تميزت الخريطة السياسية والحزبية خلال 20 سنة الماضية بتحولات عديدة، شملت النخب والمؤسسات والممارسات كذلك، وتجسدت في صعود الإسلاميين، خصوصا حزب العدالة والتنمية، وبروز حزب الأصالة والمعاصرة الذي عزّز من فرص الأحزاب التي كانت توصف في عهد الحسن الثاني ب”الإدارية”، في الوقت الذي تراجعت الأحزاب المنحدرة من الحركة الوطنية وتآكل دورها وتأثيرها في المشهد الحزبي والسياسي. بالمقابل، استمرت السلطة في استخدام “الآليات الموازية” للضبط والتحكم في فلتات ذلك المشهد، وتتمثل تلك الآليات في مكون “التكنوقراط”، المبثوث على رأس المؤسسات والمقاولات العمومية، بل حتى داخل بعض الأحزاب السياسية، علاوة على وزارة الداخلية المنوط بها الضبط السياسي والأمني والإداري، ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المنوط بها الضبط الديني والإداري للحقل الديني. وقد أدت عمليات الضبط للحقل الحزبي والسياسي والإعلامي إلى بروز فضاءات خارج ما هو رسمي، أي خارج السيطرة الشاملة للسلطة، على رأسها الفضاء الافتراضي، وأساسا “الفايسبوك”، الذي يعد أحد الفضاءات الرئيسية المحتضنة للنقاش السياسي العمومي حول القضايا ذات الأولوية بالنسبة للمجتمع، وفضاءات الاحتجاج التي احتضنت جيلا جديدا من الاحتجاجات في السنوات الأخيرة، وشكلت عامل ضغط أساسي على صانع القرار. فكيف تشكلت هذه التحولات طيلة 20 سنة من حكم الملك محمد السادس؟ وما أبرز المحطات التي أسهمت في ذلك؟ وما السيناريوهات المتوقعة لتطورات هذا المشهد؟ أقوى التحولات لما وصل الملك محمد السادس إلى الحكم سنة 1999، وجد بين يديه خريطة سياسية من هندسة والده ورجالاته، تتمثل في حكومة يقودها الاتحاد الاشتراكي، رفقة أحزاب الحركة الوطنية(حزب الاستقلال، التقدم والاشتراكية، وأحزاب يسارية صغيرة أخرى،…)، إلى جانب الأحزاب التي كانت توصف بالإدارية (الحركة الشعبية، الاتحاد الدستوري، التجمع الوطني الأحرار…)، وخارج هذا المشهد الحزبي الرسمي، كان الملك الراحل الحسن الثاني قد فسح المجال، في السنوات الأخيرة من حياته، أمام الحركة الإسلامية للولوج إلى الحقل الحزبي من خلال حزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية الذي غيّر اسمه إلى العدالة والتنمية سنة 1998، كما فسح الطريق أمام اليسار السبعيني، الذي كان مبثوثا وسط الحركة الحقوقية والنسائية، للولوج إلى المؤسسات الرسمية (المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان،…). وهكذا كانت الحياة السياسية موزعة عمليا بين ثلاث كتل سياسية ومدنية يمكن التمييز فيما بينها كالتالي: أحزاب الحكومة (أغلبية ومعارضة) ولبعضها، خصوصا الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال وحزب التقدم والاشتراكية، أذرع مدنية وحقوقية ونسائية؛ ثم مكون الحركات الاجتماعية المدنية (اليسار السبعيني، النساء، الأمازيغ…)، ثم المكون الإسلامي من داخل مؤسسات النظام ومن خارجه (حزب العدالة والتنمية، التوحيد والإصلاح، العدل والإحسان…). ويمكن القول إن التفاعلات بين هذه المكونات كانت محور الحياة السياسية والحزبية، بل كل مكون فيها كان محور حدث سياسي بارز أو أكثر خلال العقدين الماضيين. فالمكون الأول، أي أحزاب الحركة الوطنية، وخصوصا الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال، كانت