خارج البديهيات التي نتمنطق بها في مقاربتنا للمشهد الحزبي بالمغرب، يرى موليم العروسي أن المشهد السياسي يعيش حالة انتقال، والانتقال يولد بالضرورة بعض الفراغات التي قد تكون مهولة، ومن هنا يتولد الإحساس بتفتت وتآكل تنظيمات الأحزاب السياسية. وحتى ما أثير حول القاسم الانتخابي يعتبره أستاذ الجماليات مجرد تبادل للأدوار داخل الحزب الإسلامي، مؤكدا أن كل ذلك الهرج والأدوار المتبادلة بين قيادات العدالة والتنمية موجهة فقط لمنخرطي الحزب للحفاظ على التماسك الداخلي. * حاورته: زينب مركز نحن على مرمى حجر من الانتخابات المتوقعة في خريف هذا العام، والمشهد الحزبي يزداد قتامة واختلاطا، وتعبره وقائع غريبة. فحزب العدالة والتنمية يعيش فورة داخلية، واليسار منقسم بين المعارضة والحكومة وقد فقد بريقه، وباقي أحزاب الأغلبية الحكومية خافتة وبلا تأثير ويختلط المال بالسياسة في جزء منها، وحزب الاستقلال حائر في ما يشبه الدوخة… فأي نتائج لانتخابات سنجريها بوضع حزبي كهذا؟
هل تظنين أن المشهد بهذا المأساوية؟ وحتى لو كانت الصورة على الشكل الذي تقدمينها به فهل يمكن النظر إليها على أساس أنها مأساوية؟ لنعرج على بعض التجارب خارج المغرب ولنتوقف مثلا عند التجربة الفرنسية. لنأخذ مثال الحزب الشيوعي الفرنسي الذي كان لاعبا أساسيا في التحالفات وخصوصا عند وصول اليسار سنة 1981. أين هو الآن؟ والحزب الاشتراكي الذي حكم لسنوات طوال مع فرانسوا ميتران وبعده، ما هي أهميته اليوم؟ نحن نتحدث عن إحدى أعرق الديمقراطيات الأوروبية التي يقال لنا إنه لا يوجد بها مخزن ولا دولة عميقة، بل أحزاب تتبارى في ما بينها والحاكم الوحيد هو الشعب. هذا هو المبدأ الديمقراطي الذي يقدم للعموم، ولا ندري إن كان كل هذا الكلام صحيحا، لكن هذا هو الواقع الذي يطفو على السطح. وكذلك الأمر بالنسبة لإيطاليا إحدى أهم التجارب الديمقراطية في البحر الأبيض المتوسط. ففيها يمكن أن تدوم الأزمات الحكومية لسنة كاملة، ولا يتحدث فيها أحد عن البلوكاج ولا يقع اللجوء إلى المجاز الحيواني لتفسير العجز السياسي. الحالة التي يوجد عليه المشهد السياسي المغربي اليوم ليست غريبة نهائيا على بلد يعيش الانتقال المجتمعي. لا أتحدث عن الانتقال الديمقراطي، فهذه أدبيات خاصة بمحترفي السياسة. إذ يبدو لي أن المغرب يعيش أزمة مجتمعية عميقة وليس حزب العدالة والتنمية إلا عرضا من أعراض هذه الأزمة. لقد وجد المغرب نفسه منغمسا في نمط تدبير سياسي واجتماعي حداثي بالرغم منه، لأنه ورث مؤسسات الاستعمار ولم يكن له من طريق آخر، لتفادي انهيار السلطة والدولة، إلا تدبير مرحلة ما بعد الاستعمار بالإرث الاستعماري. ثم بدأ المجتمع ينسلخ عن النموذج الغربي (الفرنسي بالخصوص) بشتى الطرق وبعضها كان في الغالب بشكل متوحش وهدام، إلى أن ظن أنه وجد ضالته وتصالح مع نفسه في ما يسمى بنموذج السلف الذي نادى به أولا الراحل علال الفاسي بل ونَظَّرَ له في عدد من مؤلفاته. إلا أن نموذج علال الفاسي كان نموذج السلفي الحضري (المديني) والذي لم يكن يلائم غالبية المجتمع البدوية. ولا داعي للرجوع بك إلى الحرب التي خاضها قبيل الاستقلال أصحاب الفكر القروي البدوي (الكلاوي، عدي وبيهي…) ضد هذا النموذج. في هذا الخضم ومع بداية السنوات الأولى للاستقلال ظهرت بوادر سلفية قروية بدوية تعتمد على الدروشة والفقر المادي والفكري كطريقة لتربية مناضل يكفي أن يكون قد حفظ القرآن عن ظهر قلب لكي يكتسب مكانة اعتبارية في المجتمع. انتشر هذا المد في كل العالم الإسلامي، وهذا النموذج سوف تتاح له الفرصة ليصل أول مرة في أفغانستان واسمه طالبان (الطالب في المغرب هو حافظ القرآن وهو كذلك في أفغانستان).
