في علماء المسلمين عبر التاريخ علماء فضلاء صلحاء، أولياء لله خدَمٌ لدينه، ورثة النبي صلى الله عليه وسلم أولياءُ أمرِ أمته. ومنهم من اشتهر بالشين والتزلف والمرابطة في القصور، وخدمة الأمراء والملوك، وإن كانوا من الفسقة الظالمين، والطغاة المستبدين. واليوم كالأمس، في الأمة علماء من النوع الأول، ومنهم – وهم الأكثر – من النوع الثاني، الذين اتخذوا علمهم سلما للرقي الاجتماعي، وتملك العقارات الكبيرة، والسيارات الفارهة، وغيرها من ترف الدنيا الزائل. ومن علماء عصرنا فضيلة الشيخ الفقيه الأصولي المقاصدي عبد الله بن بية الموريتاني أصلا، الإماراتي إقامة واستيطانا (وربما جنسيةً)، الذي تلقى العلم ابتداء في المحاظر الموريتانية، وحفظ المتون، واشتغل بالسياسة، وعيِّن في مناصب وزارية مهمة في موريتانيا، وكان عضوا قياديا في الحزب الوحيد الحاكم بها إذ ذاك. وبعد تقلبات الدهر، انتقل إلى المملكة السعودية أستاذا في جامعاتها، وكان عضوا بارزا في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ثم استميل إلى جناح الإمارات العربية المتحدة، فانشق عن الاتحاد العالمي، وأسس مجلس حكماء المسلمين، وأسس بعده منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، ثم ارتقى إلى مستوى رئيس مجلس الإفتاء الإماراتي، وكل هذه المؤسسات ترفل في النعيم المادي بميزانيات ضخمة، وموارد بشرية مهمة، وبعد تحوله المذكور، حاولت الإمارات أن تصنع منه رمزا دينيا، فدعمته برفقة الدول التي تدور في فلكها، وصار يتصدر المجالس المنعقدة في نيويورك وواشنطن وفيينا وغيرها من العواصم الكبرى. وبمقارنة بسيطة بينه وبين الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله تعالى، نلمس الآتي: أولا: من حيث غزارة الإنتاج. ثانيا: من حيث التأثير في الجمهور وكثرة المحبين والمتتبعين. ثالثا: من حيث كثرة المستجيبين والمتفاعلين مع أفكاره وآرائه من جميع الطبقات المجتمعية. رابعا: من حيث الفصاحة والاستحضار والقدرة على الإقناع. خامسا: من حيث القدرة على صياغة الموقف. بناء على الموازنة بين الرجلين من هذه الزوايا وغيرها، نلمس الحضور القوي للقرضاوي مقارنة مع ابن بية، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء. أما الشيخ ابن بية، فقليل الإنتاج العلمي جدا، حتى موقعه الرسمي لم يتجاوز في سرد كتبه عدد العشرة إلا بقليل جدا، وحاول التضخيم من عدد المؤلفات بتكرار عدد طبعات الكتاب الواحد، مع إضافة ما كتبه الشيخ من مقدمات لكتب غيره من الباحثين والعلماء، إضافة إلى أن بعض كتبه ليست علمية أكاديمية عميقة، وإنما هي مجرد حوارات عن بعد. وللتضخيم من هالة الشيخ ابن بية، عُقدت الندوات حول بعض كتبه للإطراء والثناء، وكتبت عنه مقالات مؤدى عنها منشورة في مجلات “محكمة” ذات الورق الصقيل، ومنهم من غلا وغالى، فكتب عنه أنه “فيلسوف الفقهاء”، و”فقيه الفلاسفة”، و”العالم المجدد”، وغير ذلك من الألقاب الطنانة، أسماء مملكة في غير موضعها…. ولم تكتف الماكنة المشتغلة خلف الشيخ بهذا فحسب، بل عملوا على توزيع كتبه ذات الحلة القشيبة بالمجان، لَيْتَها تجد حظا بين الباحثين، أو قبولا عند