محور الحياة الحزبية والسياسية طيلة العقد الأول من حكم الملك محمد السادس، سواء من موقع قيادة الحكومة (الاتحاد الاشتراكي من 1998 إلى 2002)، أو حزب الاستقلال (2007-2011)، أو المشاركة فيها. وبالنسبة لهذا المكون فإن تأريخ المرحلة السياسية الراهنة يبدأ من سنة 1998، أي السنة التي تشكلت فيها حكومة التناوب، وكانت عنوان التوافق السياسي بين الملك الحسن الثاني وقادة أحزاب الحركة الوطنية، وهو التوافق الذي تمت تزكيته في أول خطاب للملك محمد السادس بعد توليه العرش، واستمر بعد ذلك، رغم الضغط الذي شكّلته الآليات الموازية، وأدى سنة 2002، على سبيل المثال، إلى “الخروج عن المنهجية الديمقراطية”، من خلال تعيين تكنوقراطي وزيرا أولا للحكومة (إدريس جطو) بدل الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي (عبد الرحمن اليوسفي) المتصدر للانتخابات التشريعية لسنة 2002. وبحسب خالد يايموت، أستاذ العلوم السياسية، فإن النظام يشتغل عادة بالأحزاب السياسية القائمة، سواء في الأغلبية أو المعارضة، لكن من أجل “ضبط الحقل الحزبي، يلجأ باستمرار إلى آليات موازية للتحكم في إيقاع الحياة السياسية والحزبية، لتظل في طوع النظام وفي حدود السقف السياسي المحدد سلفا لها، ومن تلك الآليات التكنوقراط، المبثوث داخل الأحزاب وفي المؤسسات السياسية”. بالتوازي مع هذا المسار الحزبي، كان هناك مسار للحركة الاجتماعية، خصوصا الحركة الحقوقية، والحركة النسائية، والتي تؤرخ من جهتها للمرحلة السياسية الراهنة بسنة 2004، أي تاريخ تشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة التي ترأسها أحد رموز اليسار السبعيني، الراحل إدريس بنزكري، والتي سعت إلى طي صفحة سنوات الرصاص التي ميّزت بعض سنوات حكم الملك الراحل الحسن الثاني، وتعويض الضحايا، وإلى وضع الأسس المؤسسية والقانونية لضمان عدم تكرار انتهاكات الماضي. وإذا كان المسار الحزبي قد تم التشويش عليه باستخدام التكنوقراط إثر انتخابات 2002، فإن المسار الحقوقي، قد تم التشويش عليه باستعمال ورقة الإرهاب، الذي ضرب المغرب في أحداث متكررة، أبرزها أحداث 16 ماي 2003 الإرهابية بالدارالبيضاء، التي هزت مدينة الدارالبيضاء، واستدعت سياسة أمنية جديدة كانت لها تداعيات على المجال الحزبي والسياسي، وعلى المجال الديني كذلك. ويمكن القول إن التفاعلات السياسية التي مهّدت للانتخابات التشريعية لسنة 2007، أو التفاعلات التي حصلت في إثرها (ترشح فؤاد عالي الهمة، ضعف نسبة المشاركة…)، جاءت نتيجة للمسار التراجعي الذي طبع مسيرة مكون أحزاب الحركة الوطنية، بعدما تعرض عمودها الفقري الاتحاد الاشتراكي للانقسامات والوهن السياسي، كما أنها أثّرت سلبا على المسار الحقوقي بعد انتهاء عمل هيئة الإنصاف والمصالحة، في الوقت الذي تصاعد فيه المد الإسلامي، ممثلا في حزب العدالة والتنمية، وهو ما دفع السلطة إلى التفكير في خلق أداة حزبية مضادة لإحداث التوازن، تمثلت في حزب الأصالة والمعاصرة، الذي تشكلت نواته الأولى داخل حركة لكل الديمقراطيين سنة 2007، وتحولت إلى حزب سياسي في صيف 2008. قضايا في واجهة النقاش وقد انعكست مرجعيات الفاعلين ورهاناتهم على أجندة النقاش العمومي والقضايا التي أصبحت محور الصراع السياسي خلال تلك الفترة (1999-2007)، أبرزها الصراع حول السلطة بين رجالات العهد الجديد (أصدقاء الملك محمد السادس) ورموز العهد القديم (عهد والده)، انتصر فيها الجديد على القديم، بحيث أفل وانتهى مثلا نجم إدريس البصري مقابل صعود فؤاد عالي الهمة في وزارة الداخلية، وتواري الجنرال القادري لصالح ياسين المنصوري في الاستخبارات العسكرية، والاستعانة بالعسكر في إدارة الأمن الوطني (الجنرال العنيكري)، وهو الصراع الذي كان قائما في نفس الوقت بين هؤلاء ممن وصفوا حينها بالحكام الجدد، وبين حكومة عبد الرحمان اليوسفي، كما دلّت على ذلك وقائع عديدة، من أبرزها حدث استقالة الوزير الراحل العربي المساري بسبب تعيين فيصل العرايشي على رأس القطب الإعلامي العمومي بدون استشارته بل موافقته، أو على صعيد المال والاقتصاد حين تم الإعلان عن تأسيس المراكز الجهوية للاستثمار بدون استشارة وإشراك الوزير الأول عبد الرحمان اليوسفي. وهو الصراع الذي انتهى بإبعاد الاتحاد الاشتراكي من رئاسة الحكومة بعد انتخابات 2002، رغم أنه تصدر نتائجها، ما جعل اليوسفي يعتزل السياسة منذ ذلك الحين. وفي “محاضرة بوركسيل” لسنة 2003 أكد قائلا: “إن تجربة السنوات الخمس المنصرمة أفهمتهم (الناخبين) أن الحكومة لا تتوفر على السلطة الكافية من أجل القيام بمسؤولياتها وأنها كانت مقيدة بتقاليد عتيقة”. معلنا بمرارة أن قبول الاتحاد الاشتراكي “بقيادة تجربة التناوب مخاطرة أخدنا فيها في الحسبان المصلحة الوطنية وليس المصلحة الحزبية، واليوم وقد انتهت هذه التجربة بدون أن تفضي إلى ما كنا ننتظره منها، بمعنى التوجه نحو الديمقراطية عبر خطوات تاريخية إلى الأمام، التي ستشكل قطيعة مع ممارسات الماضي، فإننا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام متطلب وطني يلزمنا بالانتظار”. وإلى جانب الصراع حول السلطة، كانت هناك قضايا أخرى محور الصراع السياسي ذات طبيعية إيديولوجية؛ مثل قضايا المرأة، الدين، الأمازيغية، التعليم، الإرهاب، الصحراء، الفقر…الخ، ورغم تعدد مرجعيات الفاعلين في التعاطي مع تلك القضايا، إلا أن النقاش بات محكومات حينها بثنائيات شهيرة مثل الإسلاميين/العلمانيين، المتطرفين/المعتدلين، هي انقسامات سمحت للسلطة بامتلاك زمام المبادرة في طرح أجوبة لكل تلك القضايا، من قبيل مدونة الأسرة، والمعهد الملكي للأمازيغية، وإصلاح الحقل الديني، والميثاق الوطني للتربية والتكوين، وإحداث هيئة الإنصاف والمصالحة، والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ومبادرة الحكم الذاتي للصحراء، كما تم السعي إلى إعادة هيكلة الحقل الأمني في سياق الحرب على الإرهاب. وفي سياق إطلاق تلك المبادرات، حرصت خطب الملك محمد السادس على إضفاء معنى عليها من خلال عناوين/شعارات مؤطرة، فتحدث تارة عن “المشروع الديمقراطي الحداثي”، وتارة عن “مغرب ديمقراطي موحد”، وتارة أخرى “المشروع الوطني التقدمي”، أو “مغرب الوحدة والديمقراطية والتقدم”، وفي مرحلة لاحقة، شرع في الدعوة المباشرة إلى تجديد النخب السياسية والحزبية، لتكون في مستوى تلك المبادرات والمشاريع التي أطلقت. لكن نتائج انتخابات 2007 أظهرت أن تفاعل المواطنين مع كل تلك المبادرات كان محدودا، وهو ما دلّت عليه نسبة المشاركة التي لم تتجاوز 37 في المائة، رغم الجهود التعبوية التي