دونيز ماسون، سيدة مراكش وعاشقة المغرب، من المستشرقين والمستعربين الفرنسيين، الذين أسدوا خدمات جليلة للإسلام والثقافة العربية الإسلامية، حيث قامت بترجمة معاني القرآن الكريم من العربية إلى الفرنسية. كما تعتبر من المدافعين والمناصرين لاستقلال المغرب إبان الحماية الفرنسية. – ماسون من حياة الدير إلى رحاب الإسلام ولدت دونيز ماسون يوم 05 غشت 1901 بباريس، وتعتبر البنت الوحيدة لأسرة جد ميسورة، مما مكنها من الاستفادة من تربية أبناء المجتمع المخملي التي تعتمد على تعلم اللاتينية والموسيقى. وخلال سنة 1925، حدث شرخ كبير في حياتها يتمثل في طلاق أبويها، الشيء الذي أثر كثيرا في نفسيتها وجعلها تعتنق حياة الدير. وفي سنة 1929، التي تصادف ولادة الملك الراحل الحسن الثاني، كما كان يحلو لها أن تقول، استقرت بالمغرب الذي كان يرزح تحت وطأة الحماية الفرنسية، مؤمنة بأفكار أول مقيم عام فرنسي بالمغرب المارشال ليوطي، وبالمهمة التحضيرية للحماية، لكن مع احترام وتكريس الهوية المغربية. وأثناء هذه الفترة، عملت بمستوصف علاج داء السل بالرباط، وتميزت عن مواطنيها باهتمامها العميق بالإسلام والمسلمين، وبدأت عملية تعلم اللغة العربية الفصحى والدارجة بمعهد الدراسات العليا المغربية، بذات المدينة، التي توجت بالحصول على شواهد عليا، في هذا المجال. وبعد سنة من ذلك، أصبحت مديرة لمستوصف علاج داء السل بمدينة مراكش، لتنقطع نهائيا عن مزاولة هذه المهمة في سنة 1932، لأن تروثها العائلية تسمح لها أن تعيش في بحبوحة وفي حل من أي عمل إداري أو نشاط مهني. وهكذا كرست حياتها لدراسة أوجه الاتلاف والاختلاف بين الديانات التوحيدية الثلاث، من إسلام ويهودية ومسيحية دون اللجوء للتوفيقية، في هذا المجال. وفي سنة 1939، التحق بها أبوها موريس وزوجته الثانية بمراكش، حيث توفي سنة 1947. وقد كان أبوها رجل قانون وبنكي ومن محبي الفن، وأصدقاء النحات والرسام الفرنسي الشهير أوكوست رودان. اقتنى مجموعة من اللوحات الفنية الانطباعية الهامة، التي قام فيما بعد بوهبها لمتحف الفنون الجميلة بمدينة ليل الفرنسية، وتم عرضها برواق برنهيم-جون بباريس، خلال الفترة الممتدة من 27 فبراير إلى غاية 11 مارس 2011. – ماسون وترجمة معاني القرآن بأسلوب أدبي رفيع خلفت دونيز ماسون عدة مؤلفات تهتم بمقارنة الأديان والسيرة الذاتية، لكنها اشتهرت بترجمتها لمعاني القرآن الكريم الصادرة سنة 1967 في جزئين عن دار النشر كاليمار فيما يربو عن الألف صفحة، والتي كرست 30 سنة من حياتها لإنجازها. وقد صدرت هذه الترجمة بالحرف الأول من اسمها الشخصي وبكامل اسمها العائلي دون أدنى إشارة لجنسها، لتفادي النظرة المحافظة وردود الفعل الرافضة لفقهاء الإسلام الذين ألفوا تأليف كتب من هذا الصنف من متمرسي الاستشراق من الصنف الذكوري، الذين لهم باع طويل في هذا الجانب، وتم استحسان هذه الترجمة والترحيب بها لدى مختلف دوائر علماء الإسلام، معتبرين إياها محاولة لتفسير القرآن لا يمكن تقليدها، ومن بينهم الشيخ اللبناني صبحي الصالح الذي يصنفها ضمن