لم تخمد بعد حركة الاحتجاجات الواسعة التي خلفتها تصريحات الرئيس ساركوزي برفضه مصافحة من لا يعترف بإسرائيل، وإعلانه الخاص بأن يتكفل كل طفل فرنسي خلال دراسته الابتدائية بذكريات طفل يهودي ممن قضوا في معسكرات الاعتقال النازية، حتى أحدثت فرنسا مفاجأة جديدة بقرارها الاحتفال بإسرائيل من خلال دعوتها كضيفة شرف في المعرض الدولي للكتاب بباريس، تزامنا مع الذكرى الستين لقيام الدولة العبرية على أنقاض الشعب الفلسطيني. فبينما تمارس إسرائيل «إبادتها المقدسة» على الشعب الفلسطينيبغزة، حسب تعبير نائب وزير الدفاع الإسرائيلي، ماتان فينال، سيقوم المعرض الدولي للكتاب الذي سيفتتحه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي مع نظيره الإسرائيلي شيمون بيريز، يوم 13 مارس، بتكريم إسرائيل، وقد أعدت برنامجا واسعا على مستوى العالم كله عنوانه «إسرائيل في عيدها الستين»، علما أن معرض الكتاب في تورينو بإيطاليا سيجعل منها هو الآخر ضيفة شرف في دورته الممتدة ما بين الثامن و12 مايو القادم. يأتي هذا التكريم والضمير الثقافي البشري عاجز عن فهم أصل العلاقة بين معرض للكتاب والاحتفال بذكرى استقلال أي دولة في العالم، لاسيما وأن الدولة المحتفى بها ترتكب جرائم حرب، وتتصرف فوق القانون، وتضع في معسكرات الاعتقال والسجون 11 ألف أسير فلسطيني، وتدمر لبنان، وتقطع الماء والغذاء والكهرباء عن غزة.. دولة تغتال الثقافة في فلسطين وتطمس المعالم التاريخية والتراث، وتأتي الثقافة السياسوية الفرنسية لتحتفل بها وترقص في عيد استقلالها. وفيما أثار القرار الفرنسي موجة استياء كبيرة في الأوساط الثقافية العربية، وخاصة اتحاد الكتاب العرب والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، التي دعت إلى مقاطعة المعرض لما يمثله تكريم إسرائيل من تحد سافر لمشاعر العرب والمسلمين، رد وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير بأن أية مقاطعة من قبل الكتاب العرب أمر «مؤسف جدا»، مبررا كلامه بأن «الأدب الإسرائيلي» هو المدعو إلى المعرض كضيف شرف وليس دولة إسرائيل. والوزير الفرنسي يدرك أكثر من غيره الحمولة السياسية والثقافية لغياب كل من مصر والمغرب والجزائر وتونس ولبنان وهي من أبرز الدول العربية الناشطة في مجال الفرانكفونية، ومدى انعكاس ذلك على فعاليات المعرض بشكل عام، باعتبار الحضور المتميز لهذه الدول في الآداب الفرنسية بشتى صنوف إبداعاتها. تضارب في الآراء وفي مبادرة احتجاجية على هذا التكريم الذي دعي إليه أربعون كاتبا إسرائيليا من جميع الأجيال، نظم 16 اتحادا عربيا منضويا تحت لواء اتحاد الكتاب العرب، مسيرة رمزية إلى السفارة الفرنسية في القاهرة وسلموا السفير مذكرة احتجاج على اختيار إسرائيل ضيف شرف المعرض الذي تدعمه الخارجية الفرنسية. غير أن هذا الاحتجاج لم يمنع المثقفين العرب من اتخاذ مواقف متباينة بين فريق مؤيد لمقاطعة المعرض باعتبار أنه لا يحق الاحتفاء بستين عاما على نشوء دولة إسرائيل ونسيان أن هذا التاريخ هو نفسه نكبة الفلسطينيين. كما لا يجوز بأي شكل من الأشكال تحقيق العدالة لذاكرة البعض وحذفها تماما للبعض الآخر. ويذهب هذا الفريق إلى أن المقاطعة هي أنجع وسيلة لردع إسرائيل ولفت أنظار العالم، وخاصة المثقفين، إلى ما يحصل اليوم في الأراضي المحتلة، وخصوصا في غزة، وما حصل أمس في لبنان. ويرى الفريق الثاني أنه إذا كان الاعتراض أو الاحتجاج فعلان إيجابيان، فإن المقاطعة فعل سلبي وانهزامي في ذات الوقت، حيث يتوجب على المثقفين العرب ألا يفوتوا فرصة الذهاب إلى المعرض وتنظيم وقفة احتجاجية عارضين صور الأطفال الفلسطينيين والمجاعة في غزة وفضح ممارسات وانتهاكات الكيان الصهيوني. ويقول هذا الفريق الذي يرفض أن يكون مقيدا ب»الثقافة السياسية»، أن فعل المقاطعة سوف يصبح مقبولا لو