العلماء، لكن، “يَمْحُواللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ”، و”القبول” بركة من الله، لا يحصل بالتوزيع المجاني أو بغيره من الوسائل والحيل. لكن، يلاحَظ على الشيخ ابن بية أنه ارتمى في أحضان توجه مشبوه في العالم العربي، لم يستطع التخلص منه أو إحداث مسافة بينه وبينه، فحَلّ فيه واتحد به، وفَنَا فيه فناء لا انفكاك منه، فصار هو هو. وقد يتذرع بعض أتباعه والمرتبطين به بذرائع تسويغية لا تصمد أمام الواقع، منها أنه عالم فقيه لا علاقة له بالسياسة ومستنقعها، بخلاف الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي صار مؤسسة سياسية أكثر منه مؤسسة علمائية. وهذا القول الباطل مردود من جهتين: أولا: عمل العالم ليس منفصلا عن السياسة، والعالم المسلم ليس علمانيا بطبعه، والدين الإسلامي يقارب قضايا العقيدة والعبادة، ويقارب شؤون الناس ويؤطرهم ويدافع عن قضاياهم، وهو الأقدر على مبدأ “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”. ثانيا: عملُ الشيخ ابن بية ليس منفصلا عن السياسة منذ كان قياديا في الحزب الوحيد الحاكم بموريتانيا، ومنذ تقلد مناصب وزارية متعددة، وانفصالُه عن الاتحاد العالمي كان قرارا سياسيا وليس قرارا علميا، وتأسيسه للمؤسسات التي يرأسها هو خدمة لأجندة سياسية معروفة، ومشاركاته في المحافل الدولية مع وزراء وقادة الدول هي مشاركات سياسية بالضرورة، تُستغَلُّ سياسيا من قبل خصوم الأمة وأعدائها في بعض الأحيان، مثل مشاركته في مؤتمر الحرية الدينية في مقر وزارة الخارجية الأمريكية برعاية وحضور الوزير بومبيو، حيث نشر جويل روزنبرغ [يهودي إنجيلي داعم لإسرائيل] صورة له مع الشيخ ابن بية، معلقا عليها بقوله: “ليس كل يوم يشترك الإنجيلي اليهودي ذو الجنسية المزدوجة الأمريكية والإسرائيلية في هذه المرحلة مع أحد علماء الدين المسلمين السنة. كان شرف لي أن أقابل المتحدث الرئيسي في المؤتمر هذا الصباح الشيخ بن بية من دولة الإمارات”. هكذا كتب الصهيوني، وهكذا احتفى بالشيخ. وما حلف الفضول الذي اجتهد في الترويج له مؤخرا منا ببعيد، فهو ممارسة سياسية محضة. لذا كانت ذرائع الأتباع مردودة، ومسوغاتهم مرفوضة، والشيخ غارق في السياسة حتى شحمة أذنيه، إلا أنها السياسة التي يشتهي، لا السياسة المبنية على أسس الإسلام ومبادئ الحق وقيم الفضيلة. ويكفي أن أشير إلى أن قضايا عديدة تفاعل معها العالم أجمع، إلا أن الشيخ ابن بية تعامل معها بسياسة التغافل وصم الآذان، وكأنه لم يقرأ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن “المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد”، وكأنه لم يحفظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا”. وفي هذا المقام أشير إلى ما وقع في مصر، حيث أجهضت أعظم حركة تحررية في العالم العربي، وقُتل الآلاف بدم بارد في لحظات قليلة، ولم نسمع للشيخ موقفا أو قولا، وكأن “ضرورة حفظ النفس” لا توجد إلا في الكتب والدروس النظرية، أما تنزيلها والدعوة إليها والتحذير من تضييعها فليس من مهام الفقيه الأصولي المقاصدي. وأشير أيضا إلى استشهاد أول وآخر رئيس شرعي بمصر منذ الفراعنة إلى الآن، وقد تفاعل مع استشهاده كثير من العلماء والباحثين والساسة، ولم