أجود الترجمات أو بالأحرى أكثرها وفاء لمعاني القرآن. ومنذ صدور هذه الترجمة، لا زالت تعتبر من المؤلفات الأكثر مبيعا وإقبالا، نظرا لأسلوبها السلس ومستواها الأدبي الرفيع، وتتجلى الأهمية الكبرى لهذا العمل البحثي ذي النفس الطويل في كونه يسر فهم وتدبر معاني القرآن الكريم للجمهور الفرنسي العريض، على عكس الترجمات الأخرى التي كانت، في أغلبها، نخبوية وموجهة للفئة المثقفة والعالمة. وفي الفيلم القصير "دونيز ماسون، سيدة مراكش"، من إخراج ماري-كريستين كومبار سنة 2011، يقول الباحث والصحفي محمد حبيب سمرقندي، مدير مجلة "آفاق مغاربية" في شهادة له عن هذه الترجمة، بأنها من أكثر الترجمات استعمالا بفرنسا، خصوصا من طرف شباب الجيل الثاني من المهاجرين الذين لم تتح لهم الفرصة لتعلم اللغة الفرنسية، وبذلك تكون ماسون قد أسدت خدمة جليلة للأمة الإسلامية. أما الراهب جاك ليفرا، دكتور في اللاهوت وصاحب عدة مؤلفات حول الحوار الإسلامي- المسيحي، فيشير أن ترجمة ماسون تتميز بكونها تتوفر على مشاعر دينية أثارت إعجاب علماء الإسلام، وقلما توجد في الترجمات السابقة، في الموضوع. وفي سياق آخر، وبمناسبة تخليد الذكرى السابعة عشر لرحيل هذه المستشرقة المتميزة، أدلت المؤرخة بهيجة سيمو، مديرة الوثائق الملكية بالمغرب بشهادة في حقها، ذات صباح من سنة 2011، معتبرة إياها إنسانة فاضلة وعالمة موسوعية، تقلبت بين الآداب والفنون الموسيقية، ومؤكدة على كونها امرأة دين وصاحبة فكر ثاقب، يشهد لها بالمحبة للمغرب وأهله. ورغم بعض المؤاخذات والانتقادات الموجهة لترجمة ماسون، فإنها تعتبر من أجود الأعمال في هذا المجال، حيث تقول عنها الباحثة الجزائرية مليكة سريسر بأنها تعد من أشهر الترجمات الفرنسية، وأكثرها تداولا، ومن أبرز المحاولات المعاصرة التي لقيت صدى واسعا، وتوفية إعلامية هائلة، ومباركة من الأزهر. وبدوره، يعتبرها الباحث الإسلامي الدكتور محمد أكماضان ترجمة تتميز ببساطة الأسلوب، وبعدها عن الترجمة الحرفية، وحرصها على أداء المعنى مع مراعاة خصائص اللغة الفرنسية التعبيرية، مما جعلها تأتي بريئة من التكلف والتعقيد سواء في الألفاظ أو المعاني، بحيث يستطيع أن يفهما ويستسيغها كل قارئ عادي له حظ وسط من اللغة الفرنسية، ولو لم يكن من ذوي الاختصاص. – رياض درب زمران صومعة الراهب لسيدة مراكش في سنة 1938، استقرت ماسون برياض كان يسمى رياض الحافيظي، بني خلال القرن الثامن عشر، ويحمل إلى اليوم اسمها بدرب زمران بحي باب دكالة. وقد تم اقتناء هذا الرياض، من طرف والديها وإهداؤه إليها كما هو الشأن بالنسبة لشقتيها بكل من باريس وفيل فرانس سور مير، حيث كانت تقضي فصل الصيف للاستجمام وهربا من حرارة وقيظ مدينة مراكش. وبهذا الرياض، الذي قضت به ما يزيد عن ستين سنة من عمرها، والذي كان بمثابة صومعة الراهب أو برجها العاجي، كانت تستقبل العديد من الوجوه الفرنسية البارزة في مجالات الثقافة والفن والإعلام، نذكر منهم: الجغرافي والجيولوجي لويس جونتي، والمؤرخ جيل لا فوينت، والصحفية والباحثة في مجال الموسيقى