بذلت من أجل حثّ المواطنين على المشاركة في تلك الانتخابات، منها دعوة مباشرة وردت في خطاب ملكي يحث على المشاركة، ومنها تأسيس “جمعية 2007 دبا” من قبل رجل الأعمال نور الدين عيوش. خلصت السلطة فيما يبدو إلى قراءة تقول إن أحزاب الحركة الوطنية لم تعد قادرة على منافسة حزب العدالة والتنمية، ما دفع صديق الملك، فؤاد عالي الهمة، الذي ترشح في تلك الانتخابات، إلى تأسيس “حركة لكل الديمقراطيين” في مواجهة “البيجيدي”، وهي المبادرة التي خرج منها حزب الأصالة والمعاصرة سنة 2008، كما سبقت الإشارة، الذي تأسس على أنقاض ثلاثة أحزاب صغيرة، كما تشكل من نخب يسارية وحقوقية، وأعيان الانتخابات، ونخب إدارية وتقنية التحقت بالحزب خلال التأسيس أو بعده. وقد طبع الصراع بين حزب العدالة والتنمية وحزب الأصالة والمعاصرة الحياة الحزبية والسياسية منذ سنة 2008 حتى آخر انتخابات تشريعية سنة 2016، علما أن المكون السياسي الإسلامي قد برز كفاعل مؤثر في الحياة السياسية منذ وصول الملك محمد السادس إلى الحكم، بحيث انتقل من قوة انتخابية هامشية سنة 1999 (14 مقعدا نيابيا) إلى 42 مقعدا برلمانيا سنة 2002 إلى 46 مقعدا برلمانيا سنة 2007، إلى 107 برلماني سنة 2011، ثم 125 مقعدا برلمانيا في آخر انتخابات تشريعية سنة 2016، ويمكن القول إنه بات منذ سنة 2011 القوة الحزبية والسياسية الأولى في المملكة. 2011 مرحلة جديدة تشكل سنة 2011 لحظة فاصلة في الحياة السياسية المغربية، حيث أوقفت احتجاجات الربيع العربي التي اندلعت في دول عربية عديدة، وامتدت إلى المغرب من خلال حركة 20 فبراير، الترتيبات السياسية التي وضعت عقب انتخابات 2007، وكانت ترمي إلى تحجيم قوة الإسلاميين الانتخابية، وأساسا حزب العدالة والتنمية، من خلال اللجوء إلى تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة كما سبقت الإشارة. وقد عكست الانتخابات الجماعية لسنة 2009 هذا المنحى، حيث هيمن حزب الأصالة والمعاصرة على رئاسة أغلب الجماعات القروية والحضرية، متبوعا بحزب الاستقلال، بينما تمت محاصرة حزب العدالة والتنمية في العديد من المدن التي فاز فيها، من خلال تشكيل تحالفات حزبية استهدفت عزله. وفي سنة 2011 نشر المعهد الوطني الديمقراطي (الأمريكي) نتائج بحث ميداني أنجز قبل ذلك التاريخ، حول تصور وعلاقة الشباب المغاربة بالأحزاب السياسية، خلص إلى أن “الكثير من المغاربة الشباب يشعر أن الأحزاب السياسية بعيدة كل البعد عنهم وليس لها مصلحة حقيقية في تمثيل المغاربة”، حيث أن المستطلعة آراؤهم اشتكوا خلال النقاش أن “الأحزاب السياسية تختفي مباشرة بعد الانتخابات، ولا تفي بالوعود التي قطعتها على نفسها للمواطنين”. وتحدث البحث حينها عن “أزمة ثقة” بين الشباب والأحزاب. ويبدو أن احتجاجات 2011 كسّرت من تلك العلاقة قليلا، وبحسب عباس بوغالم، أستاذ العلوم السياسية بجامعة وجدة، فإن احتجاجات حركة 20 فبراير 2011 “تعد أقوى حدث سياسي في ظل عهد الملك محمد السادس، إذ كان السبب في وضع دستور جديد، وفي وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكومة”، وأضاف “لم تكن هناك قطيعة مع السابق، لكن المغرب استفاد من احتجاجات الربيع العربي، وحقق بعض المكتسبات على مستوى الوثيقة الدستورية، كما تحقق انفراج في الحياة السياسية التي اتسمت بالرتابة قبل ذلك”. ومن نتائج تلك الاحتجاجات، أنها كانت وراء “تشكيل خريطة سياسية وحزبية جديدة”، بحسب بوغالم، “يوجد البيجيدي في القلب منها، كما أنها خريطة مجتمعية أقرب إلى الواقع، وخلال الولاية التشريعية السابقة كانت تعكس نقطة ضوء إيجابية، لكن ذلك تغيّر بسرعة بعد انتخابات 2016، وعودنا إلى القهقرى، ربما إلى ما قبل 2011، أي إعادة التحكم في المشهد السياسي بعيدا عن حقيقة الواقع”.