هل يعتبر حزب العدالة والتنمية نفسه ضمن هذا التيار؟ بالطبع، يمثل العدالة والتنمية في المغرب وجميع التيارات الإسلامية هذا التيار، حيث يكتسب المناضل مكانة اعتبارية بمدى خضوعه للشيخ وأوامره. أتذكر ما قاله محمد العبادي رئيس العدل والإحسان عندما سُئل عن كيف اختاره عبد السلام ياسين لخلافته، فقال: «الصحبة». فسأله الصحافي و»ما معنى الصحبة؟»، فأجاب: «أن تلازم الشيخ ولا تسأل» نموذج هذا النوع من المناضل في طريقه إلى الاندثار على المستوى العالمي، ولن يبقى إلا في التنظيمات السرية التي تمارس العنف والانتحارية. أما النموذج القادم، على الأقل في فضائنا وكما بدأ ذلك يتبدى من خلال إعادة تكوين بعض الأحزاب، فهو نموذج حزب الاستقلال، سياسي مدني بكل ما تحمل الكلمة من معنى. ليس له ماض سياسي بمعنى المشاحنات والمقارعات والشعبوية، وهو منخرط في العصر بمقدار أي أنه يعيش بعض مظاهر الحداثة التي لا تمس جوهر المغرب التقليدي. له تكوين متين في ميدانه، فإن هو مثل البلد في المنتديات العالمية سوف يكون مشرفا جدا من ناحية الشكل: اللباس، الكلام، وفن العيش… نموذج حزب الاستقلال كما هو اليوم ينطبق أيضا على الأحرار وربما الاتحاد الاشتراكي مستقبلا والبام والتقدم والاشتراكية (حتى وإن كان هذا الأخير ظل مدنيا)… أي أن دورة النموذج المدني سوف تعود على ما أعتقد، وهذا النموذج يمثله ماكرون في فرنسا. إذن فالمشهد الحزبي يعيش حالة انتقال، والانتقال يولد بالضرورة بعض الفراغات التي قد تكون مهولة، ولهذا فإن اللاعب الأساسي في السياسة المغربية (فلنسميه المخزن إذا أردت) لا يمكنه أن يترك الأمور هكذا، فهو يعرف أن من واجبه التدخل خصوصا أن الوجوه السياسية التي ذكرت أو تلك التي تستعد لتتبوأ صدارة أحزاب أخرى غير بعيدة عن دوائر الحكم بل تربت داخل أسوار النظام ولا تعتبر تدخل المخزن شيئا مرفوضا.
