1 درس الربيع العربي إذا كان المد الثوري العربي قد أتى على أنظمة عتيدة؛ فإن قوة هذا المد لم تتوقف عند رؤوس هذه الأنظمة؛ بل تجاوزتها إلى زعزعة القواعد المؤسسة لها؛ في علاقة بالأحزاب التي حضرت؛ في معظم التجارب السياسية العربية؛ كأحزاب حاكمة مدى الحياة؛ في غياب أي تداول سلمي على السلطة و الحكم؛ هذه الأحزاب التي انحلت و تحللت من تلقاء نفسها؛ مباشرة بعد سقوط رؤوس الأنظمة . وإذا كان الحديث عن التجربة الحزبية في العالم العربي؛ بالمجمل؛ لا يستقيم؛ من منظور منهجي؛ لأن الظاهرة الحزبية ليست واحدة و لا موحدة؛ فإن تركيزنا سينصب على التجربة المغربية ؛ و بشكل خاص تجربة حزب الاستقلال؛ الذي يعيش هذه الأيام على إيقاع تحول تاريخي؛ عبر نجاح المنهجية الديمقراطية في اختراق جدرانه الحديدية الصلبة . 2 - في التاريخ و التأسيس يعتبر حزب الاستقلال امتدادا لحركات التحرر الوطني التي عمت العالم العربي؛ خلال مرحلة مواجهة الحركة الاستعمارية؛ فقد ارتبط تأسيسه؛ في البداية؛ ب « كتلة العمل الوطني» التي انتخبت لجنتها الأستاذ علال الفاسي رئيسا لها سنة 1937؛ لكن التأسيس الفعلي للحزب تم بعد حل كتلة العمل الوطني من طرف السلطات الاستعمارية في شهر مارس من نفس سنة التأسيس؛ ليتأجل ظهور الحزب إلى 11 يناير من سنة 1944 كتاريخ لتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال . تأسس حزب الاستقلال من طرف رموز الفكر و السياسة في المغرب؛ و ذلك ضمن سياقين: - السياق الأول : استعماري؛ حيث ارتبط تأسيسه بتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال؛ و منذ ذلك التاريخ سيخوض الحزب معارك ضارية ضد التواجد الاستعماري؛ توجت بحصول المغرب على الاستقلال سنة 1956 . - السياق الثاني : استقلالي؛ و ضمن هذا السياق دشن الحزب معاركه السياسية من أجل ترسيخ المنهجية الديمقراطية؛ و قد تجلى ذلك من خلال صدور أول دستور للمملكة سنة 1962. و قد تميز حزب الاستقلال عند تأسيسه بتداخل توجهين إيديولوجيين؛ وحدتهما الفكرة الوطنية خلال السياق الاستعماري؛ لكن السياق الاستقلالي؛ سيفجر التناقضات الكامنة: - ارتبط التوجه الأول بالإيديولوجية الاشتراكية؛ التي جسدها المهدي بنبركة خير تجسيد . - ارتبط التوجه الثاني بالإيديولوجية السلفية المنفتحة؛ التي جسدها علال الفاسي؛ فكريا و سياسيا . لقد أدى انفجار التناقضات هذا؛ إلى انشقاق الجناح اليساري؛ عبر تأسيس « الاتحاد الوطني للقوات الشعبية» سنة 1959؛ بينما استمر الجناح السلفي بزعامة الأستاذ علال الفاسي تحت اسم «حزب الاستقلال» . و باعتبار أن حزب الاستقلال حركة تحرر وطني فقد ارتبط؛ منذ تأسيسه؛ بزعيمه التاريخي الأستاذ علال الفاسي؛ الذي تجاوز حضوره؛ صفة السياسي إلى صفة المفكر الحديث و العالم الأصولي؛ و بالنظر إلى قوة و كاريزما الزعيم المؤسس؛ فقد ظل الحزب، على طول مساره السياسي، ملتزما بالتراث الفكري و السياسي للزعيم . و قد تجلى هذا الحضور القوي؛ عند الوفاة المفاجئة للزعيم علال الفاسي؛ في بوخارست عاصمة رومانيا ؛ و هو في مهمة دبلوماسية؛ لحشد دعم الدول الاشتراكية للقضية الوطنية الأولى (الصحراء المغربية ) . فرغم الإعلان عن وفاة الزعيم المؤسس؛ فإن صفة رئيس الحزب لم تنتقل إلى خلفه؛ بل تم استحداث مؤسسة الأمانة العامة؛ التي انتقلت إلى القيادي الاستقلالي (امحمد بوستة). 