تمحور الصراع السياسي بعد 2011 بين حزب العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة، وحزب الأصالة والمعاصرة الذي يوجد في المعارضة، وقد أدى الصراع بين الطرفين إلى خلخلة الاستقرار الحكومي والحزبي بشكل عميق، أسهم في بروز نخب حزبية جديدة، وفي الحيلولة دون تنزيل سليم للدستور الجديد. منذ سنة 2012، برز عبد الإله بنكيران كرئيس حكومة مفوه، شغل الناس بشكل غير مسبوق داخل البرلمان وفي المهرجانات الشعبية، وخلال تلك السنة برزت ثلاثة أسماء أخرى في الوسط الحزبي، يتعلق الأمر بكل من إلياس العماري في حزب الأصالة والمعاصرة، وإدريس لشكر الذي انتخب كاتبا أولا للاتحاد الاشتراكي، ثم حميد شباط الذي انتخب أمينا عاما لحزب الاستقلال. ويمكن القول إن هذا الرباعي هيمن على الساحة السياسية، بخطاباته ومواقفه، ومناوراته كذلك. ففي سنة 2013 تعرضت حكومة بنكيران لأولى المناورات التي استهدفت إسقاط “البيجيدي” وعزله، في سياق إقليمي تميّز بإخراج حركة النهضة في تونس من الحكومة، وتنظيم انقلاب عسكري من قبل الجنرال عبد الفتاح السيسي في مصر ضد الرئيس الراحل محمد مرسي، في سياق ما سمي بالثورة المضادة ضد ثورات الربيع العربي. وهو سياق استُغل من قبل أحزاب المعارضة المغربية، وخصوصا الأصالة والمعاصرة والاتحاد الاشتراكي، للدفع باتجاه تعديل الحكومة التي انسحب منها حزب الاستقلال، وتطلب إعادة ترميمها شهورا، بعد مفاوضات مع حزب التجمع الوطني للأحرار، الذي التحق بحكومة بنكيران من موقع أقوى. لكن المواجهة استمرت داخل الحكومة بين الأحرار و”البيجيدي”، ومن خارجها بين “البيجيدي” وأحزاب المعارضة الجديدة، أي الأصالة والمعاصرة والاتحاد الاشتراكي والاستقلال، وقد تجلى ذلك بوضوح في مجلسي البرلمان، الذي كان يحتضن الجلسات الشهرية لمساءلة رئيس الحكومة، والتي تحولت في العديد من المرات إلى حلبة صراع خطابي محتدم، استعملت فيها مفاهيم جديدة، دخلت القاموس السياسي لأول مرة، مثل توصيف الخصوم من قبل رئيس الحكومة ب”العفاريت” و”التماسيح”، واتهام المعارضة، خصوصا أمين عام حزب الاستقلال حميد شباط، لحزب “البيجيدي” بالعمل لصالح داعش والموساد والصهيونية، بل تم استيراد تهم أخرى انتشرت في الساحة المصرية لترويجها في وجه “البيجيدي” من قبل بعض قادة الاتحاد الاشتراكي خصوصا، ك”أخونة الدولة”. وقد عكست الأجواء التي جرت فيها الانتخابات الجماعية والجهوية لسنة 2015، بعدما تم تأجيلها لأربع سنوات، حدة تلك الصراعات، التي تفاقمت حدتها أكثر بعدما أظهرت النتائج سيطرة حزب العدالة والتنمية على جل المدن الكبرى والمتوسطة، التي فاز فيها بالأغلبية المطلقة، مثل الرباطوالدارالبيضاء ومراكش وطنجة وفاس ومكناس وأكادير وتطوان وسلا والقنيطرة وغيرها. أدت نتائج انتخابات 2016 إلى زلزال سياسي في المشهد الحزبي والسياسي، فقد