رأينا ما حدث مع القاسم الانتخابي وكيف تشكلت أغلبية جديدة بالبرلمان حتى ممن عارض في البداية المس بمبدأ ديمقراطي جوهري، هل فقدت الأحزاب السياسية استقلالية قرارها السياسي؟ لا أظن صراحة أن حزب العدالة والتنمية كان جادا في القول إنه يعارض القاسم الانتخابي، وقد أبديت لك رأيي في هذه المسألة في حوار شهر يناير الماضي، حيث قلت إنني لا أومن بما يدور في النقاشات داخل الأقبية والتي لا يصلنا صداها بل تصلنا فقط بعض فصول المسرحية الموجهة أساسا إلى منخرطي الأحزاب ومناضليهم، لإيهامهم بأن هناك صراعا حقيقيا يدور بين مواقف تدافع عن الديمقراطية الحقة وأخرى لا تقوم بذلك. كل الهرج والأدوار المتبادلة بين قيادات العدالة والتنمية موجهة فقط لمنخرطي الحزب للحفاظ على التماسك الداخلي للهيئة ولتدبير الصراعات بين الزعامات. أما الحقيقة فهي أن كل الأحزاب متفقة على هذا النوع من الاقتراع لأنه يضمن لها البقاء والاستمرار. لنفرض أن الأحزاب لم تقبل القاسم الانتخابي وأن حزب العدالة سوف يحصل على الأغلبية كما يدعي، ففيما سيفيده ذلك؟ وهل ستخاف الدولة من وضعية كهذه؟ لقد حصل على الأغلبية في استحقاقات ماضية وقدم نفسه على أنه المنقذ من الضلال لكن لم تكن له أية سلطة لا في تعيين الوزراء ولا في القرارات الحاسمة. واليوم وهو يتفاوض على الحد الأدنى ويريد أن يظهر بمظهر الحزب القوي الذي يرغد ويزبد. تعتبر ممارسة تدبير الشأن العام تمرينا ديمقراطيا يجعل الحزب أكثر فعالية وبرامجه أكثر واقعية وأطره أكثر تمرسا وحكمة، لكن مع تجربتي الاتحاد الاشتراكي ثم العدالة والتنمية أصبح التنظيم الحزبي يتقلص أكثر ويؤدي ثمن ممارسة السلطة في الجوانب المسموح بها، إلام يعود ذلك؟ لا أوافقك الرأي في ما يتعلق بالأطر، فحزب الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال والتقدم والاشتراكية وحتى منظمة العمل الديمقراطي أعطت الدولة أطرا كفؤة مازالت تسير دواليب التدبير إلى الآن. لا تنظري للوزارات بل انظري للمؤسسات التي تعتبر ركائز للدولة وسوف تجدين أطر هذه الأحزاب هي التي تسيرها. حزب الاستقلال قدم هذه الأطر في الحكومات المتعاقبة لكن بالنسبة للأحزاب الأخرى فإن تجربة التناوب كانت مناسبة لاستقطاب أهم الأطر داخل هده الأحزاب. وسوف نرى عندما ينتهي حزب العدالة والتنمية من التسيير المحلي والوطني ما هي الأطر التي سوف يرثها المغرب من هذه التجربة.
لا أقصد بسؤالي استفادة الدولة من الأحزاب التي ظلت مشتلا للأطر كما ذكرت، لكن قصدت ما وقع من تآكل تنظيمي وضعف في الامتداد الحزبي في المجتمع الذي كان بسبب تحمل مسؤولية تدبير الشأن العام؟ في ما يتعلق بتآكل الأحزاب، أعتقد أن قانون التطور يفرض ذلك، فلا نعرف حزبا في تاريخنا المعاصر سواء بالمغرب أو خارج المغرب استطاع أن يخرج سالما من تسيير الشأن العام. بالنسبة للمغرب المسألة أكثر تعقيدا، فقبل أن تصل الأحزاب إلى التسيير تكون قد أنفقت وقتا طويلا في المعارضة وفي انتظار جني ثمار النضال، لذا ترين أن المناضلين يخوضون حربا ضروسا من أجل المناصب وعندما يصلون إلى المسؤولية لا يكون باستطاعتهم تلبية جميع طلبات المناضلين الذين أوصلوهم لنعمة السلطة فتبدأ القطائع والتصدعات. لاحظنا هذه الأمور خصوصا في تجربة الاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية في أول التجارب في حكومات التناوب. إذن ينفرط حبل مساندة المناضلين ويبقى الحزب في مواجهة الناخبين الذين وضعوا كل آمالهم في الحزب الذي ضحى وظل يصيح في البرلمان ويؤكد أن بإمكانه إصلاح أمور المغاربة. ثم يتبين لمن وصل إلى المسؤولية أن الأمر لا يتعلق فقط ببلوكاج السلطة كما يقولون، ولكنها الإكراهات التي لم يكن لهم بها علم قبل تحمل المسؤولية.
