تعاني الولايات لامتحدة الأمريكية مؤخرا من أعاصير عاتية، بعضها وصف بأنه لم يسبق وقوع مثله. وواكبت هذه الأعاصير متابعة شديدة من قبل الناس في العالم أسره، ومنهم المسلمون طبعا. كثير من المسلمين فرحوا واستبشروا لهذا الإعصار وذاك. منهم من كان يتابعه بمنطق "الخبر العاجل" التدوينة : الإعصار الفلاني في طريقه إلى فلوريدا. التدوينة الموالية : حالة تأهب في درجة كذا. التدوينة اللاحقة : تقارير الغرب تفيد بفداحة الخسائر والتي تصل 300 مليار دولار تقريبا ….الله على راحة ياسلام …سنسجد لله شكرا ونسأله باسمه الأعظم ان تصل الى 500 مليار دولار إلخ. إضافة إلى التبتل والدعاء الدعاء بتمكين الإعصار من الناس، قتلا وتشريدا. وهذه النظرة الفرحاتية بالكوارث ليست ملتصقة بالمسلمين فحسب، فهي من صميم ثقافة الأوربيين أيضا، بل من ثقافة المتدينين منهم. وقع زلزال رهيب وشهير في لشبونة سنة 1755. والكارثة أنه وقع يوم فاتح نونبر. وهو يوم مقدس عند المسيحيين، فاهتزت لشبونة الجميلة الكاثوليكية في التاسعة وأربعين دقيقة صباحا، والناس متجمعون في قداس. هذا الزلزال هدم ثلاثين كنيسة، وأبقى معظم المواخير ! ومات جراءه 15000 إنسان، وأصيب مثلهم أو أكثر بإصابات. ومن حاول الفرار، هرب إلى البحر، فووجه بأمواج عاتية قاتلة. إنه تسونامي برتغالي أصاب البرتغال والمناطق المجاورة بما فيها شمال المغرب. لكن الخطير في الأمر، أن هذا الزلزال كان زلزالين. زلزال جيولوجي معروف. وزلزال فكري فلسفي خطير. تساؤلات خطيرة ورهيبة صاحبت الزلزال. لماذا أصيب أو قُتل الناس الأتقياء المتجمعون في القداس ؟ لماذا اختار الزلزال هذه المدينة الكاثوليكية وترك باريس الممتلئة بالخمارات ؟ ولماذا لم يُصب هذا الدمار الشامل الوزيرَ الآمر الناهي الذي كان العدو اللدود لليسوعيين في أوربا كلها ؟ أسئلة حيرت رجال اللاهوت الأوربي. لم يجد مالاجريدا (أحد اليسوعيين الأوربيين) تفسيرا للحادث، سوى أنه عقوبة من الله. عقابا على الرذيلة المستشرية في لشبونة. لكن أسئلة محيرة لم يجدوا له جوابا. هل الآثمون الذين يستحقون العقاب هم وحدهم الذين ذهبوا إلى القداس والكنائس ؟ لماذا هلك الكثير من القساوسة والراهبات المتفانين في الإخلاص للدين ؟ بعض المسلمين وافق اليسوعيين في التفسير العقابي للزلزال، عقوبة وانتقاما لضحايا محاكم التفتيش. لكن، الزلزال ذاته دمر المسجد الكبير الذي يحمل اسم المنصور في الرباط. أي نعم. أثر زلزال لشبونة وصل إلى الرباط. شارك في الزلزال الفكري بروتستانت لندن، وحاولوا تصفية الحساب مع الكاثوليك، ففسروا الزلزال بكارثة سماوية استنكارا لجرائم الكاثوليك ضد الإنسانية. يقصدون محاكم التفتيش. لكنهم فوجئوا بزلزال شديد يصيب إخوانهم في بوسطن بعد 18 يوما فقط. أما وليم ووربرتون فذهب إلى أن مذبحة لشبونة أبرزت عظمة الله في أبهى صورها. وألقى القس جون وويزلي موعظة قال فيها : الخطيئة هي السبب المعنوي للزلازل مهما كان سببها الطبيعي. والزلزال نتيجة للعنة التي صبتها السماء