راج؛ لوقت طويل؛ أن المغرب يشكل الاستثناء في العالم العربي؛ و أنه لم يتزحزح على إيقاع رياح الربيع العربي؛ نعيش اليوم تحولات سياسية؛ يقودها اعرق حزب سياسي ضمن المنظومة الحزبية المغربية؛ و هي تحولات يبدو أنها تخترق الجدران الصلبة للمنظومة الحزبية في المغرب . و إذا كنا؛ في مقال سابق؛ قد ألمحنا إلى أن الصراع اليوم؛ في حزب الاستقلال؛ هو بين شرعيتين. من جهة؛ هنالك الشرعية التاريخية/العائلية؛ و هي التي وجهت بوصلة حزب الاستقلال؛ على الأقل خلال العقد الأخير؛ و التي كانت تقوم على أساس انتخاب الأمين العام للحزب باعتماد الإجماع. و من جهة أخرى؛ هناك الشرعية الديمقراطية؛ التي بدأت تخترق الجدران الصلبة للحزب؛ و بالتأكيد فإن الظروف السياسية اليوم؛ على إيقاع الربيع العربي؛ ترجح كفة الشرعية الديمقراطية؛ لأن المناضلين الاستقلاليين؛ لا يرضون اليوم بتمثيل دور الكومبارس ضمن سيناريو محبوك الإخراج و التمثيل؛ و لكن يطمحون إلى تمثيل دور حقيقي؛ ضمن المسلسل السياسي للحزب . لقد كانت فكرة التنافس على منصب الأمين العام لحزب الاستقلال؛ لعقود؛ من بين الطابوهات التي يتم مواجهتها بقوة؛ تارة بادعاء المحافظة على وحدة الحزب؛ و تارة أخرى بادعاء المحافظة على التراث الفكري و السياسي للزعيم المؤسس؛ و كأن الأستاذ علال الفاسي فرض اسمه ضمن التاريخ السياسي الحديث للمغرب؛ من منظور عائلي ضيق؛ و ليس من منظور الاستماتة في النضال من أجل ترسيخ قيم التحرر و الديمقراطية . إن الأستاذ علال الفاسي؛ قبل أن يكون أبا آو صهرا؛ هو قبل هذا و ذاك زعيم سياسي كبير و مفكر لامع؛ و لن ينال شرف الانتماء إلى إرثه الفكري و السياسي إلا من يؤمن بمبادئ النضال من أجل مغرب حر؛ مستقل و ديمقراطي . لقد تم؛ خلال عقود؛ الترويج في المغرب للزعامة الحزبية؛ باعتبارها إرثا ينتقل بين الأبناء و الأقارب؛ و ذلك ترسيخا لصورة الزعيم القبلي و الشيخ الصوفي؛ الذي يمرر الزعامة باعتماد التسلسل العائلي؛ و كأن الأمر يرتبط بالجينات؛ و ليس بالفعالية السياسية التي تعتبر المحدد الأساسي لشرعية القيادة؛ فتقديم الأفضل و الأصلح من بين المشاريع؛ سواء في خدمة الوطن أو الحزب؛ هو المحدد الأساسي لانتقال الزعامة؛ و هذا ما يشجع على التداول السلمي على السلطة و الزعامة؛ مما يجنب الأحزاب و المنظومة السياسية عامة؛ خطر الإصابة بتصلب الشرايين؛ و من ثم السقوط في خطر القبض السياسي الذي يهيئ لحالة انفجار الأمعاء و تهديد الجسد الحزبي و الدولتي ككل. إن ما أثير؛ مؤخرا؛ من لغط حول انتخاب الأمين العام لحزب الاستقلال؛ و ما راج حول الأخطار التي تحدق بالحزب؛ من حيث وحدته و إرثه النضالي و الفكري؛ كل هذا لا يرتبط؛ في الحقيقة؛ بصلب الموضوع؛ بل هي هواجس موروثة لدى بعض النخبة الحزبية العائلية؛ التي لا تتصور أي حركية لحزب علال الفاسي خارج الهرم العائلي؛ الذي يعني توارث الرأسمال المادي و الرمزي للحزب؛ ضدا على مبدأ الديمقراطية