3 - بين الشرعية التاريخية و الشرعية الديمقراطية بعد هذه المرحلة ظل منصب الأمين العام للحزب يتم باعتماد الإجماع؛ من دون الخضوع للمنهجية الديمقراطية؛ في الترشيح و الانتخاب؛ الأمر الذي ساهم في ترسيخ صورة سلبية عن الحزب؛ و خصوصا بعد أن بدأ يتسلل النسب العائلي لقيادة الحزب؛ باعتباره عرفا بدأ يرقى إلى مرتبة القانون . لكن؛ إذا كان الأمر مقبولا؛ و لو على مضض؛ في السابق بدعوى تجنب ضرب وحدة الحزب؛ فإن رياح الربيع العربي اليوم؛ التي أسقطت أحزابا عتيدة كنتيجة لغياب المنهجية الديمقراطية؛ هذا الوضع الجديد هو الذي أصبح يهدد؛ ليس وحدة الحزب و حسب؛ و لكن أصبح يشكل تهديدا وجوديا للحزب ككل؛ و ذلك لأن حزب الاستقلال لا يمكنه؛ على المدى المتوسط و البعيد؛ أن يمثل مخزنا داخل المخزن؛ رغم أن المخزن نفسه؛ أصبح اليوم؛ يعي القواعد الجديدة للعبة الديمقراطية المفروضة؛ و لذلك؛ نجده يسارع إلى تجديد آليات اشتغاله . إن حزب الاستقلال؛ باعتباره امتدادا لحركة تحرر وطني ضد الاستعمار؛ و باعتباره حزبا مناضلا من أجل ترسيخ المنهجية الديمقراطية في المغرب الحديث؛ إن حزبا من هذا العيار لا يليق به؛ حقيقة؛ أن يستمر حزبا عائليا يؤمن بالإجماع بدل المنهجية الديمقراطية؛ فهو حزب جميع القوى الحية المؤمنة بروح الفكر الإصلاحي؛ الذي جسده الزعيم علال الفاسي؛ تفكيرا و ممارسة. لقد عبر الزعيم علال الفاسي؛ منذ البدايات الأولى لتأسيس حزب الاستقلال؛ عن نزوعه الديمقراطي/الليبرالي؛ هذا النزوع الذي عبر عنه من خلال فتح أبواب الحزب في وجه جميع فئات الشعب المغربي؛ المؤمنة بالنضال من أجل الاستقلال أولا؛ و من أجل ترسيخ مبادئ الديمقراطية ثانيا . و لذلك؛ فإن حزب الاستقلال؛ حسب الأستاذ علال الفاسي؛ يمثل فئات عريضة و متنوعة من المجتمع المغربي؛ شملت أعضاء (الحزب الوطني) السابق و رؤساء و أعضاء المجالس الإدارية لجمعيات قدماء تلاميذ مدن الرباط و مكناس و فاس و سلا و مراكش و أزرو و وجدة و أسفي؛ كما انضمت إليه شخصيات بارزة من (الحركة القومية) بالإضافة إلى العديد من الشخصيات البارزة كالمفتين و القضاة الشرعيين و المدنيين و كبار الموظفين المخزنيين و أساتذة جامعة القرويين و المدارس الثانوية . إن ما يعرفه حزب الاستقلال اليوم؛ من حراك فكري و سياسي؛ حول منهجية انتخاب أمينه العام الجديد؛ هذا الحراك؛ في الحقيقة؛ لا يهدد وحدة الحزب؛ كما يروج؛ و لكنه دليل على يقظة مناضلي الحزب؛ لتدارك الأمر قبل فوات الأوان؛ خصوصا و أن الفرصة مواتية؛ و قبل أي وقت مضى؛ لمراجعة المنهجية المتبعة في انتخاب الأمين العام للحزب . لقد امتلك القيادي الاستقلالي (حميد شباط) الشجاعة ؛ حينما عمل على تكسير الطابو؛ الذي فرض كلكله