كانت مشاركة إسرائيل في معرض الكتاب في الدارالبيضاء أو القاهرة أو غيرهما من الدول العربية، أما أن نذهب إلى دولة مثل فرنسا ونملي عليها من يشارك في معارضها، فهذا أمر في غير صالح الثقافة العربية وسيشجع إسرائيل على المشاركة في كل الأماكن التي ستطمئن أن العرب سيهربون منها. ومهما تباينت آراء المثقفين العرب، فإن الشيء المؤكد هو أن العرب أنفسهم قصروا تقصيرا كبيرا في الشأن الفلسطيني، لأنهم لم يعدوا برنامجا يذكر لتذكير العالم بستين عاما على نكبة فلسطين، وعلى اغتصاب أراضيها وقتل أطفالها وانتهاك مقدساتها. فلا اتحادات الكتاب ولا وزارات الثقافة ولا الجامعة العربية، تذكرت هذه الذكرى المأساوية ووقفت على أطوارها التاريخية المفجعة. وشهد شاهد من أهلها وفي خضم هذا الإهمال الذي لا حاجة للخوض في أسبابه ومبرراته حتى لا ندخل في مرثيات قد تثقل الضمير المجتمعي العربي، تأتي شهادة اغتصاب فلسطين من بعض اليهود أنفسهم ممن يتطلعون إلى سلام عادل ونزيه مع فلسطين وشعب فلسطين. فقد دعا الاتحاد اليهودي الفرنسي من أجل السلام إلى تنظيم أنشطة خاصة تذكر بنكبة الفلسطينيين عام 1948 موازاة مع احتفاء فرنسا بإسرائيل ك»ضيف شرف»، موضحا أن حضوره في المعرض ليس «مشاركة» بل «مقاومة» لما أسماه «العملية التزويرية التي تكرم دولة تقوم تحت ستائر الديمقراطية بالتفريق بين مواطنيها غير اليهود وتتجاهل باعتبارها قوة محتلة كل التزام اتخذته، كما تمارس العقوبات الجماعية بحق شعب كامل». وأكد في بيان له أن الاتحاد اليهودي والمجلة التي يصدرها «من الجانب الآخر» إضافة إلى مطبوعات دار النشر «لافابريك» ستكون حاضرة في معرض الكتاب «لتذكر بالواقع وبمعنى النكبة عبر أصوات لم تكف عن القول داخل إسرائيل أن السلام لا يمكن إحلاله بالإلغاء والكذب في ما يخص الماضي وهي أصوات تدعو للاعتراف بالآخر». وسيقيم الاتحاد مجموعة من الندوات واللقاءات والتوقيعات بين 15 و19 مارس داخل المعرض وخارجه وبين الشخصيات المدعوة للمشاركة في هذه الأنشطة الموازية الكتاب والصحفيون آلان باديو وآلان دييكوف وإريك هازان والمؤرخ ايلان بابي. كما تشارك الصحافية أميرة هاز «رسائل من رام الله» وأمنون راز كراتكوزكين «منفى وسيادة» وميشال فارشافسكي «برمجة الخراب» وأيال وايزمن «عبر الجدار» وجمال زحالقة «الثورة الصهيونية ماتت». ويعرف الاتحاد اليهودي نفسه بأنه جمعية تبحث عن «سلام عادل في الشرق الأوسط يضمن حقوق الشعب الفلسطيني ويعمل على تفكيك المستعمرات وإزالة الجدار وإطلاق الأسرى وإقامة دولة للفلسطينيين مع ضمان حق العودة لهم». وكان اتحاد يهود فرنسا من أجل السلام تأسس عام 1994 بعد اتفاقات أوسلو لخلق دينامية نحو السلام وخلق تيار بديل لدى اليهود يقوم على احترام حقوق الفلسطينيين وحقهم في بناء دولة مستقلة. وفيما لم يصدر عن المثقفين الفرنسيين أي رد فعل عن الاستضافة الشرفية لإسرائيل، أعلن كاتب إسرائيلي وحيد من بين الأربعين المدعوين رفضه الدعوة الفرنسية. ورد أهارون شبتاي على الدعوة برسالة جاء فيها «لا أعتقد أن دولة تستمر في الاحتلال وترتكب كل يوم مجازر بحق المدنيين تستحق أن تدعى إلى أي أسبوع ثقافي كان، فهذا ضد الثقافة بل هو عمل بربري متنكر بزي الثقافة ويعبر عن دعم فرنسا لإسرائيل ودعمها للاحتلال وأنا لا أريد المشاركة في ذلك». حملة على بناء المساجد تواجهك وأنت تتجول في شوارع العاصمة الفرنسية وضواحيها هذه الأيام، من حين إلى آخر، لوحة إلكترونية منصوبة على طرف الرصيف تعلمك ب«توقيت الصلاة» وبأن «الهجرة مصدر نماء وثروة» وبأن «لا تمييز بين الناس والأجناس»، وغيرها من الإعلانات التي قد تبدو مثيرة للدهشة لولا التنافس الانتخابي للبلديات بين اليمين والوسط واليسار، والذي يتمحور، كالعادة في كل حملة انتخابية، حول الجالية الإسلامية التي يفوق عددها ستة