على الأرض، خطيئة آدم وحواء. هذه التفسيرات والتأويلات أغضبت فولتير غضبا شديدا. لكنه وجد صعوبة في تفسير الظاهرة، وفشل في التوفيق بين الحادث وبين إيمانه بإله عادل. ونظم قصيدة "كارثة لشبونة" امتزج فيها الشعر بالغضب بالتأمل بالفلسفة. لكن الخيط الناظم لفولتير هو التشاؤم. أذهلت قصيدته المتدينين لجرأتها وخرقها للمألوف. وأذهلت أيضا المفكرين والفلاسفة. فأرسل روسو رسالة بليغة وطويلة إلى فولتير. يوضح فيها أن كل ما تعانيه الإنسانية من علل وشرور، ما هو إلا نتيجة لأخطاء البشر، وأن زلزال لشبونة ما هو إلا عقاب عادل للإنسان لتخليه عن الحياة الطبيعية وإقامته في المدن. أي نعم. الانتقال إلى المدن والتكدس فيها خطأ حسب جان جاك روسو. وهو بخلاف الحياة الطبيعية. وما هو البديل يا روسو ؟ قال في رسالته : ولو أن الناس التزموا الحياة البسيطة في القرى المتفرقة في دور متواضعة فلربما كانت الضحايا قليلة نسبياً، وينبغي أن نؤمن بأن الله طيب خير. نعم، يقرر روسو مسألة أساسية. الله طيب خير. بخلاف ما قاله فولتير في قصيدته الغضبى. لقيت رسالة روسو أوسع ترحيب، لأن الأوساط المتدينة والفكرية لم تسعد بقصيدة التشاؤم الفولتيري، وبالكلام القاسي مع الله، وفي حق الله. لزم فولتير الصمت. ولما عاد للخوض ثانية قي موضوع التفاؤل، خرج للناس بأروع أعماله، وهو كتاب ظل حديث العالم لمدة جيل، وهو الآن أعظم وأبقى أثر ورمز لفولتير. المهم من هذا كله، أن كارثة طبيعية أثارت انتباه رجال الدين ورجال الفكر. فكروا وناقشوا لم يغب عنها الكبار أمثال فولتير وروسو. بعض الناس اليوم الذين يفسرون الظاهرة بكونها عقابا إلهيا محضا. أعذرهم. فهم أبناء ثقافة لا يمكن أن تتجاوز ذلك التفسير، ولهم نظراء في التاريخ المسيحي عند جيراننا الشماليين. وهذا التفسير العقابي قرأناه في تسونامي. وقامت بسببه ضجة كبرى في المغرب. ونفس التفسير سمعناه عن الحسيمة. وبسبب هذا التفسير تم توقيف خطيب جمعة بسلا. بمعنى أن هذا التفسير سمعناه وسمعناه وسنسمعه لاحقا لا قدر الله. لكن الأسئلة المهمة التي يجب أن تثار، هي : لماذا لا نسمع إلا هذا التفسير الوحيد ؟ ألا يتعامل معنا الله إلا بمنطق العقاب. ألا يمكن اعتبار مثل هذه الكوارث الطبيعية ابتلاء ربانيا؟ والابتلاء ليس بالضرورة عقابا. ألا يمكن اعتبارها سببا لرفع درجات من لا يستحق العقاب ؟ أم أن العقاب يشمل الجميع، مسلمين وغير مسلمين، صالحين وطالحين. وعلى فرض أنها عقاب. هل هي عقاب لكل متضرر من جرّائها، بمن فيهم الأطفال والعجزة والمقعدون الذين لا يؤذون أحدا ؟ وعلى فرض أنها عقاب، فالأعاصير الأمريكية عقاب لمن ؟ هل هي عقاب للأمريكان المتضررين مباشرة ؟ أم عقاب للسعوديين الذين سيعطون لترامب دفوعات إعادة الإعمار ؟ لماذا يسكت رجال الفكر والتنوير ولا يدلوا بدلوهم كما فعل فولتير المتشائم الغاضب، وروسو المتفائل ؟ وما موقع التشفي والفرح من هذه المصائب ؟ وهل تجوز شرعا ؟ وإنسانيةً ؟ أسئلة تثير في دواخلي فوضى عارمة. ما أجمل الفوضى.