يقارب المحلل السياسي والأكاديمي مصطفى السحيمي في هذا الحوار، حصيلة عشرين عاما من حكم الملك محمد السادس في النقطة المتعلقة بالمنظومة الحزبية. ويسجّل السحيمي كيف أنه بعد عقدين من الزمن حدث بالفعل تغير كبير في الحقل الحزبي. «فالتقاطب بين أحزاب الكتلة والأحزاب الإدارية فقد معناه بعد قرابة عشرين عاما من المشاركة الجماعية في الحكومات». وبعد وقوفه على فشل كل من خياري الاستغناء عن الفاعل الحزبي بنظيره «المناضل» في المجتمع المدني، ومحاولة تأسيس حزب جديد لإطلاق دينامية حزبية جديدة، خلص السحيمي إلى أن البعض داخل دوائر القرار يعتر أن تقوية الملكية يمر عبر إضعاف الأحزاب السياسية، وهو ما لا يتفق معه الخبير السياسي المخضرم، ويدعو بالتالي إلى وضع نموذج تنموي جديد، خاص بتدبير الحقل الحزبي. ما تقييمك لوضعية الأحزاب السياسية في المغرب بعد مرور 20 عاما من حكم الملك محمد السادس؟ في إطار الحديث عن حصيلة عشرين سنة من حكم الملك محمد السادس، من الجيد أيضا التطرق إلى الشق المؤسساتي، وتحديدا ما يتعلق بالنظام الحزبي. أي أنه علينا أن نتساءل حول التغيير الذي طرأ على الحقل الحزبي منذ عقدين، ومعرفة ما إن كان هناك تقدّم تحقق خلال هذه الفترة، بالشكل الذي يرسخ البناء الديمقراطي المطروح ضمن “جدول الأعمال” منذ 1999. هل يمكننا أولا تحديد الوضع الذي وجد عليه الملك محمد السادس الحقل الحزبي؟ نعم، مع اعتلاء الملك محمد السادس للعرش، كانت للحقل الحزبي المغربي معالم دالة. فالتقاطب والتعارض بين كل من أحزاب الكتلة الديمقراطية، المنحدرة من الحركة الوطنية من جهة، والأحزاب التي توصف بالإدارة، أي التجمع الوطني للأحرار والاتحاد الدستوري والحركة الشعبية… فقدا الكثير من مضمونهما. فابتداء من مارس 1998، تشكلت حكومة التناوب بقيادة عبد الرحمان اليوسفي، والذي كان حينها كاتبا أولا لحزب الاتحاد الاشتراكي. لم تكن أحزاب الكتلة تتوفر سوى على 121 مقعدا في مجلس النواب، أي 38 في المائة. البقية كلها كانت في يد أحزاب ضمن من خلالها الملك الراحل الحسن الثاني توفير الأغلبية لفائدة الحكومة. هذه الصيغة زكاها الملك الجديد محتفظا باليوسفي على رأسها. هل كانت هذه المعادلة تطابق نوايا الملك محمد السادس؟ ليس تماما، فهو لم يكن يرغب في مرافقة انتقال العرش بمعادلة سياسية وحكومية تفيد التغيير، بما لا يدعم الاستقرار أو لنقل على أقل تقدير، التهدئة. أي أنه كان يحمل تصورا خاصا به حول الصيغة الحكومية الملائمة؟ لقد كان للملك محمد السادس الوقت الكافي، كولي للعهد، لتتبع كيف يسير الحقل الحزبي. أي ليعرف أن له قواعد وشفرات وتوافقات ورموزا وحصصا متفاوضا عليها مع الراحل إدريس البصري، وزير الداخلية حينها. هل كان يكنّ الكثير من التقدير لهؤلاء الفاعلين وأدوارهم؟ الجواب الذي يتبادر إلى الذهن معروف، ولهذا لم يجدد تعيين عبد الرحمان اليوسفي وزيرا أولا في أكتوبر 2002، وعيّن إدريس جطو بدلا منه لولاية من خمس سنوات. لقد تم الاحتفاظ بمكونات الأغلبية الحكومية، أي حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية إلى جانب التجمع والحركة. هذه الصيغة سوف تستمر إلى غاية 2011، ثم جرت العودة إليها في 2013 واستمرت إلى اليوم. كيف تعامل القصر مع هذا التطور؟ أعتقد أن المشور لم يتجاهل هذا التطور المسجل، لكن السؤال بقي كيف يمكن إعادة إطلاق هذا الحقل الحزبي وتمكينه من لعب أدواره كاملة، والتي نصت عليها المادة 7 من الدستور، أي تأطير وتكوين المواطنين وتعزيز مشاركتهم والتعبير عن إرادة الناخبين والمشاركة في ممارسة السلطة… التفكير في هذا الأمر تم من خلال محورين مختلفين. الأول نظر إلى تراجع الأحزاب بشكل مرتبط بالصعود الذي سجله حقل المجتمع المدني. فهذا الأخير استفاد من “ترقية” جعلت العاملين فيه يبدون كما لو أن كفاءاتهم، الحقيقية أو المفترضة، تجعلهم في مرتبة أعلى من نضال الأحزاب السياسية. هذا المحور يستمر ويمكننا التأكد من ذلك من خلال العشرات من التعيينات التي همت منحدرين من المجتمع المدني، سواء مؤخرا أو على مدى عشر سنوات الأخيرة. وهذا الأمير يذكر بما وقع مع التكنوقراط، لكن هذا التقييم لا يحوز الإجماع، إذ يكفي أن ننتبه إلى القدر الكبير من عدم الرضا الذي عبر عنه الملك من مستوى تدبير السياسات العمومية القائمة…. ماذا عن المحور الثاني الذي تم من خلاله التفكير في الشأن الحزبي؟ المحور الثاني حاول أن يكون عمليا أكثر في الحقل الحزبي. صيغة الجمعية من طينة حركة لكل الديمقراطيين، لم تستمر إلا بضعة أشهر. فهي انطلقت من خلال فرضية تقول إن الأحزاب السياسية سوف تتفاعل مع تأسيسها وتفسح المجال لحمل الأفكار التي طرحتها ومن ثم تدمج أعضاء هذه الحركة في صفوفها، علما أن مؤسسي الحركة كانوا ينحدرون أصلا من هذه الأحزاب الموجودة. الخطة “ب” كانت هي تأسيس الحزب السياسي الجديد في غشت 2008، والذي انعقد مؤتمره التأسيسي في فبراير 2009. هل كانت هذه المقاربة جيدة؟ من حيث المبدأ نعم، فقد كان هناك قدر كبير من النخب الجديدة ينبغي تأطيره، والتي ترتبط بعهد محمد السادس، لكن طريقة التنزيل كانت سيئة بل أنتجت مفعولا مضادا. لا داعي هنا للعودة إلى المسار الكارثي لحزب الأصالة والمعاصرة، ويكفي أن نسجل أن هذا الحزب لم يعد يقدم أية حظوظ لاستمراره في الحياة. فالكارثة التي تمثلها اليوم انقساماته ومعاركه الداخلية، تؤكد فشل هذا المشروع. نتيجة تفيد بأن الإدارة لا يمكنها أن تغامر مجددا بتأسيس حزب جديد في أفق 2020 أو ما بعدها. هل من خيار آخر إذن؟ الحل الذي جرى التوصل إليه هو إعادة تحريك حزب التجمع الوطني للأحرار، وذلك منذ ثلاث سنوات. رئيسه الحالي، عزيز أخنوش، تم انتخابه في مؤتمر استثنائي انعقد في أكتوبر 2016، وذلك لتعويض صلاح الدين مزوار الذي استقال يوم 12 أكتوبر من السنة نفسها. هنا أيضا أبانت الطريقة والمقاربة التي اعتمدت في هذا الانتقال أنها خاطئة تماما. فأخنوش كان قد استقال من حزب التجمع الوطني للأحرار في 2 يناير 2012 كي يتم تعيينه من جديد وزيرا للفلاحة ك”مستقل” في حكومة بنكيران. أكثر من ذلك، كان أخنوش في ماي 2016 قد أعلن قراره الانسحاب نهائيا من المشهد السياسي، وعدم رغبته في الحصول مجددا على مقعد برلماني. أين يكمن إذن التغيير في الحقل الحزبي بعد عشرين عاما من وصول الملك محمد السادس إلى الحكم؟ بعد عقدين من الزمن حدث بالفعل تغير كبير في الحقل الحزبي. فالتقاطب بين أحزاب الكتلة والأحزاب الإدارية فقد معناه بعد قرابة عشرين عاما من المشاركة الجماعية في الحكومات. بل إن هذه المعادلة ارتبكت أكثر في انتخابات 2011، مع الصعود القوي لحزب العدالة والتنمية بقيادة عبد الإله بنكيران، والذي تفوّق على جميع الأحزاب بحصوله على 107 مقاعد. نتيجة مكنت هذا الحزب من الحصول على رئاسة الحكومة بناء على المادة 47 من دستور 2011. بل إن هذا الحزب رفع أكثر من عدد مقاعده في انتخابات 2016. أي أننا أمام تقاطبات جديدة؟ يبدو الأمر كما لو أن النظام الحزبي يتجه نحو ثنائية قطبية تضع من جهة حزب العدالة والتنمية وفي الأخرى أحزابا تتحالف مع حزب العدالة والتنمية داخل الحكومة. الصعوبات المستمرة التي تواجهها حكومة العثماني تشهد على هذه الوضعية. حزب العدالة والتنمية تابع كيف وقفت ضده أحزاب مثل الاستقلال والاتحاد الاشتراكي حين تولت زمامهما قيادات شعبوية، حميد شباط وإدريس لشكر، بهدف تقليص الحقل الشعبوي لعبد الإله بنكيران الذي كاد يهيمن عليه. هل مازالت لحزبي الكتلة هاذين استقلالية كبيرة في القرار؟ لنتابع كيف أن الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية نبيل بنعبد الله، دون أن يذكرهما بالاسم، يتحدث عن وصاية مخزنية جاثمة عليهما… أي أننا في النهاية أمام تفكيك تام للحقل الحزبي؟ هناك البعض داخل دوائر القرار ممن يعتقدون أن تقوية الملكية يمر عبر إضعاف وتفكيك الأحزاب. وموقع حزب العدالة والتنمية هنا لدحض هذه الفكرة. فهو وإن كان يتحمل مسؤولية التدبير الحكومي والمحلي منذ 2012، فإنه مع ذلك بقي في قلب ومركز المفاعل الحزبي، خاصة أنه يتمتع بشرعية مزدوجة، نابعة من فوز انتخابي تجدد في 2016 ومن مرجعية دينية أقوى من الآخرين. شرعية مزدوجة يدعمها صوت المواطن وانخراط “المؤمن”… هنا أيضا نحتاج إلى نموذج تنموي حزبي جديد، بعيدا عن الحسابات السياسوية لهذا الطرف أو ذاك. كيف انعكس كل ذلك على الحقل الحزبي؟ لقد أنتجت هذه الممارسة المؤسساتية مفعولا طويل الأمد إن لم يكن مهيكلا للنظام الحزبي. وما يثير الانتباه أكثر في الحقيقة، هو التقليص المستمر للكتلة الناخبة التي تشارك في الاقتراع، وبالتالي من حجم تأثير الأحزاب السياسية. فنسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية تبقى جد متواضع، مسجلة تراجعا مستمرا. فقد كانت هذه النسبة في حدود 51 في المائة في 2002 لتنخفض إلى 37 في المائة في 2007، ثم ارتفعت إلى 45 في المائة في 2011، ثم عادت لتنخفض إلى 43 في المائة في 2016. فبينما كانت رؤية العهد الجديد تطرح توسيع وتقوية الديمقراطية، لم تكن النتائج المسجلة في مستوى هذا الطموح. وهذا الأمر يثير الانشغال أكثر مع التقدم الذي حققه دستور 2011، والذي لم يحقق “العائد من الاستثمار” إن جاز لنا القول. بل إن الأمر يستعصي عن التفسير أكثر، على الورق، عندما نلاحظ اتساع العرض الحزبي رغم كل ذلك. فنحن نعد اليوم 34 حزبا، بينما كنا نبقى في حدود العشرين في الانتخابات السابقة. هناك هوة كبيرة إذن بين العرض الذي تقدمه الأحزاب الثلاثون وبين الطلب الذي يعبر عنه المواطنون، ولا شيء يوحي بأن حلا ملموسا يمكن الإقدام عليه في المدى المنظور.