على الحزب و منعه من التجدد لعقود؛ و حسنا فعل حينما قدم ترشيحه لمنصب الأمانة العامة للحزب؛ خصوصا و أنه يصرح في العلن؛ أنه يؤمن بالمنهجية الديمقراطية؛ و أنه مستعد لتقبل النتيجة كيفما أعلن عنها؛ كما قدم برنامجا انتخابيا واضح المعالم؛ اعتبره مشروعا للتعاقد بينه و بين مناضلي الحزب؛ و تكريسا للشفافية أكثر؛ فإنه دعا كذلك إلى تنظيم مناظرة؛ يتم خلالها عرض البرامج الانتخابية أمام مناضلي الحزب؛ و اعتبارها أساس التنافس بين المرشحين . إن مكمن الصدمة عند بعض قياديي الحزب؛ تكمن في هذه الثقافة السياسية الجديدة التي بدأت تخترق جدران الحزب؛ و تهدم التوابيت داخله، لذلك نجد الاستنفار يعم جميع أجهزة الحزب في جميع ربوع الوطن؛ خصوصا عندما يتم ربط هذه الثقافة الديمقراطية الجديدة؛ عن خطأ طبعا؛ بتهديد وحدة الحزب و تماسكه . لماذا؛ إذن؛ لا يتم الاستناد إلى المرجعية الديمقراطية لحسم هذا الصراع؟ خصوصا و أن مسار الحزب كله دفاع عن الثوابت الديمقراطية للدولة؛ و لأجل ذلك كان طرفا أساسيا و فاعلا في لم شمل الأحزاب الوطنية؛ ضمن الكتلة الديمقراطية سنة 1992 ؟ لماذا لا يتم توفير الجهود المادية و البشرية للحزب؛ من أجل خوض المعركة الديمقراطية؛ بدل الارتهان إلى ثقافة الإجماع؛ التي تعتبر مصدر الداء السياسي الذي نعانيه في الوطن العربي ؟ إن المرحلة التي تعيشها بلادنا اليوم؛ تفرض بقوة إعادة الاعتبار للفكر الإصلاحي المغربي؛ سواء بنزوعه الليبرالي أو بنزوعه السلفي/المقاصدي؛ خصوصا و أن معالم الاكتساح الشامل للفكر السلفي الوهابي/الإخواني بدأت تلوح في الأفق؛ مهددة كل المكتسبات الفكرية و السياسية؛ التي راكمتها النخبة الفكرية و السياسية المغربية؛ خلال نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين . إن مكمن الداء في المنظومة السياسية المغربية يرتبط؛ في العمق؛ بتراجع الفكرة الإصلاحية؛ من خلال تراجع الأطر الحزبية التي كانت حاملة لها؛ و هذا التراجع بدوره يرتبط بتراجع المنهجية الديمقراطية؛ القادرة لوحدها على إنجاب نخبة فكرية و سياسية شابة قادرة على تجديد دماء الفكرة الإصلاحية؛ و فتحها على المستجدات الفكرية و السياسية التي يفرضها النموذج العولمي . لذلك؛ نعتبر أن الحركية التي يعرفها حزب الاستقلال اليوم؛ هي في نفس الآن؛ حركية للفكرة الإصلاحية؛ التي حملها حزب الاستقلال لعقود، و هذا؛ في الحقيقة؛ يبشر بمستقبل مغاير لمفهوم السياسة في بلادنا؛ لأن الديمقراطية قبل أن نطالب بأن تكون خيار الدولة؛ يجب أن نطالب أولا بأن تكون خيار الأحزاب؛ و خصوصا الوطنية منها؛ الحاملة للواء الإصلاح السياسي و الاجتماعي الرصين؛ الذي لا يفرط في ثوابت الأمة و الوطن . نقول هذا؛ و نحن على تمام الوعي بالتحديات التي يمثلها حراس المعبد القديم؛ الذين يستفيدون من وضعية السطاتيكو القائمة؛ حتى و لو كانت الاستفادة لا تتجاوز المصالح الفئوية الضيقة؛ الخاصة بأفراد أو فئات اجتماعية ضيقة . و لعل التخوف الكبير الذي يبديه هؤلاء؛ يرتبط بالتجدد الذي تعرفه نخبة