لوحظ منذ تولي الملك محمد السادس الحكم تغيرا كبيرا في توجهات الدبلوماسية المغربية التي اتسمت بالأساس بمحاولة تنويع الشركاء الخارجيين، حيث تم استهداف الصين والهند اليابان وبعض دول جنوب آسيا بدل الاقتصار على دول التحاد الأوربي والولاياتالمتحدةالأمريكية، إلى جانب التركيز على الدول الإفريقية كأولوية من ألويات السياسة الخارجية حيث شهدت تكثيفا متواترا للزيارات الملكية خلال السنوات الأخيرة والتي انتهت بانضمام المغرب إلى منظمة الاتحاد الإفريقي. لكن بالموازاة مع ذلك ، لوحظ ضعف المشاركة الرسمية المغربية في الساحة العربية خاصة فيما يتعلق بالقمم العربية، حيث لم يحضر الملك بصفة شخصية إلا مرات لبعض القمم العربية، فيما كان يكلف شقيقه الأمير مولاي رشيد أو وزراء الخارجية المتعاقبين بتمثيله، في الوقت الذي تشارك فيه أغلب الدول العربية بوفد رفيع على مستوى الملوك ورؤساء الدول. ولعل عدم حضور الملك للقمة المنعقدة مؤخرا بعمان، على الرغم من الحضور الشخصي للعاهل الأردني للرباط ليعكس بشكل جلي ثوابت هذه السياسة اتجاه العالم العربي . وبالتالي يتم التساؤل عن العوامل الكامنة وراء هذا الموقف من طرف صانع القرار الدبلوماسي بالمغربي 1- تحول الثقل العربي
منذ استقلال المغرب، حظيت الساحة العربية باهتمام خاص سواء من طرف الملك الراحل محمد الخامس الذي قام بزيارات رسمية إلى بعض الدول العربية كمصر عبد الناصر التي كانت مركز النفوذ آنذاك في المنطقة العربية بالإضافة إلى سوريا وبعض الدول العربية الأخرى. في حين شكل المغرب في عهد خلفه الملك الراحل الحسن الثاني قبلة للمؤتمرات العربية والإسلامية، كمؤتمر الرباط، ومؤتمري فاس، حيث تحول فيها المغرب إلى وسيط بين مختلف الدول العربية لفض الخلافات بين الزعماء العرب والتقريب بين وجهات النظر فيما يتعلق بالعديد من المشاكل التي كانت تعاني منها الساحة السياسية العربية وعلى رأسها قضية فلسطين.
وبالتالي فقد كان الاهتمام الرسمي بهذه الرقعة الملتهبة يرتبط بالأساس إلى تداعيات الحرب الباردة التي أدت إلى انقسام بين معسكرين عربيين يرتبط الأول بموسكو والثاني بواشنطن، حيث كان كل محور يحاول تحقيق مكاسب على حساب المحور الآخر سواء من خلال الانقلابات العسكرية، أو توظيف المعارضات السياسية، مما كان يستدعي الحضور الدائم والاهتمام المتواصل بمجريات هذه المنطقة. وهذا ما دفع الملك الراحل الحسن الثاني إلى وضع مجريات هذه المنطقة ضمن أولوياته وانشغالاته الدبلوماسية. في حين أن ما عرفته المنطقة العربية من تحولات سياسية، خاصة بعدما الانهزام العسكري للزعيم عبد الناصر أمام الجيش الإسرائيلي، و تداعيات الحرب العراقية الإيرانية، وما تبعها من مخلفات سياسية تمثلت في الاحتلال العراقي للكويت، والقضاء الأمريكي على نظام صدام حسين وما ترتب عنه من فراغ سياسي استغل من طرف الحركات الجهادية لخلق المزيد من التمزقات العربية حول المنطقة العربية إلى ساحة للتجاذبات بين القوى الإقليمية ( كإيران ، و تركيا ، وإسرائيل ) و مناطق نفوذ بين القوى الدولية المتمثلة في الولاياتالمتحدة وروسيا على الخصوص.
وقد توسع شرخ هذه التمزقات بعد أحداث ما سمي بالربيع العربي الذي أدى إلى تحويل سوريا كقوة إقليمية عربية إلى ساحة حرب ومنطقة نفوذ لقوى إقليمية كإيران وإسرائيل، وتركيا، وقوى جدولية كالولاياتالمتحدة وروسيا، في حين أدى تهاوي بعض الأنظمة السياسية في كل من مصر، وتونس، وليبيا، واليمن إلى مزيد من عدم الاستقرار في المنطقة. ولعل هذا ما دفع بصانع القرار الدبلوماسي إلى ضعف اهتمامه بمجريات هذه المنطقة، والذي تمثل بالخصوص في عزوف العاهل المغربي عن حضور القمم العربية منذ مارس 2005 حيث شارك في القمة العربية العادية ال17 والتي احتضنتها الجزائر، لكنه غاب عن باقي القمم إلى غاية اليوم . 2- البرجماتية السياسية
يرى العديد من المحللين أن الملك محمد السادس، بخلاف والده- يميل إلى رؤية مغايرة في تفعيل العلاقات العربية - العربية، انطلاقاً من الهاجس الاقتصادي وخيار التنمية.
