تشير معظم المقالات الصحافية، وهي تقرأ الشأن الداخلي للعدالة والتنمية، إلى وجود تيارين سياسيين: تيار العثماني وتيار بنكيران. باستثناء طريقة إعفاء بنكيران، وما تلاها من تولي العثماني تشكيل الحكومة، لم يكن للنقاش السياسي أن يأخذ مجراه، بالشكل الذي بدأ يأخذ فيه طابعا تقاطبيا بين تيارين. يمكن لهذا التقاطب- ولو الشكلي- أن يُسعف الحزب ببعض من مقومات الحضور، على الأقل حتى انعقاد المؤتمر المقبل. ذلك أن من شأن كتلة بنكيران، التي انخرطت في مناكفة كتلة العثماني، الحفاظ على فئة مهمة من "جمهور" العدالة والتنمية، الرافض لمسار ما بعد الإعفاء. هكذا، أخذت الكتلة الأخيرة تقدم نفسها بوضوح، أي على أساس أنها ترسم معالم مفارقة كبرى، إزاء كتلة أخرى متهمة بخيانة أصوات الناخبين من جهة، ومتهمة بخذلان أمينها العام من جهة أخرى. يمكن للقارئ السياسي أن يفترض وجود تقاطب سياسي داخل العدالة والتنمية. غير أنه تقاطب شكلي، بحكم عدم انبنائه على اختلاف حقيقي، في زاوية النظر إلى العديد من القضايا السياسية. ويمكن للمواطن العادي ملاحظة "خط" الاستمرارية، الذي تسير عليه حكومة العثماني، وإن بصورة رديئة مقارنة مع حكومة بنكيران. إن مختلف شعارات الحزب في الإصلاح انهارت، غداة الدخول الأول إلى الحكومة.. ولذلك، ليس من المتوقع إلا أن تسير رئاسة الحكومة الحالية في ذات الطريق، أي الإجهاز على الكثير من المكتسبات، على أكثر من صعيد اجتماعي واقتصادي وحقوقي. ولعل ما أفلتته يد بنكيران، ستطوله يد العثماني في القادم من الأيام..مع ملاحظة أن الأخير يتولى أضعف حكومة في تاريخ المغرب الحديث. كان بالإمكان تحسين شروط تشكيل الحكومة، في ظل وجود كتلة ناخبة أولت الحزب الصدارة النسبية. كما كان بإمكان العثماني التفاوض على أفضل الصيغ للتموقع، وبخاصة بعد استبعاد الأمين العام، الذي لم يعد مرغوبا فيه شخصيا. هكذا، بدل التعبير عن طموحات الكتلة الناخبة، صار الحفاظ على وحدة التنظيم الحزبي هدفا في حدّ ذاته. والغريب أن ذات المسار، الذي أودى بأعتى الأحزاب الوطنية، لم يشفع لقادة الحزب الانتباه إليه، مع العلم بالمنحدر الذي يهوي إليه العدالة والتنمية.. على غرار ما حصل للاتحاد الاشتراكي قبله بقليل..الخشية من العودة إلى المعارضة، كانت تدفع باتجاه القبول بأبخس الأثمان. تلك باتت العقدة بالنسبة لمختلف الأحزاب، تلك التي صارت تلجأ إلى التفريط في أحد مقومات وجودها، أي التموقع في المعارضة السياسية للحكومة (وحتى للحكم). ظل العدالة والتنمية، حتى بوجود تياريه الحاليين، يقف عند الحدود المرسومة له. والمفارقة أن التزامه بالوقوف عند تلك الحدود، مثلما عبر عن ذلك بنكيران في أكثر من لقاء، لم يسمح له بتحسين وضعه داخل دواليب الدولة. يبدو أن ليس المطلوب هو بنكيران، وإنما رأس الحزب الإسلامي نفسه. ليهنإ العثماني بموقعه على رأس الحكومة إلى حين، في انتظار أن تنضج الشروط لما هو آت. الدولة تتصرف بوصفها الحزب الأكبر، ولذلك فهي لا تقبل إلا بوجود أحزاب صغرى "على المقاس". إن التقاطب الحالي، داخل العدالة والتنمية، هو تقاطب مأزوم.. دليل موت سريري وليس دليل حيوية ودينامية. من