في التقرير الذي قدمه، قبل أيام قليلة، السيد شكيب بنموسى أمام الملك، والمتعلق بالنموذج التنموي الجديد الذي يعتبر خارطة طريق الحكومات المقبلة لرسم معالم المستقبل، طفت الكثير من الأسئلة على السطح: هل يمكن أن ننجح في تنزيل هذا المخطط الجديد بنفس النخب والكفاءات التي دبرت المرحلة السابقة؟ أم أننا في حاجة إلى عقليات جديدة لتحقيق نتائج مختلفة بعيدا عن عثرات الماضي وكبواته؟ في هذا الصدد، نستحضر ما نشرناه في أسبوعية "الأيام" لوكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA)، من تقرير تستشرف فيه معالم عالم 2035، ويمكن أن نقرأ في أحد أقوى فقراته ما يلي: "...الأزمات سوف تكون مسبوقة بمرحلة نمو وازدهار، وسوف يكون هناك أمل في إنقاذ ما يمكن إنقاذه في مختلف المناطق. وبعد انهيار سوق الشغل، ستمثل الاختراعات التكنولوجية ورقة رابحة لإعادة إنعاش الاقتصاد العالمي. وسنشهد ولادة عالم جديد، يتحد فيه الإنسان مع الآلة. وفي المقابل، لن تنجح كل الدول في تخطي هذه المرحلة، وحدها الدول التي راهنت على التطور التكنولوجي وحافظت على بقاء أدمغتها داخل أراضيها، ستنجح في ذلك".
مربط الفرس في ما استنبطناه من التقرير الاستشرافي ل CIA، هو المتعلق بأن "الدول التي راهنت على التطور التكنولوجي وحافظت على بقاء أدمغتها داخل أراضيها هي التي ستنجح".
ولذلك قررنا أن نستمع لعدد من الأدمغة المغربية التي هاجرت إلى الخارج حيث تصنع التألق في كبريات الجامعات والمختبرات العالمية، وهم يتحدثون ل"الأيام" عن شروط الرجوع إلى وطنهم، حيث أن القاسم المشترك بينهم جميعا هو رغبتهم الأكيدة في العودة إلى الوطن، لكن في أي بيئة؟ وبأية أهداف؟ وبأي طموح؟ وفي أي سياق؟
سعيد حمديوي العالم المتخصص في "النانوتكنولوجي": العودة رهينة ببيئة اشتغال مرفوعة على أربعة أعمدة لم يجد البروفيسور سعيد حمدويوي الذي عُين في العام 2018، في منصب «بروفيسور كرسي» بجامعة هولندية، بُدا من الهجرة إلى هولندا، بعد أن تعرض لما أسماه «طردا تعسفيا» من المدرسة العليا للتكنولوجيا التابعة لجامعة محمد الأول بوجدة، بعد أن قضى فيها سنة، بسبب نشاطه الطلابي. يحكي حمديوي الذي سطع نجمه في هولندا ل»الأيام» كيف أن ولوجه لعالم التكنولوجيا لم يكن بمحض صدفة، حيث التحق بالثانوية التقنية «المغرب العربي» بوجدة، بتوجيه من أساتذته في إعدادية المسيرة بالناظور، إلى أن نال شهادة الباكلوريا بميزة حسن جدا: «…التحقت بالمدرسة العليا للتكنولوجيا بجامعة الحسن الأول بوجدة، ودرست هناك لسنة، وبعدها تم طردي تعسفيا، ورغم ذلك استفدت الكثير من الجامعة المغربية، ومدرسة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب». يعتبر سعيد حمديوي أول مغربي عين في منصب «بروفيسور كرسي» في جامعة هولندية، رغم أنه أجبر على الهجرة إلى هولندا بعد أن تم طرده من جامعة وجدة، حيث التحق بجامعة «ديلفت» والتي تحتل المرتبة العشرين على المستوى العالمي، وهناك نال شهادة الإجازة والماجيستير والدكتوراه بميزة حسن جدا. وفي سلك الدكتوراه، يضيف حمديوي: «اشتغلت مع شركات عالمية منها شركة intel وهي أكبر شركة عالمية متخصصة في الرقائق الإلكترونية، وقمت بأبحاث جد مهمة في الدكتوراه، والتي توجت بفوزي بلقب أحسن شهادة دكتوراه على المستوى الدولي، لتفتح لي آفاقا كبيرة في مساري العلمي والعملي حيث تلقيت عدة عروض من أمريكا وأوروبا، وأسيا، واخترت آنذاك أن أرحل إلى أمريكا». اليوم، يوجد العالم المغربي سعيد حمديوي، المتخصص في اختراع الرقائق الإلكترونية، على رأس قسم هندسة