يكلف الشيخ ابن بية نفسه عناء تدبيج رسالة تعزية قصيرة، وهو المتفنن في صياغة التعازي نثرا ونظما، وما رسالة تعزيته في وفاة الأمير نايف منا ببعيد. ولم يصدر عن الشيخ عبد الله أي موقف من تضييع المال الإماراتي في ساحات ليبيا، وقتل الأنفس وإزهاق الأرواح في طرابلس ومصراتة، وهو على إدراك تام ب[ضرورة حفظ المال] وعدم تضييعه، وله اطلاع واسع على النصوص الشرعية الوفيرة الواردة في ذلك، وكأن المقاصدي لا يعرف هذه الضرورة وأمثالها إلا في بطون الكتب دون أجرأتها على أرض الواقع. وصمتَ الشيخ مؤخرا عن الصلاة خلف النصب التذكاري للهولوكست اليهودي، والصلاة عند الأنصاب تتعارض مع [ضرورة حفظ الدين] وسلامة العقيدة، وهي من الرجس المذكور في قوله تعالى: “إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان، فاجتنبوه”، فأين الحفاظ على الضروريات الخمس يا صاحب مشاهد من المقاصد؟ واليوم، وأمام صفقة القرن، التي استنكرها الشجر والحجر، صمت عبد الله بن بية صمت القبور، وقالت الفنانة إليسا ردا على الناطق باسم الجيش الصهيوني: “قال صفقة القرن رح تجيب السلام… على دم ملايين الناس اللي خصّن واللي ما خصّن… شو بشعة السياسة لما يغيب عنها العدل. البيت لنا، والقدس لنا، وبأيدينا للقدس سلام وحكام العرب عاملين حالن مش شايفين ولا سامعين”. إيليسا تتكلم، إليسا تستنكر، إليسا تغضب، إليسا تثور، وعبد الله بن بية يلوذ بصمت القبور، بئس الصمت صمتك يا شيخ، آه أينك يا سلطان العلماء العز بن عبد السلام؟ أين محتسب الفقهاء زروق؟ صفقة القرن رفضها الفلسطينيون جنا وإنسا، من رئاسة السلطة إلى آخر طفل يصدح بحنجرته ويرفع سبابته في الشارع في رام الله وغزة، ولو كان عند ابن بية”حلف فضول” حقيقي لتضامن مع الفلسطينيين الآن، ولتبرأ من سفير الإمارات الذي احتفى به ترمب ونتنياهو أيما احتفال. سفير يمدحه نتنياهو وابن بية يدين له بالولاء !! أيّ علم هذا؟ وأي عالِم هذا؟ أهذا العالم الوارث المحمدي؟؟ أهذا العالِم الذي تستغفر له الحيتان في البحر؟ ما الفرق بين “حلف الفضول” و”حلف الخمول”؟ عزيزي عبد الله بن بية. تذكر أنك مالكي المذهب، وتذكر الإمام مالكا الرجلَ الشهم المناضل، (من يعرفني فهو يعرفني، ومن لا يعرفني فأنا مالك بن أنس، طلاق المكره لا يجوز)، والسياط تنزل على جسده الشريف. هذا هو التمذهب الحق. هذا هو الانتماء إلى المالكية. ومما يجب على منتسبي المذهب أن يضبطوه ضبطا تاما، أصل سد الذرائع الذي تميز به المالكية، وأنت لم تركت كل الذرائع مفتوحة بل مشرعة، ولم تسد منها شيئا. سيدي عبد الله بن بية. عهدي بك صوفيا، وأنت من كبار مؤسسة طابا المدافعة عن التصوف – زعموا – بالإمارات، تذكَّر أقوال الصوفية وأئمتهم: “الصوفي لا يصحب الملوك، ومن صحب الملوك لا تصوف له”. وهي كالمعيار عندهم لمعرفة الصوفي الحق من الصوفي الزائف. سيدي عبد الله بن بية. تذكر قول الإمام عبد القادر الجيلاني – وما أخالك إلا معظما له، والتعظيم يقتضي الاقتداء والائتساء-: “التوبة قلب دولة”. أي نعم، قلب دولة. احمد الله أن أنسأ لك في العمر [أطال الله عمرك]، اقلب دولة نفسك، وبادر إلى التوبة من الصمت، وتذكر أن الله وهبك علما، وأعطاك لسانا، ومنحك