ولعل هذا ما دفعه إلى الحفاظ على رئاسة لجنة القدس نظرا لما تكرسه من شرعية دينية وإشعاع سياسي للمؤسسة الملكية منذ المؤتمر الإسلامي الذي عقد في 1969 بالمغرب بعد إحراق المسجد الأقصى، وتوظيف وكالة بيت مال القدس التي أنشأها الملك الراحل الحسن الثاني للإشراف على مشاريع ترميمية وسكنية بالقدس. كما انطبعت علاقاته في التعاطي مع تطورات القضية الفلسطينية بدعم الشرعية والتوسط لدى إسرائيل من أجل استئناف مفاوضات السلام نظرا لما يتوفر عليه من شبكة علائقية وشعبية لدى الإسرائليين المنحدرين من أصول مغربية أو أولئك المتواجدين في مختلف العواصم الأوربية كباريس، وبروكسيل أو بشمال أمريكا ككندا والولاياتالمتحدةالأمريكية. في حين عمل، خاصة بعد تداعيات ما سمي بالربيع العربي، إلى تمتين شراكته الاستراتيجية مع دول التعاون الخليجي التي تهم الجوانب المالية والاستثمارية مقابل الدعم العسكري والسياسي والدبلوماسي. ولعل هذا المنظور البرجماتي الذي يميز صانع القرار الدبوماسي سواء على الصعيد الداخلي من خلال الاهتمام بكثرة التدشينات وفتح الأوراش أكثر من إلقاء الخطب، وعقد الندوات الصحفية ، أو على الصعيد الخارجي من خلال الاهتمام بعقد شراكات اقتصادية بدل تنظيم وحضور المؤتمرات التي ميزت سلفه ، هو الذي قد يفسر تقليل الملك من حضور العديد من القمم العربية بما فيها تلك التي يتم تنظيمها من طرف بعض الدول العربية الحليفة .
فقد "كان محمد السادس قد أعد عدته لحضور قمة الرياض التي انعقدت في مارس 2007، قبل أن يلغي سفره في اللحظات الأخيرة وأرسل شقيقه الأمير مولاي رشيد رئيسا للوفد المغربي والذي مثل المغرب أيضا في القمة العربية ال20 التي انعقدت في دمشق في مارس 2008 ، وفي القمة ال21 التي عُقدت بالرياض في مارس 2012،" في حين كان يكتفي بالنسبة لقمم أخرى بتمثيله من طرف وزراء خارجيته كوزير الخارجية السابق محمد بنعيسى ، ثم الطيب الفاسي الفهري حين كان وزيرا للخارجية ثم سعد الدين العثماني ثم صلاح الدين مزوار الذي مثل الملك في قمة نواكشوط .
وقد أدى هذا المنظور البرجماتي في التعامل مع القمم العربية ، ليس فقط إلى الغياب المتكرر للملك محمد السادس عن حضور القمم العربية، التي تنعقد مرة كل سنة، أو تلك القمم العربية الاستثنائية ، بل أيضا إلى توجيه انتقادات صريحة إلى مختلف الاختلالات التي تعاني منها هذه القمم . فقد سبق للديوان الملكي أن أصدر بلاغا سنة 2009 بشأن عدم حضور الملك شخصيا في القمة العربية الاستثنائية بالدوحة وفي القمة العربية الاقتصادية بالكويت، بعدم الاكتفاء على التأكيد على عدم الحضور الشخصي في القمتين؛ بل حمل رسالة هامة وقف من خلالها بصراحة على مجموعة من الاختلالات التي تطبع العمل العربي المشترك في إطار الجامعة العربية، والتي تجعل من عقد القمم العربية أمرا غير مجد بالمرة. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل وصل الأمر إلى اعتذار المغرب عن تنظيم القمة العربية 27 الذي كان من المفروض حسب الترتيب الأبجدي أن تنظمها المملكة المغربية لتؤول إلى موريتانيا التي قبلت باستضافة هذه القمة. وقد برر المغرب اتخاذ هذا القرار في بلاغ لوزارة الخارجية والتعاون الذي أشار إلى أن القرار المغربي اتخذ فعلا "بعد مشاورات تم إجراؤها مع عدد من الدول العربية الشقيقة"، دون أن يذكرها بالتحديد، مكتفيا بالقول أن "القمة العربية لن تُعرض فيها أية مبادرات مهمة وتُتخذ فيها قرارات هامة يمكن عرضها على القمة، وبالتالي سيكون الاجتماع "مجرد مناسبة للمصادقة على توصيات عادية"، بعد إلقاء الخطب التي "تعطي الانطباع الخاطئ بالوحدة والتضامن بين دول العالم العربي". وعليه، فإن المغرب "يتطلع إلى عقد قمة للصحوة العربية، ولتجديد العمل العربي المشترك والتضامني، باعتباره السبيل الوحيد لإعادة الأمل للشعوب العربية ".