الكمبيوتر والتكنولوجيا الناشئة بواحدة من أحسن الجامعات العالمية، ويقول ل «الأيام»: «… كان المشرفون على جامعة ديلفت الهولندية سعداء جدا لأنهم استقطبوني من جديد، وأنا اليوم رئيس قسم هندسة الكمبيوتر في الجامعة. وفي حدود سنة 2019 تمت ترقيتي إلى «بروفسور كرسي»، وهذه الدرجة لا تمنح سوى للذين يؤثرون على المستوى العلمي عالميا، بمعنى أنه يجب أن يكون لك وزن على المستوى العالمي لكي تحصل على درجة بروفسور كرسي، وبعد ذلك اكتشفت أنني أول مغربي يصل لهذا المستوى». وفي جوابه على السؤال الصعب: «ما الذي ينقصنا في المغرب حتى تعود للاشتغال فيه؟»، يقول ل «الأيام»: «هذا سؤال عريض وطويل، غير أن الذي يمكن أن أقوله لك أنه لا يوجد هناك أي مجتمع متطور فرض وجوده على المستوى العالمي من دون أن يكون متوفرا على تعليم متطور وأثبت وجوده على المستوى العالمي، كما لا توجد دولة في العالم لديها تعليم فاشل وأثبتت وجودها في العالم. أنا لا أملك الحقيقة المطلقة، ففي تقديري الشخصي هناك أربعة محاور مهمة لكي نرتقي بمستوى الجامعة المغربية لتؤثر لنا على الاقتصاد: – المسألة الأولى هي القيادة (leadership) فإذا كنت تتوفر على قيادة لديها كفاءة متميزة يمكن أن تصنع من فكرة غير جيدة شيئا ما، لكن إذا كانت القيادة فاشلة أو فاسدة أو غير مكونة وغير مؤهلة فلو منحتها فكرة جيدة فستقوم بإفشالها. – المسألة الثانية هي وضع خريطة طريق وطنية، بجدول زمني محدد، نحن نعرف وضع تعليمنا، ويجب أن نستفيد من تجارب دول أخرى سواء كانت دولا إفريقية أو آسيوية أو أوروبية، لكن في تقديري الشخصي يجب أن تكون خريطة طريق وطنية تتماشى وفق الثقافة المغربية ومكونات اللغة المغربية، أما سياسة «Copier coller» فلم ولن تنجح. فالذين ينطلقون من الذات ويستفيدون من تجارب الآخرين هم من ينجحون، كما أن التكنولوجيا يجب أن تكون هي العمود الفقري لخارطة الطريق، لأن التعليم والبحث العلمي والابتكار أصبح ضرورة إلزامية من أجل الاستمرار في الحياة. – المسألة الثالثة هي خلق ما يمكن أن نسميه ب «ecosystem»، من خلال تعليم يدرس فيه أساتذة في المستوى قادرين على مواكبة تحديات اليوم وتحديات المستقبل، يستطيعون التأثير في عقلية المغربي، كما أن الابتكار والمقاولة وريادة الأعمال يجب أن تكون جزءا لا يتجزأ من عمل الجامعة في المغرب، والدولة يجب أن تساهم في ذلك. – المسألة الرابعة هي الاستفادة من مغاربة العالم، وسأعطيك مثالا بالصين والهند، فالصين في سنة 2008 خلقت برنامجا اسمه «Dawson Talent» قاموا من خلاله باستقطاب الكفاءات الصينية الموجودة في مختلف أنحاء العالم ووفروا لهم جميع الظروف المواتية ليساهموا في تطوير البحث العلمي والمقاولة والابتكار، وها نحن اليوم نرى مستوى التكنولوجيا في الصين ومستوى الاقتصاد أيضا، والصين ستحكم العالم أحب من أحب وكره من كره، فهي قادمة بقوة بفعل الأشياء التي ذكرت وهي القيادة، ومحاربة الفساد، وخريطة الطريق الوطنية وال «ecosystem» ثم الاستفادة من الخبراء الصينيين ممن لهم تجربة عالمية ويعرفون ما الذي يحدث في العالم، واليوم هناك من الجامعات الصينية من تصنف من ضمن الجامعات الأرقى في العالم. في تقديري الشخصي، إذا توفرت هذه الشروط يمكننا أن ننجح وأن نكون رائدين في التعليم وفي المقاولة وفي تطوير الاقتصاد الوطني. اقرأ أيضا: رمز الأدمغة المغربية في الخارج "رشيد اليزمي": أحتاج مليار دولار للعودة إلى المغرب اقرأ أيضا: عالمة الفيزياء النووية كوثر حفيظي: كاذبة إذا قلت لكم إن لدي رغبة في الاشتغال بالمغرب