صوتا، وأنت مسؤول “عن علمك ماذا عملت فيه” قبل أن تزول القدمان هناك. سيدي عبد الله. أخاطبك خطاب مشفق عليك، وأرجو لك الخير كل الخير، وأول الخير مغادرة موطن الشر. قد نعذر مفتي مصر أو عالِم البحرين أو غيرهما، لأنهما لا مفر لهما من بلديهما. أما أنت فلستَ ابن الإمارات، أنت “شيخ مستورَد”، يمكنك أن تقلب دولة نفسك، وأن تغادر إلى بلدك، وأن تؤسس دارا للقرآن لتعليمه وتفسيره، وتختم حياتك – وشمس عمرك على أطراف النخيل – أفضل وأحسن ختام، ختام الخيرية المطلقة “خيركم من تعلم القرآن وعلمه”. أتجد أفضل من هذا؟ سيدي عبد الله. اليوم أمر، وغدا قبر. أنت الأشعري الذي يؤمن بنعيم القبر وعذابه، تذكّر أنه لن يكون معك في وحشته آل نهيان أكتعين، ولن يفيدك صمتك عن الحق على الإطلاق. تذكر أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من شعب الإيمان، وهدْمُ شعبة يؤثر على الشعب الأخرى. تذكر أن الرجولة شرف وموقف. تذكر أن العلم الشرعي تاج فوق الرأس، وليس نعلا يُنتعل عند الحاجة ويرمى به عند الحاجة. تذكر سيدي مقولة الإمام الغزالي عن علماء الدنيا، كم هي قاسية؟ ولكنها ضرورية، والدواء المر أنجع في التداوي. تذكر سيدي سلطان العلماء العز بن عبد السلام كيف كانت أنفته، عزته، احترامه لعلمه، مواقفه … كان مولانا علي اليوسي ناصحا للملك إسماعيل، فبقي ذكره العطر الحسن إلى اليوم، أين علماء عصره الذين كانوا للسلطان ظهيرا؟ من يذكر أسماءهم؟ من يعرفهم؟. سيدي عبد الله. أنت صاحب كتاب [تنبيه المراجع إلى تأصيل فقه الواقع]، أين فقهك للواقع؟ أين تفاعلك مع الواقع؟ لماذا الهروب من التفاعل مع الواقع؛ واقع الإمارات بليبيا؛ وواقع الإمارات بمصر؛ وواقع الإمارات في غيرهما من المواقع؟. سيدي عبد الله. لكم مقولات هي غاية في التدليس، والتدليس مرفوض من صغار السن بله كبارهم. من مقولاتكم: “الإمارات تعزز الأخوة والتعايش بين أبناء العائلة الإنسانية”. أي نعم، تجاوزتم الحديث عن العائلة الإبراهيمية إلى الحديث عن العائلة الإنسانية، ولهذا موضع آخر. لكن، أليس الإخوان المسلمون من العائلة الإنسانية؟ أليس الليبيون الموالون لحكومة السراج من العائلة الإنسانية؟ لماذا تقبلون التعايش مع اليهود والنصارى والسيخ والبوذيين ووو ولا تقبلون التعايش مع الإخوان؟ أهذا تعايش أم حقد أم مجرد انتهازية ووصولية؟ لماذا تدلسون يا شيخ؟ سيدي عبد الله، أعرف غرامك بالشعر قراءة ونظما، لذا اخترت أن أختم معكم هذه المسامرة بأبيات مقتبسة من [غنية] القاضي عياض المالكي، علّها تحظى برضاكم: إن الملوكَ بلاءٌ حيثما حلّوا // فلا يكن لك في أكنافهم ظلُّ ماذا رجاؤك من قوم إذا غضبوا // جارُوا عليك وإن أرضيتهم ملُّوا وإن مدحتَهم ظنّوكَ تخدعهم // واستثقلوك كما يُستثقلُ الكَلُّ وإن أتيتهم تبغي زيارتهم // رجعتَ منتقَصاً من دينك الكُلُّ فاستغن بالله عن دنياهم ورعا // إن الوقوف على أبوابهم ذلُّ. سيدي عبد الله. أعتذر منكم إن خاطبتكم بأسلوب لم تعتادوا عليه، والصراحة – عادةً – مُغضِبة، لكن الإشفاق عليكم وحُبَّكم خاصة، وحب العلماء عامة، فرضا علي أن أخاطبكم بدل الاستمساك بالأحاديث الهامسة في غيبتكم، وما أكثرها. حفظكم الله وبارك في عمركم.