الحزب؛ حيث دخلت على الخط فئات اجتماعية جديدة؛ من قطاعات اقتصادية و مهنية متنوعة؛ و هذا ما يشكل ضغطا كبيرا على الأقلية البورجوازية في الحزب؛ و التي تشكلت عبر اقتصاد الريع؛ الذي كان يمنح كمقابل لتنازلات سياسية ؛ تهم قضية الديمقراطية؛ بشكل خاص. و لعل هذا الوضع هو الذي طبع مواقف حزب الاستقلال بالمهادنة طوال العقود الأخيرة؛ و خصوصا بعد انطفاء جذوة الكتلة الديمقراطية التي تشكلت أوائل التسعينيات؛ ما كان يمهد للموت الإكلينيكي لهذا التكتل السياسي؛ الذي كان يبشر بمستقبل سياسي مغاير لوضعية التأزم التي يعيشها مغرب اليوم . ونحن هنا؛ لا نحمل المسؤولية كاملة لحزب الاستقلال؛ بل إن مجمل أحزاب الكتلة الديمقراطية مرت بنفس المسار؛ عبر تراجع الفكرة الإصلاحية؛ نتيجة سيادة مصالح فئوية ضيقة مرتبطة بأقلية بورجوازية «طحلبية» تفتقد للعمق و الجذور . ولذلك؛ نرى أن النقاش المثار اليوم في حزب الاستقلال؛ هو النقاش الحقيقي الذي يجب أن يسود كل مكونات الكتلة الديمقراطية؛ نقاش يضع الأصبع على مكمن الداء الحزبي؛ و الذي ارتبط بتراجع المنهجية الديمقراطية و تعويضها بثقافة الإجماع؛ التي تفرض نفس النخبة السياسية و نفس المنهجيات في التسيير و التدبير؛ مع ما يرافق ذلك من قتل لروح المبادرة الحرة؛ التي لن تتحقق إلا عبر تجدد النخبة الحزبية . إن الرهان الذي يفرض نفسه اليوم؛ على نخبتنا الحزبية؛ يرتبط بالقطيعة مع نوع من الشرعيات «المزيفة»؛ التي سادت لعقود؛ سواء تعلق الأمر بالشرعية التاريخية أو العائلية؛ أو الرضى المخزني؛ و ذلك لأن جميع هذه الشرعيات تضرب المنهجية الديمقراطية في الصميم؛ و بالتالي تقتل روح التجدد و التقدم في المسار الحزبي . إن الإحصائيات المخجلة حول نسبة الشباب المسيس في المغرب؛ لتعد أفضل مؤشر على التراجع المريع الذي تعرفه المسألة السياسية في بلادنا ؛ و هذا الواقع أصبح اليوم؛ يهدد بقوة؛ الاستقرار السياسي في البلد؛ من خلال غياب نخبة حزبية قادرة على تسيير الشأن العام و قادرة كذلك على النضال من أجل ترسيخ مبادئ الديمقراطية . و يمكن تفسير هذا التراجع؛ في العمق؛ بغياب المنهجية الديمقراطية التي يمكنها أن تشجع على تجدد النخب الحزبية؛ و بالتالي تحقيق التداول السلمي على تسيير شؤون الحزب . إن الفكرة القائلة؛ بأن نفس الرجال لا يصلحون لجميع المراحل؛ هي ذات جدوى في واقعنا السياسي الراهن؛ و ذلك لأن التحول الذي تعرفه بلادنا؛ يفرض على الأحزاب السياسية؛ بقوة؛ تجديد نخبها؛ لمواجهة تحديات العصر؛ لأن ما يروج في ثقافتنا المغربية؛ من مدح للنضج الرجولي؛ بما يمثله من حكمة ورزانة؛ أصبح أمرا متجاوزا في عالم اليوم الذي يفسح مجالا واسعا للشباب؛ بما يعنيه ذلك من فتوة و تجدد و حماس في العمل و شجاعة في المواقف و إقدام على التغيير. و نعود دوما لأصل الداء؛ لا يمكن تحقيق هذا الرهان في غياب المنهجية الديمقراطية؛ التي يمكنها لوحدها أن تحقق تجددا في النخبة الحزبية؛ عبر فتح المجال أمام التداول السلمي على قيادة الحزب و وضع برامجه السياسية.