ويبدو أن نفس هذا المنظور هو الذي كان وراء عدم حضور العاهل المغربي لقمة عمان. إذ على الرغم من رهان العديد من المتتبعين على إمكانية الحضور الشخصي للملك في هذه القمة بعد ما استقبل العاهل المغربي يوم 6 يناير 2017 في القصر الملكي بمراكش ناصر جودة، نائب رئيس الوزراء الأردني وزير الخارجية والمغتربين، مبعوثا من العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، الذي جاء حاملا رسالة دعوة للملك محمد السادس لحضور القمة ، و بعد الزيارة الرسمية للعاهل الأردني للمملكة والتي أجرى من خلالها مباحثات سياسية حول قضايا منطقة الشرق الأوسط ، في أفق تنظيم القمة العربية المنعقدة بعمان يومي 28 و 29 مارس 2017 ، فقد اختار العاهل المغربي عدم الحضور الشخصي لهذه القمة مفضلا تمثيله من طرف وزير خارجيته صلاح الدين مزوار. وعدم توجيه أي كلمة ملكية لهذا المؤتمر بخلاف تلك الكلمة التي وجهت إلى القمة ال27.
3-تأثير المحيط الملكي
تميزت فترة الملك الراحل الحسن الثاني بمشاركة فعالة في الحركية الدبلوماسية العربية سواء من استقبال الملك للوفود والبعثات العربية، أو من خلال الحضور الشخصي في القمم والمؤتمرات العربية التي كانت تنظم في بعض العواصم العربية لحل بعض النزاعات البينية أو الخلافات العربية –العربية. بل لقد حرص الملك الراحل في ظرفية سياسية دقيقة شهدتها الساحة العربية خاصة في عقدي السبعينيات وثمانينيات القرن الماضي إلى تنظيم مؤتمرات عربية سواء بالرباط أو بالدارالبيضاء أو فاس أو مراكش. وقد لعب بعض مستشاري الملك الراحل دورا كبيرا في تكريس اهتمامه بالقضايا العربية وتنظيم المؤتمرات بالمغرب نظرا لتمرسهم واطلاعهم على الخصوصيات السياسية للمنطقة العربية وخاصة منطقة الشرق الأوسط وعلى رأسها المشرق العربي. ولعل من أبرز هؤلاء المستشارين، المستشار السابق أحمد بن سودة الذي "اشتغل كثيرا في العلاقات العربية -المغربية. وكان له اتصال وثيق استمر طويلا بالرئيس الفلسطيني ياسر عرفات لدرجة أنه أقام في بيته غرفة خاصة كان يستضيف فيها الرئيس عرفات كلما جاء إلى الرباط. واشتغل مع الفلسطينيين منذ أن كان سفيرا في لبنان وخلال عمله مديرا للديوان الملكي ثم مستشارا" وكذا المستشار السابق الدكتور عبد الهادي بوطالب الذي كان يمتلك، بالإضافة إلى ثقافته العربية الرصينة، خبرة في القضايا العربية من خلال تعيينه سفيرا في عدة دول عربية كسوريا وغيرها. في حين يكاد يخلو الديوان الملكي في عهد الملك محمد السادس من مستشارين على هذه الشاكلة، حيث أن جل مستشاريه كالطيب الفاسي الفهري، أو الزناكي، أو أزولاي، أو المنوني، أو معتصم، أو عزيمان... لم يسبق أن كانوا سفراء في بعض العواصم العربية، أو اشتغلوا في بعض المؤسسات العربية مما قد يفسر ضعف تأثيرهم في الاهتمام الملكي بالشأن العربي في شموليته وتدبير التعامل الدبلوماسي مع هذه الدول، وطبيعة المنظومة السياسية والفكرية والنفسية التي تحرك مختلف رؤساء وملوك هذه الدول. فهي تقوم، بخلاف المنظومة الأوربية، والأمريكية وحتى الآسيوية، ليس فقط على المردودية والتبادل السياسي للمصالح، بل أيضا على المجاملات الشخصية، وتبادل الزيارات، وكذا المشاركة المكثفة في المؤتمرات والاجتماعات الرسمية وغير الرسمية التي تنبني في العمق على كرم الضيافة، وقبول الدعوات، والتشريف بحضور الاجتماعات بالإضافة إلى التعارف الشخصي بين صانعي القرار الدبلوماسي في هذه الدول .