الحزبية؛ التي تقوم على أساس الشراكة في النضال و في التمثيلية الانتخابية و تحمل المسؤوليات الحزبية ؛ الأمر الذي يؤهل الأقدر و الأصلح لتقلد مناصب القيادة و المسؤولية؛ بناء على نتائج صناديق الاقتراع و لا شيء غير ذلك. عندما خرج المغاربة إلى الشارع؛ استجابة لنداء الربيع العربي؛ فإن أول شعار رفعوه كان ضد الشرعية التاريخية/العائلية؛ التي تحكمت في مفاصل السلطة و الثروة في المغرب؛ منذ الاستقلال و إلى حدود اليوم؛ و كان من بين الطابوهات؛ أن يفكر أيا كان من الطبقة الشعبية؛ في تقلد مناصب القيادة و الزعامة؛ حتى و لو كان له من الكفاءات الفكرية و الكاريزما السياسية ما يؤهله لإنجاح مشاريع سياسية و اقتصادية ضخمة. و من يعود إلى كتاب الأستاذ عبد الرحيم العطري (صناعة النخبة في المغرب) يعرف جيدا أن الوصول إلى (قشدة المجتمع) بتعبير الكاتب؛ يمر بالضرورة عبر النسب العائلي؛ الذي لا يخرج عن العائلات الفاسية و الرباطية أو من ارتبط بها عبر الزواج . و إذا تمكنت هذه العائلات من السيطرة على مصادر الثروة عبر توافقات سياسية مخدومة مع المخزن؛ فإنها كذلك تمكنت من السيطرة على المنظومة الحزبية؛ عبر توجيه بوصلتها لخدمة مصالحها الفئوية الضيقة . هكذا يمكن أن نستوعب جيدا؛ لماذا لم ينجح المغرب؛ منذ الخمسينيات و إلى اليوم؛ في بناء منظومة حزبية قادرة على مواجهة التحديات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية؛ من خلال استثمار الكفاءات التي يزخر بها بلدنا في مختلف المجالات الفكرية و العلمية. و ذلك لأن تعطيل الآلة الديمقراطية؛ التي تسمح بتجديد النخب و التداول على القيادة الحزبية ؛ هذا التعطيل هو الذي ساهم في إفقار الأحزاب السياسية من الداخل؛ و من ثم تعطيل حركية الديمقراطية و التنمية؛ على مستوى الدولة ككل؛ لأن أحزابا عائلية تقوم على أساس المعيار العائلي و القبلي؛ لا يمكنها أن تجدد النخب؛ كما لا يمكنها أن تبدع المشاريع التنموية الناجحة. اليوم؛ يدشن حزب الاستقلال لمرحلة جديدة؛ في الحياة الحزبية؛ في المغرب؛ بعدما نجح مناضلوه في تحقيق القطيعة مع الشرعية التاريخية/العائلية؛ و لا يمكن إلا نشجعه على استكمال الطريق؛ راجين أن تنتقل العدوى إلى جميع الأحزاب الوطنية؛ و ذلك لأن أحزابا تؤمن بالمنهجية الديمقراطية و تمارسها؛ هي وحددها القادرة على التنزيل الديمقراطي للدستور الحالي؛ و هي كذلك وحدها المؤهلة للمطالبة بتعديلات دستورية؛ في علاقة بالطلب الشعبي المتزايد على الحرية و الديمقراطية . إن منهجية النضال الديمقراطي؛ التي تم تبنيها بعد تشكيل الكتلة الديمقراطية؛ لن يكون لها اليوم؛ أي معنى في ظل سيادة ثقافة سياسية متآكلة؛ تقوم على أساس الإجماع و الشرعية التاريخية و النسب العائلي؛ و هذا ما يهدد بانفجار الوضع السياسي القائم؛ لأن النضال الشعبي الذي أخذ شرعيته من أحداث الربيع العربي؛ لا يعترف بكل هذه المقومات؛ التي تحكمت في صناعة المشهد