بدا حزب العدالة والتنمية في البداية كحزب متماسك تنظيميا، ولم تزده قيادته للحكومة إلا قوة بحيث اكتسح الانتخابات عام 2016، واستمر الخوف من قوته حتى في الانتخابات القادمة، رغم ما يعرفه هذا الحزب من صراع تنظيمي وغليان داخلي واستقالات بين أعضائه بسبب ملفات تتراوح بين لغة التعليم والتطبيع وقانون نبتة الكيف… إلى ماذا يعود ذلك في تقديرك؟ أولا، لا أظن أن حزب العدالة والتنمية يؤمن اليوم بقوته. ثانيا، القوة التي نتحدث عنها نسبية جدا، فالحزب الوحيد الذي لازال يدبر شؤونه الداخلية على طريقة الزاوية هو العدالة والتنمية. فبينما تجتمع الأحزاب الأخرى في مؤتمرات وطنية أو جهوية، وتصدر نشرات، وتعبر عن مواقف من خلال أطرها هنا أو هناك، يعمد الإسلاميون إلى عقد نفس المؤتمرات وربما بالغوا فيها لكنهم يعولون كثيرا على قنوات أخرى: الصلوات، الولائم (الزواج، الختان، الجنائز، حفلات العقيقة، التجارة غير المهيكلة…) وكل هذه الوسائط تستغل لإعطاء إشارات بطريقة سرية غير معلنة للناخبين، ويؤدي هذا إلى انضباط الكتلة الناخبة. إذن حيث يغيب الناخب غير الإسلامي لعدم انضباطه أو لعدم اقتناعه بجدوى الانتخابات يحضر الناخب الإسلامي لأنه أقسم على المصحف، أو «عْطَى لْكَلْمَة» لإمام المسجد أو لبائع البقدنوس أو التين الهندي… أضف إلى ذلك انضباط مريدي جماعة العدل والإحسان والذين يصوتون للبيجيدي والسلطة تعرف ذلك رغم نفيهم القاطع وتشبثهم بالكذب الأبيض، لأنه في مصلحة وصول الإسلاميين إلى الحكم. وعلى الرغم من كل هذه الأنظمة التقليدية التي تحاصر المواطن، فإنه لا يحصل إلا على نسبة قليلة من الأصوات لا تمثل المغاربة إلا بما يقارب 6%. لكن الفرق كبير بين أن تخطب أمام المريدين في زوايا المساجد بالأحياء الهامشية وبين أن تتحمل المسؤولية ويصبح من المفروض عليك أن تتحدث أمام الجميع وبحد أدنى من الشفافية، وأن تضع على المحك عقيدتك المتعلقة بفداء فلسطين بالدم وتضطر للتوقيع على اتفاقية مع من كنت تهددهم بالأمس بالعبارة الشهيرة: «خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سيعود». أمام هذه الوضعية وأمام النقاش الذي تتيحه وسائل التواصل الاجتماعي، أمام شباب الأحزاب الأخرى وبعض مؤطري النقاشات الذين لا ينتمون بالضرورة لأحزاب ولا حتى للسلطة، يطمح شباب العدالة والتنمية إلى أن يكون مناضلا يعيش عصره أي أنه يسائل قيادته كما يحدث في عدد من الأحزاب الأخرى. لكن بعض القيادات تريد أن تسحب بساط الانتفاضة من الشباب لتتزعم حركة التمرد. أظن، أو أتمنى على الأقل، أن لعناصر هذه الشبيبة ما يكفي من الثقافة والفكر النقدي لتعي أن كل هذه المسرحيات ما هي إلا محاولة التفاف على تمرد الشباب حتى لا يأتي بما لن تستطيع القيادة احتواءه فيما بعد. العنصر الثاني وهو أن ذلك الوعاء الانتخابي الذي كان ساخطا على