه بشحنات نفسية خاصة مرتبطة بالهوية، مما عمق روح التضامن بين الشعوب العربية والإسلامية، حيث نجد التضامن حاضرا في إفريقيا وفي المشرق العربي وكافة الأمة العربية والإسلامية، ومن هنا فهو ليس تضامنا فقط بل هو تعبير عن أنا جمعية للإنسان من الماء إلى الماء".