ملايين نسمة. فمع حملة الانتخابات البلدية التي ستعرف نتائجها النهائية في 16 مارس الجاري، أصبح شعار»مسجد مقابل صوتي الانتخابي» أحد المطالب الرئيسية لمسلمي فرنسا، وهو الأمر الذي دفع العديد من المرشحين لتبني هذا المطلب كأحد أولوياتهم لضمان أصوات ناخبيهم، خاصة في المناطق التي تتواجد فيها كثافة فرنسية من أصوات مهاجرة. ففي الأيام الأخيرة من الحملة، تصاعدت حمى المنافسة لكسب أصوات المسلمين بين يميني يبشر ببناء مساجد للمسلمين، ويساري يفتتح رسميا بضاحية «أتيس مونس» مسجدا يسع أربعة آلاف من المصلين، ووسطي يعد بتجهيز المسجد بضاحية أورلي، حتى إن المسلمين تمنوا لو أن أيام فرنسا كانت كلها انتخابات. كيف لا وجميع المرشحين، باستثناء أنصار الجبهة اليمينية المتطرفة، يرددون بشيء من الحسرة الانتخابية :»هل يليق بفرنسا أن يمارس الناس عبادتهم فوق الرصيف؟». مخاوف من هزيمة قاسية للحزب الحاكم وبعيدا عن وعود إصلاح أوضاع الهجرة وبناء المساجد التي يصل عددها إلى نحو 1600 مسجد ومصلى، فيما يبلغ عدد الكنائس 39 ألف كنيسة فضلا عن 300 كنيس مخصص لليهود ( 500 ألف نسمة)، فإنه مع اقتراب موعد 16 مارس، تتعاظم مخاوف اليمين الحاكم من أن يمنى بهزيمة سياسية وانتخابية كبيرة، كما تؤكد ذلك آخر استطلاعات الرأي، مما سيطيح بالبرنامج الرئاسي الذي على أساسه وصل ساركوزي إلى قصر الإليزيه. وما يضاعف مخاوف حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية، اليميني الحاكم، تسارع انهيار شعبية رئيس الجمهورية وحالة الطلاق بينه وبين الرأي العام الفرنسي الذي تراجعت ثقته فيه إلى نسبة قياسية (32 في المائة)، استفاد منها الوزير الأول، فرانسوا فيون بفارق 21 في المائة. وهذا الفارق في الشعبية بين الرجلين ظاهرة استثنائية، حيث المعروف تقليديا أن شعبية الوزير الأول تتراجع مع الممارسة اليومية للسلطة وازدياد الناقمين عليه فيما يكتفي الرئيس بدور الموجه العام. والحال أن أسلوب ساركوزي في ممارسة السلطة واختياره للاستعراض والمظهرية، جعله في الواجهة يتلقى الضربات ويحمي بذلك رئيس حكومته. ويتقدم لهذه الانتخابات ما يفوق ألف مرشح فرنسي من أصول مغربية يتنافسون في 36783 بلدية ألف جماعة بالتراب الفرنسي، من بينهم قلة قليلة جدا ممن هم على رأس القوائم الانتخابية. وتتوفر رشيدة داتي «الدائرة السابعة» ونور الدين نشيط «ضاحية كراي الباريسية» حسب استطلاعات الرأي، على حظوظ وافرة للفوز على رأس لوائحهما الانتخابية التي قد تؤدي إلى منصب عمدة. ويحظى نشيط الذي فاز بالميدالية البرونزية في رياضة الفول كونتاكت بشعبية كبيرة في الضاحية، وهو يرأس مقاولة تتولى تسيير الأنشطة الرياضية، ويدير ناديين رياضيين. كما حصل على جائزة المقاولة المتجددة (الفئة الدولية) سنة 2002 وكذا على ماستر لإحداث مقاولة دولية سنة 2003، وهي شهادة تمنح لمكافأة الشركات الأكثر مردودية بفرنسا، وقد وشحه الرئيس شيراك بوسام الاستحقاق الوطني من درجة فارس. ويعول اليسار كثيرا على الجالية المغاربية باعتبار أن 75 في المائة من المهاجرين اقرب إلى الأحزاب اليسارية، حتى وإن كان هذا التوجه لا يستند إلى وضع اجتماعي أو إلى منظومة قيم فردية يتبناها الحزب المذكور، وإنما يمكن تفسيره بالتطلع لفكرة المساواة الاجتماعية المطروحة في برامجه، حيث يبقى اليسار في تصورهم أكثر قربا منهم ومن الفئات الفقيرة بشكل عام. ويمكن القول إن مشاكل البطالة والعمل غير المستقر والغلاء وانخفاض مستوى المعيشة التي تهم جميع الفرنسيين، تطال بشكل أكبر الجالية المغاربية. وفي ظل فشل المشاريع المتعلقة بالهجرة وتنظيمها، ومنها سياسة ما يعرف بالاندماج التي طرحتها وتطرحها مختلف الأحزاب السياسية، فإن الفرنسيين من أصول مغاربية يعلنون في غالبيتهم أن لا ثقة لديهم في السياسيين من اليمين واليسار.