تجربة الاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية في حكومات التناوب والذي حول أصواته صوب البيجيدي قد تحلل، خصوصا عندما عاش وشاهد التدبير المحلي للمدن والقرى من طرف البيجيدي، حيث ظهر الحزب ككل الأحزاب وظهر مناضلوه ككل البشر بعيدا عن الملائكية التي كانوا يدعون والطهرانية التي يبيعونها للناس. لقد اتضح أنهم يمشون في الأسواق، يأكلون الزرع ويتناكحون ويتناسلون بطرق مشروعة وغير مشروعة. لا فرق في ذلك بين الفقيه والوزير والمناضل العادي والمستشار الجماعي. وضعية الحزب الداخلية تعكس حالته أمام ناخبيه، لذا يجب أن لا نستخف بالاستقالات الآتية من القرى والمناطق البعيدة، لأن الناخب يسائل المناضل الذي يتعايش مع الناس ويحرجهم، خصوصا أن المناضل الإسلامي تعلم أن يكون بين الناس بشكل يومي، في حانوت البقال، كما في المسجد، أو في الحمام.
هل يكفي ضمور الأحزاب السياسية أو جمودها كمشتل للأطر، لتبرير تدخل الدولة في الأحزاب، فإذا كانت التنظيمات الحزبية غير معارضة للسلطة السياسية بالضرورة فهل يعني ذلك أنها تابعة لها؟ يصعب علي في بعض الحالات فهم معنى السلطة في المغرب كما هي في أدبيات الأحزاب السياسية والمراقبين السياسيين. يبدو لي أن المناضلين (حتى لا أقول الأحزاب) لا يعون أن المخزن شريك أساسي في الحكم. هذا المعطى لا تلقنه الأحزاب لمناضليها وخصوصا عندما تكون في المعارضة. تلقنهم أفكارا مفادها أن المخزن استولى على السلطة ويجب على الشعب أن يستردها، لذا تتكون في أذهان الناس قناعة غريبة تكاد تقول إن الوصول إلى السلطة معناه وجوب طرد المخزن منها، ولا يعرفون أن الدولة هي المخزن. عندما نقول للأحزاب إنها تابعة للسلطة فإنها تنفي ذلك، فكيف لنا أن نعرف أنها تابعة؟ المخزن يقول إنه ضامن للاستمرار، فكلما ظهر له أن هناك فراغا يمكن أن يؤدي إلى الفوضى يتدخل بطريقة من الطرق. لنأخذ مثال بعض الدول الأوروبية القريبة منا والتي تعيش خطر وصول اليمين المتطرف فيها إلى السلطة. هل تظنين أن رئيسا ما قبل انقضاء ولايته لا يهتم بمن سيخلفه حتى ولو كان من غير حزبه؟ وكيف يمر ذلك؟ بالتوافقات طبعا بين اللاعبين الأساسيين داخل السلطة. وهؤلاء اللاعبون ليسوا فقط من السياسيين بل رجال الأعمال والجيش ورجالات الدولة السابقين والمثقفين. وأيضا، هذا أمر من الضروري أن يعرفه الناس، من الشركاء الخارجيين (الدول التي ترتبط بعلاقات الجوار أو الشراكة…). حدث هذا في فرنسا على عهد فرانسوا هولاند، فعندما أحس أن هزيمته مؤكدة كَوَّن خلية للتفكير في مستقبل الحكم في فرنسا مهمتها الاقتراح والتشاور مع غالبية الفرقاء والشركاء، وحدث أيضا عند صعود ماتيو سالفيني عن رابطة الشمال بإيطاليا، حيث ألح الرئيس رغم صلاحياته المحدودة على أن يوقع الجميع على إعلان مبادئ يضمن عدم المساس بثوابت الجمهورية.
