تواجهك وأنت تتجول في شوارع العاصمة الفرنسية وضواحيها هذه الأيام، من حين إلى آخر، لوحة إلكترونية منصوبة على طرف الرصيف تعلمك ب"توقيت الصلاة" وبأن "الهجرة عنصر نماء وثروة" وبأن "لا تمييز بين الناس والأجناس"، وغيرها من الإعلانات التي قد تبدو مثيرة للدهشة لولا التنافس الانتخابي لكسب الرئاسيات الفرنسية القادمة بين اليمين واليسار واليمين المتطرف، الوحيد الذي وضع "الهجرة مصدر شقاء لفرنسا" ضمن أولياته الانتخابية. وتتمحور هذه الانتخابات كالعادة في كل حملة انتخابية، حول الهجرة والجالية الإسلامية التي يفوق عددها ستة ملايين نسمة. فمع بوادر الحملة المتخفية للفوز بالرئاسة التي ستعرف نتائجها النهائية في شهر ماي القادم، أصبح شعار "مسجد مقابل صوتي الانتخابي" أحد المطالب الرئيسية لمسلمي فرنسا، وهو الأمر الذي دفع بالعديد من المرشحين لتبني هذا المطلب كأحد أولوياتهم لضمان أصوات ناخبيهم، خاصة في المناطق التي تتواجد فيها كثافة فرنسية من أصوات مهاجرة. وتصاعدت حمى المنافسة في الأيام الأخيرة لكسب أصوات المسلمين بين يميني يبشر ببناء مساجد للمسلمين، ويساري يفتتح رسميا بضاحية /أتيس مونس/ مسجدا يسع لأربعة آلف من المصلين، ووسطي يعد بتجهيز المسجد بضاحية أورلي، حتى أن المسلمين تمنوا لو أن أيام فرنسا كانت كلها انتخابات. كيف لا وجميع المرشحين، باستثناء أنصار الجبهة اليمينية المتطرفة، يرددون بشيء من الحسرة الانتخابية :"هل يليق بفرنسا أن يمارس الناس عبادتهم فوق الرصيف؟". وبعيدا عن وعود إصلاح أوضاع الهجرة وبناء المساجد التي يصل عددها إلى نحو 1600 مسجد ومصلى، فيما يبلغ عدد الكنائس 39 ألف كنيسة فضلا عن 300 كنيس مخصص لليهود ( 500 ألف نسمة)، فإنه مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، تتعاظم مخاوف اليسار الحاكم من أن يمنى بهزيمة سياسية وانتخابية كبيرة، كما تؤكد ذلك آخر استطلاعات الرأي، مما سيطيح بالبرنامج الرئاسي الذي على أساسه وصل فرانسوا هولاند إلى قصر الإليزيه. وما يضاعف مخاوف الحزب الاشتراكي الحاكم، تسارع انهيار شعبية رئيس الجمهورية وحالة الطلاق بينه وبين الرأي العام الفرنسي الذي تراجعت ثقته فيه إلى نسبة قياسية (21 في المائة). ويعول اليسار كثيرا على الجالية المغاربية باعتبار أن 75 في المئة من المهاجرين أقرب إلى الأحزاب اليسارية، حتى وإن كان هذا التوجه لا يستند إلى وضع اجتماعي أو إلى منظومة قيم فردية يتبناها الحزب المذكور، وإنما يمكن تفسيره بالتطلع لفكرة المساواة الاجتماعية المطروحة في برامجه، حيث يبقى اليسار في تصورهم أكثر قربا منهم ومن الفئات الفقيرة بشكل عام. ويمكن القول إن مشاكل البطالة والعمل غير المستقر والغلاء وانخفاض مستوى المعيشة، تطال بشكل أكبر الجالية المغاربية. وفي ظل فشل المشاريع المتعلقة بالهجرة وتنظيمها، ومنها سياسة ما يعرف بالاندماج التي طرحتها وتطرحها مختلف الأحزاب السياسية، فان الفرنسيين من أصول مغاربية يعلنون في غالبيتهم أن لا ثقة لديهم في السياسيين من اليمين واليسار. ومهما يكن، فإن تطلع الأحزاب للأصوات العربية يعكس من جهة الثقل الذي باتت تمثله الجالية العربية في المشهد الفرنسي العام، ومن جهة أخرى قدرتها على التأثير في مجرى الحياة السياسية في فرنسا، مما يطرح بقوة فكرة إقامة تكتل عربي قوي وقادر على مواجهة كل أشكال التطرف السياسي والاجتماعي. ولا بد هن من الإقرار بأن الحضور العربي الباهت من حيث المشاركة في مختلف الاستحقاقات السياسية، يقع جزء كبير منه على عاتق أعضاء الجالية المغاربية أنفسهم فيما أصبح عليه وضعهم، خاصة مع ما يتوفر لهم من فرص في المجتمع الفرنسي للدفاع عن حقوقهم ضد ثقافة الغيتو والتهميش والانفصال عن المجتمع المحيط. فلم تتمكن هذه الجالية حتى اليوم من صياغة مرجعية سياسية مشتركة أو مؤطرة بشكل يسمح بالتلاقي حول أهداف انتخابية محددة وتطلعات سياسية واجتماعية موحدة. ولا بد هنا من الوقوف على بعض من الخطابات والمواقف السياسية التي تتسابق الأحزاب في الترويج لها أثناء حملاتها الانتخابية بشأن موضوع الهجرة، وأهمها حزب ساركوزي "الجمهوريون" الذي يبني شعبيته على الهجرة المنتقاة كحل ضروري لضبط الهجرة. والهجرة المنتقاة في مفهومه هي ترحيل مئات الآلاف ممن لا يتوفرون على تكوين عالي أو رأسمال لإقامة مشاريع اقتصادية مربحة لفرنسا. وهو يتبنى أيضا بعض طروحات الجبهة اليمينية المتطرفة فيما يتعلق بالربط بين المهاجرين ومشاكل البطالة وانعدام الأمن والجريمة. أما موقف اليسار مجسدا في الحزب الاشتراكي، فيقوم على ترديد عبارات الديمقراطية والمساواة والتنوع الثقافي والعرقي مع البحث عن آليات لتجسيده، دون أدنى عمل ملموس لفائدة المهاجرين، بل يربط شروط دخولهم وإقامتهم وحقوقهم الاجتماعية والقانونية في فرنسا، بضوابط تكون أحيانا تعجيزية. ومن هنا فإن الحزب ينهج سياسة غامضة تبدي تساهلا في الشكل وتصلبا وتشددا في الجوهر. وتتبنى الحركة الديمقراطية (حزب الاتحاد من اجل الديمقراطية سابقا) سياسة الوسط. فهي ترفض القول إن الهجرة تضر بالهوية الوطنية وترفض أيضا التفكير بمنطق الربح والخسارة عند الحديث عن الهجرة، لكنها في الواقع تغازل اليمين وتتركه ينوب عنها في الترويج لما تؤمن بها في الداخل. وتبقى ضمن هذه الخارطة، الجبهة الوطنية المتطرفة التي تبني برامجها الانتخابية بوضوح على معاداة الهجرة والعمل على الوصول بها إلى الصفر، باعتبارها إفقارا لفرنسا وتهديدا لثقافتها وهويتها.