فرنسواز فابيان، إضافة إلى عازفة الأورغ سوزان كيو. كما تمكنت في هذا المسكن من أن تعيش حياتها الغرائبية، التي كانت تتميز بالعزلة والعمل الجاد والدؤوب وندرة الأصدقاء والمعارف إلا من أولئك الذين كانت تربطهم بها علاقات عمل. يعد رياض دونيز ماسون من المعالم التاريخية والسياحية والثقافية بمراكش. فبعد وفاة صاحبته، تم تفويت هذا الصرح للدولة الفرنسية، ليقوم بتدبير شؤونه المعهد الفرنسي بمراكش، جاعلا منه فضاء لاستقبال الفنانين من أجل الإقامة والتفرغ للإبداع، ولتنظيم بعض التظاهرات، مثل الندوات والملتقيات الدولية وورشات الفن التشكيلي. توفيت دونيز يوم 10 نونبر 1994 بمكتبة رياضها بمراكش، التي قضت بها جل حياتها، ووريت الثرى بالمقبرة الأروبية بهذه المدينة التي عشقتها حتى النخاع. ومما جاء في شهادة، باللغتين العربية والفرنسية، على شاهدة قبرها أن هذه المستشرقة الفذة قد "اشتهرت بترجمتها للقرآن إلى اللغة الفرنسية، نهضت بهذه المهمة العظيمة، كما استقبلت لمدة ستين سنة برياضها الكائن بقلب مدينة مراكش كبار الفنانين والمثقفين، كاتبة وموسيقية ورائدة حوار الثقافات الأورو- المغاربية والديانات السماوية الثلاث، اختارت أن تهدي رياضها إلى فرنسا، وأن تدفن في تراب المغرب، البلد الذي أحبته، حيث تنعم روحها في طمأنينة". – دونيز ماسون بعيون الشاعرة والكاتبة نيكول دوبونشارا نيكول دوبونشارا هي كاتبة وشاعرة وناقدة فنية روسية الأصل، ألفت كتاب "الآنسة ماسون، رسائل إلى شاب"، الصادر عن دار النشر طارق سنة 2009، وذلك خلال إقامة فكرية برياض دونيز ماسون، بتوصية وطلب من المعهد الفرنسي بمراكش ومصلحة التعاون والأنشطة الثقافية بالسفارة الفرنسية بالرباط. ويندرج هذا العمل الإبداعي في إطار أدب الرسائل، إذ يضم مجموعة من الرسائل المتخيلة والمتبادلة بين دونيز وشاب متصوف يدعى ماركوس، استعرضت من خلالها هذه المستشرقة الفرنسية، بدون مواربة، آراءها ومواقفها حول عدة قضايا روحية وثقافية وسياسية. وفي هذا الإطار، تقول المؤلفة دو بونشارا إن هذا العمل الأدبي يأتي نتيجة لتنفيذ اقتراح وجه للشعراء والروائيين، الذين يأنسون في ذواتهم القدرة على رسم صورة لدونيز ماسون، من خلال متخيلهم ودراسة حياتها والوثائق التي خلفتها، مضيفة أنها لم يطلب منها إنجاز سيرة ذاتية للمستشرقة الفرنسية الراحلة، ولم تكن رغبتها إنجاز هذا الجنس الأدبي. – دونيز ماسون بين الغياب والحضور رحلت دونيز عن عمر يناهز 93 سنة، بعد حياة طويلة وحافلة بالمنجزات، حيث عرجت روحها بسلام من رياضها المنزوي في زقاق متعرج بدرب زمران إلى رياض أفسح وأرحب هو مدينة مراكش بعراقتها وروحانيتها ومباهجها، التي ضمت جثمانها وستبقى وفية لذكراها، وتلهج باسمها على مر السنين. لقد كانت الراحلة نسيجا وحدها، ومثالا يحتذى في مجال الاستشراق والدراسة المقارنة للأديان والبحث العصامي الذي لا يعرف أي كلل أو ملل، من أجل تيسير فهم معاني القرآن الكريم، وتقريب وتبسيط تعاليم الإسلام الحنيف للجمهور العادي من الفرنسيين والناطقين باللغة الفرنسية.