الحزبي في المغرب؛ طيلة عقود؛ و هو الآن يأخذ مكانه ضمن المشهد السياسي المغربي؛ و إذا نجح في القيام بوظيفة التعويض؛ فإنه سيكون؛ في الأجل القريب؛ البديل المحتمل؛ و نحن هنا لا ننطلق من فراغ؛ بل إن التجارب ما زالت طازجة أمامنا؛ في الكثير من دول الربيع العربي . إن ما يطمح إليه؛ كل مؤمن بالنضال الديمقراطي؛ هو أن تكون منظومتنا الحزبية في مستوى الأحداث الجارية؛ و أن تنجح في تغذية الطلب الشعبي المتزايد على المنهجية الديمقراطية؛ و هذا يعني أن تفتح أبوابها لرياح التغيير؛ من خلال فتح المجال أمام جميع المغاربة؛ لتدشين مرحلة جديدة من النضال الديمقراطي المؤسساتي؛ و هذا ليس بغريب على شعب احترف النضال الديمقراطي لعقود؛ و وصلت أحزاب المعارضة إلى قمة مجدها؛ من دون أن تفكر يوما في قلب الطاولة. و في نفس الآن؛ فإن الدولة تتحمل مسؤولية تاريخية؛ في تشجيع الممارسة الديمقراطية داخل المنظومة الحزبية؛ و عليها أن تحترم إرادة المناضلين في اختيار من يمثلهم بشكل ديمقراطي شفاف؛ و ذلك لن يتحقق إلا عبر القطع مع الممارسات المخزنية العتيقة؛ التي تنزل بالقيادات الحزبية؛ عبر المظلات من فوق؛ مع إلزامهم بتنفيذ أجندة قد تتعارض و إرادة المناضلين؛ و هذا ما أدى؛ في الأخير؛ إلى تغذية اليأس بين المناضلين؛ لأنهم على علم يقين؛ أن قيادتهم الحزبية لن تكون صنيعة صناديق الاقتراع؛ و لكن صناعة توافقات و إجماع . كما أن النخبة الفكرية؛ اليوم؛ تتحمل مسؤولية تاريخية كذلك؛ في الدفاع عن مبادئ الديمقراطية الحزبية؛ سواء عبر التنظير أو عبر الممارسة؛ كما يجب على الجميع أن يتحلى بقيم الديمقراطية التي تقوم على أساس الاختلاف و التعدد. و لن يتحقق هذا الرهان إلا عبر نجاح مثقفينا في الخروج من نخبو يتهم المفرطة؛ التي تحتقر الممارسة الحزبية و تحط من قدر المناضلين؛ عبر الاحتكام إلى التكوين الأكاديمي؛ فالنضال السياسي لم يكن يوما شهادات جامعية كبرى؛ و لكنه ممارسة يومية؛ تقوم على أساس الإنصات لهموم الشعب؛ و الاستجابة للمطالب الشعبية في حدودها الدنيا؛ على الأقل . و هذا النموذج هو الذي يؤطر الممارسة الحزبية عبر العالم. إن التحديات الكبرى التي تواجهها بلادنا اليوم؛ على إيقاع الربيع العربي؛ تفرض على الجميع التحلي بقيم الديمقراطية و الشفافية؛ و هذا هو الإمكان الوحيد المتوفر اليوم؛ كبديل للنضال الثوري المطروح على الساحة العربية بقوة؛ و نحن في المغرب لا نمثل الاستثناء البتة؛ بل يجب أن نكون حذرين؛ و أن نستثمر تراثنا الفكري و السياسي المشترك؛ لتشجيع النضال الديمقراطي السلمي؛ الذي يحتكم لسلطة المؤسسات كبديل لسلطة الشوارع و الساحات. و هذا الخيار يفرض حضورا قويا للأحزاب السياسية؛ التي تعتبر وحدها القادرة على تأطير المواطنين و إشراكهم في صناعة القرار السياسي؛ و هي؛ بالضرورة؛ أحزاب تحتكم للشرعية الديمقراطية؛ و تناضل من أجل ترسيخها كخيار أوحد للدولة و المجتمع . كاتب و باحث أكاديمي