الحاصل أن بنكيران لن يتمكن من رد الاعتبار إلى نفسه، بعد التخلي عنه بتلك الطريقة غير المقبولة، وبعد الخذلان الذي تعرض إليه من أقرب مقربيه، في الحزب والدعوة على حدّ سواء. كذلك، لن يتمكن بنكيران من إعادة ترتيب أوراق الحزب، حتى وإن حصل على عهدة جديدة على رأس الأمانة العامة. وإن افترضنا حسن نيته في هذا الاتجاه، فإنه لن يسمح له بذلك من أكثر من طرف، وفي مقدمتهم أولئك الذين اجتمعوا على عرقلة مسار تشكيله حكومته. لقد أضاع بنكيران أكثر من ورقة: – أولا، باعتباره أمينا عاما لحزب كان في أوج انطلاقه، جراء النجاحات المتصاعدة في مختلف الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة؛ – ثانيا، باعتباره رئيس حكومة، خروجها كان في ظل ظروف استثنائية، مساعدة على قراءة تقدمية لدستور 2011؛ – ثالثا، باعتباره مكلفا بتشكيل أغلبية حكومية، أرغمته انتظاريته القاتلة على إهدار الكثير من زمن التفاوض، إلى أن تمّ إعفاؤه في نهاية المطاف. أما بالنسبة لتيار العثماني، فإن أفضل سيناريوهاته هو استيفاء الحكومة لمدتها القانونية. ليس هناك أفضل مما كان، مثلما ورد على لسان أحد منظري الإفلاس السياسي داخل تيار الاستوزار. الاستشهاد بتجربة الإخوان المسلمين في مصر، في سياق المحنة التي مازالوا يتعرضون إليها، ورقة يتم إشهارها لتبرير مختلف الانحدارات الحاصلة إلى اليوم. ولتحصين البقاء في الحكومة، ليس هناك من خيار غير رفض تمكين بنكيران من ولاية أخرى. وبحكم ما يجسده الأمين العام الحالي من قوة، فإن مختلف الضربات ظلت تتجه إليه شخصيا. في معظمها، لا تكاد تخرج تلك الضربات عن إصابة هدف واحد: لا شرعية تجاوز العُهَد المخولة على رأس الأمانة العامة. أعتقد أن في هذا الإطار، ظل التعريض مُركَّزا على صفة الاندفاعية في شخص بنكيران، بعدما استنفذت هذه الأخيرة مهامها، في مواجهة الأصالة والمعاصرة من جهة، وفي استقطاب الأصوات خلال الاستحقاقات الانتخابية من جهة أخرى. أانقسم العدالة والتنمية أم لم ينقسم، فإن الواقع يقول إن شيئا كبيرا انهار داخل كيان الحزب..مهما حاول بنكيران، وهو مجرد عنوان لتيار، تأمين خط رجعة آخر…وهي لعمري محاولة قد تكون للالتفاف على نهوض اختيارات سياسية بديلة..ومع ذلك، فإن أسوأ موقف يمكن أن يجد مثقف الحزب نفسه فيه، هو موقف الدفاع عن الإفلاس السياسي، الذي غدا يشكله العثماني وتياره الاستوزاري…ففي حكومة يعتزم البعض الاسقالة منها، علاوة على عدم اقتناع الأغلبية الساحقة بوجودها، نجد بعض المثقفين يجهدون أنفسهم في تمحُّل التحليل، على أساس أن هناك اختيارا سياسيا، له ما يبرر وجوده داخل الحزب وداخل الحكومة. إن المسألة لم تعد لها علاقة بجدارة هذا التيار أو ذاك، في تقدير أي منها للوضع السياسي بالبلاد..إنها بأيدي اللاعبين الكبار في الدولة، الذين هالهم تضخم الحزب بوجود بنكيران..مثلما أنها بأيدي الكتلة الناخبة للعدالة والتنمية، التي وجدت أن أصواتها تمّ تبديدها، من أجل حكومة ليس هناك ما هو أسوأ منها. أوليس يعتبر ذلك مساهمة من الحزب في الإجهاز على العمل السياسي، نظير ما تُتَّهم به الدولة في صناعتها للأحزاب وللخرائط الانتخابية؟؟؟؟