تم إبعاد رموز سياسية فورا مثل حميد شباط، وإلياس العماري، وفي الوقت نفسه عادت السلطة إلى الاستعانة بحزب التجمع الوطني للأحرار لفرض رؤيتها في تشكيل الحكومة، بعدما تم إبعاد رئيس صلاح الدين مزوار، لصالح عزيز أخنوش، الذي جرى الحديث عنه، منذ ذلك الحين، بوصفه رجل السلطة في ضبط الإيقاع الحكومي والحزبي. ونتيجة لتلك الترتيبات السريعة واللاحقة على انتخابات 2016، تم إبطاء تشكيل الحكومة، حيث قضى بنكيران 6 أشهر في مفاوضات لم يخرج منها بطائل، قبل أن يصدر الملك قرارا ثانيا بإعفائه، وتعيين الرجل الثاني في الحزب، سعد الدين العثماني خلفا له، وهو القرار الذي أبقى على “البيجيدي” في موقع قيادة الحكومة، لكنه أدخله في أزمة كادت أن تعصف بوحدته، ولم يتعاف منها حتى الآن. قضايا جديدة للنقاش في العقد الثاني من حكم الملك محمد السادس، وخصوصا خلال الفترة ما بين 2011 و2016، يمكن القول إنه تميز بنقاش عمومي واسع داخل المؤسسات وليس خارجها، سواء داخل المجلس الحكومي، أو في البرلمان، أو في الإعلام. وإذا كان العقد الأول من حكم الملك قد تميز بثنائيات سبق الحديث عنها، مثل علمانيين/إسلاميين، معتدلين/متطرفين، فإن الفترة اللاحقة على سنة 2011 عرفت بروز ثنائيات جديدة؛ من قبيل الديمقراطية / الاستبداد، الإصلاح / الفساد، الملكية البرلمانية / الملكية التنفيذية، التأويل الديمقراطي للدستور / التأويل السلطوي للدستور… كما تصدرت قضايا أخرى المشهد الحزبي والسياسي، بحيث تراجعت إلى الوراء قضايا المرأة، الإرهاب، الإصلاح الديني، لصالح قضايا جديدة احتلت رأس القائمة/ الأجندة، من قبيل التنزيل الديمقراطي للدستور، صلاحيات رئيس الحكومة، تعزيز الحقوق والحريات، التوزيع العادل للثروة، الجهوية المتقدمة، إصلاح التعليم، والعمق الإفريقي للمغرب، وقضايا الشباب، والحكامة الأمنية، والتدبير الديمقراطي للاحتجاجات، وأزمة الثقة في المؤسسات…الخ. غير أنه منذ تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة سعد الدين العثماني، يلاحظ أن النقاش بدأ يخرج من المؤسسات إلى فضاءات أخرى، مثل الشارع، الفايسبوك، وهي وضعية تعزى، بحسب عدد من المحللين، إلى تجدد أزمة الثقة في المؤسسات مرة أخرى، كما سبق أن عالج ذلك المعهد المغربي لتحليل السياسات في منتدى الرباط للسياسات في بداية سنة 2019. وبحسب محمد الشرقاوي، أستاذ النزاعات في الجامعة الأمريكية، فإن الديناميات السياسية اليوم بالمغرب أضحت مؤطرة ب3 حاءات: الأولى الحكرة، التي تحرك الاحتجاجات في أكثر من منطقة مثل حراك الريف، واحتجاجات جرادة، وزاكورة وغيرها، والثانية الحريك، في إشارة إلى تمسك أغلب الشباب المغربي بفكرة الهجرة والسعي إلى العبور إلى أوروبا حتى في رحلة محفوفة بالمخاطر في قوارب الموت، والثالثة الهاشتاغ، أي استخدام الفايسبوك للتنفيس عن الضجر والتذمر، وهو “مثلث” يؤشر بحسب الشرقاوي، على حالة التذمر الاجتماعي. لقد أنهت حركة 20 فبراير الترتيبات السياسية التي وضعت خلال العقد الأول من حكم الملك محمد السادس، وخلخلت البنيات الحزبية والسياسية والمؤسساتية، وتشير الوقائع التي تلت انتخابات 2016 إلى أن حراك الريف ربما يحدّ من فعالية الترتيبات السياسية التي أعقبت تلك الانتخابات، في صراع سياسي مفتوح حول السلطة والدين والثروة.