هل يمكن الوصول إلى دولة ديمقراطية في غياب أحزاب ديمقراطية؟ وما هي الانعكاسات السلبية لمثل هذا السلوك على النظام السياسي والأحزاب وعلى سياق التحولات المجتمعية والمؤسسات المنظمة لحقل السلطة في مغرب اليوم؟ طبعا لا يمكن ذلك، لكن عوض أن نلوم متدخلين لا نعرفهم يجب أن نلوم الأحزاب نفسها. أكيد أن الطريقة التي سوف تدبر بها الانتخابات المقبلة يمكن أن تحمل في طياتها خطر فراغ الساحة وتركها لبعض الأفكار التي قد لا تكون في صالح التطور الطبيعي للعملية السياسية، لكن السلطة اليوم في موقع قوة، والمؤسسة الملكية حققت عددا من المكاسب على بعض المستويات الرمزية المهمة، لهذا تعتبر، على ما أعتقد، أنه بإمكانها الإبحار بالسفينة على الأقل لخمس سنوات قادمة دون كثير من المشاكل ودون حاجة لتأطير من طرف أحزاب متآكلة، في انتظار بروز تيارات جديدة كما أشرت من قبل. لكن الاستقرار الذي تعتبر الديمقراطية من أساسياته ليس من واجب المخزن لوحده بل يهم طبقات أخرى من المفروض أن تكون هي من تتبنى مشاريع الأحزاب أو تساهم في وضعها. فما هي الطبقات الاجتماعية التي تتبنى مشاريع الأحزاب المغربية؟ هل هي طبقات التجار أم الصناع أم الطبقات الوسطى التي تعيش من وظائف داخل الدولة أو من دخل محدود من عمل حر؟ ما هي الطبقات التي تسند مشاريع الأحزاب؟ نكاد لا نعرف ذلك، فكل الأحزاب تقدم نفسها على أنها تريد خدمة الشعب. من هو هذا الشعب الذي تريد أن تخدمه؟
ما هو الأفق الذي ترسمه هذه التحولات في المجال الحزبي والسياسي، بعد حالة الانحسار الذي شهدته جل الأحزاب السياسية، وبعد تآكل تنظيماتها ووجود فجوة بينها وبين المجتمع المفترض أن تقوم بتأطيره؟ العودة إلى النقاش حول مستقبل المغرب دون أن نقصي منه أحدا. نعرف الآن أننا جربنا عددا من المقاربات السياسية: نعرف أن الأحزاب اليسارية التي مارست السلطة اندمجت بطريقة أو بأخرى في الدولة، وهذا ليس عيبا بل من المفروض أن يكون الأمر كذلك. من المحمود أن تهيئ الأحزاب السياسية أطر الدولة. بالنسبة للأفق، لقد حاولت الدولة أن تفتح بابا من هذ القبيل بتنصيب لجنة للنموذج التنموي الجديد. هذه اللجنة بما لها وما عليها يمكن أن نعتبر عملها مقترحا يمكن أن يتخذ كمنطلق لنقاش أوسع يشارك فيه المفكرون هذه المرة عوض التقنوقراط، الذين سيروا البلاد لعقود. يجب على التقنوقراط أن ينصتوا للفكر لأن الأمر وصل إلى حد السؤال الأساسي: «من هو المغربي، وماذا يريد لكي ينخرط في البناء والتغيير؟».