تعاقدنا أن يرتدي العمود جلبابا دوليا، من خلال التفاعل مع ما تشهده الساحة الدولية، أو إضاءات فكرية للسفر بين نظريات العلاقات الدولية، وقواعد القانون الدولي العام، إلا أن حضور ذات الباحث في موضوع البحث فرض الوقوف في محطة استراحة مُرهقة، على طاولة المقهى التي تُخط فيها هذه الحروف. فبينما أجلس ككل مساء في مقهى شعبي قرب المسكن، لأتجول بين فقرات الكتب أو أثناء القيام بمحاولات الكتابة، أو حقن الجرعات اللازمة من الإدمان الفيسبوكي، تمر شابة عفيفة تمشي على استحياء، حاملة لحبات الشوكولاتة، تضعها فوق الطاولة لتبيع الواحدة منها بدرهم أو أكثر، بحجاب طويل محتشم، وعيون تكاد تفيض من الدمع، معبرة عن قصة معاناة وإكراه مارسه الزمان على بدنها الذي قررت صونه وحفظه، راضية بالدريهمات التي تجود بها العفة والكسب الحلال الطيب، بملامح جميلة وجسد يؤهلها لجني أموال طائلة بداعي الاضطرار، والمضطر لا حكم له، كما يفعل بعضهن. إلا أنها فضلت بيع قطع الشوكولاتة المرة بطعم يذكر بنصيب الضعيف المغلوب على أمره من ثروات وطني، ورسالة توجهها إلى كل من باع عرضه يوما ما، أفراد أو مؤسسات أو دول، كيفما كان الغرض، ومع اختلاف حجم الاضطرار، ومهما كان المقابل، مما قل منه أو كثر، نصيبا مفروضا، نسأل الله العفو والعافية. غادرت البائعة، فحركت قلمي بين الأوراق لمحاولة كتابة بعض الأسطر حول نجاح الأممالمتحدة في حفظ السلم والأمن الدوليين، فوقفت سيدة أخرى جار عليها الزمن، مرفوقة بطفل صغير يحمل علبة كُتبَ عليها "ساعدونا"، بخط رديء يحكي قصص معاناة العائلة، مرتديا لقميص المنتخب الوطني لكرة القدم، وابنة مراهقة تذوب خجلا، تتمنى لو ابتلعتها شقوق الرصيف عوضَ وقفتها تلك. وقفوا بباب المقهى بعيون بللتها دموع الحاجة، وقلوب منكسرة خاشعة، وأجساد نحيفة ليس لها طعام إلا من ضريع، ونظرات ترتجي بعض الدريهمات، يظهر من رعشة أيديهم، أن لم تخرجهم سوى الحاجة، كما لم نعتدهم بين المتسولين الذين يرابطون بين طاولات المقاهي، ممّن نسأل عن بعضهم إذا غاب عنا.. فدخل الطفل - باعتباره الرجل الذي يتحدث باسم العائلة في هذا الموقف- وهو يردد "عاونونا عافاكوم"، ... ليخرج من المقهى وهو يلعب بعلبته، ويطبل فوقها على نغمات عزفتها قساوة الزمن، ورقصت على أهازيجها براءة الأطفال وحسرة أمه، وخجله أخته، ونظرات الجالسين ممن تعاطفوا معهم ولا يضيع أجر من أحسن عملا، ومن استهزؤوا فبأسهم بينهم شديد، ومن خلقهم قادر على رزقهم. منظر رهيب شلت على إثره أصابعي، وغرغرت عيناي، وتوقف الدماغ عن التفكير الدولي، ليعيدني إلى الوطن.. إلى الحي.. إلى طاولة تشهد على قتل البراءة، فعن أي قضايا دولية أتحدث، وأي سلم وأمن دوليين، لأستحضر مشاهد إبادة أطفال سوريا، ودماء شباب ليبيا، وتشريد أطفال العراق، وفلسطين وبورما و اللائحة تطول في بلدان يزمجر فيها الرصاص ليل نهار... وفي قولة نسبت لسيدنا علي كرم الله وجهه: "لو كان الفقر رجلا لقتلته". فمن القوم من يستغل تعاطف الناس وكرم المغاربة لتخزين أموال طائلة، بيد أن هناك حالات اجتماعية تحتاج لعطف ورعاية المجتمع، بين من خرج طوعا وكرها، يطالب بحقه في جيوب إخوانه، فلا يكرمه إلا كريم، ومن مكث بين جدران منزله إن كانت له جدران، ولزم حجرته بين ترقب ورجاء، ومن يصارع الزمن لإيجاد ثمن خروف يدخل به الفرحة على ذويه، وقد يكون صيدا رخيصا لتجار الانتخابات، خصوصا مع اقتراب موعد الدخول المدرسي، وهو زيت حارق يسكب فوق نار الحاجة، تكتوي بيه جيوب المغلوب على أمره. تزاوروا وتراحموا .. ارحموا من في الأرض، ومن لم يؤمن بتعاليم من في السماء إله و في الأرض إله، فليضغط على زر الإنسانية، ليشغل محرك التكافل الاجتماعي، ويستحضر غدر الزمان، فهو أكثر دورانا من عجلة السيارة، ومن كوكب الأرض الذي نعيش فوق قشراته، والخلق جميعا في يده، فذوو سعة وذوو حرج.