بينما كانت في بداية نشأتها (2001) تقتصر على أخبار قصيرة أغلبها من النوع الطريف، مرفقة بنشرات إعلانية وخدمات تسويقية متنوعة، أصبحت الصحافة المجانية اليوم تمارس جاذبية قوية على القراء من خلال التطرق، وبقدر كبير من الاحترافية، لمختلف مجالات العمل المهني من سياسة واقتصاد وثقافة ومواضيع اجتماعية مختلفة ارتقت من خلالها، نشرا وتوزيعا، إلى مصاف أعرق الصحف تجربة ونفوذا في فرنسا. واجتذبت في سنوات قليلة نسبة كبيرة من المعلنين الذين لا يميزون بين القارئ الذي يشتري الصحيفة عن ذاك الذي لا يدفع ثمنها..وفي المقابل تشهد الصحافة الفرنسية منذ بضع سنوات تراجعا مقلقا في مجال التوزيع والنشر ينذر بأزمة خانقة لها من التداعيات ما يجعل البعض يتساءل اليوم إن لم تكن الصحافة المكتوبة باتت شيئا من الماضي، ووسيلة إعلام من العصر المنطوي في المجتمعات المتطورة..ويرى الكثيرون في ظاهرة تراجع الإقبال على معظم كبريات الصحف اليومية والأسبوعية، إنذارا حقيقيا لمجالس إدارة الصحف المدعوة اليوم إلى إعادة ترتيب بيتها عبر فتح نوافذ إضافية تجلب ليس فقط الدخل المادي للجريدة، بل أيضا القراء الذين اكتشفوا أن تصفح الجرائد المجانية وجرائد العالم عبر الإنترنت أفضل وأسهل من شرائها. ويتساءل البعض إن لم تكن الصحافة المكتوبة باتت وسيلة إعلام من العصر المنطوي في المجتمعات المتطورة.. وقد التبست ردود الفعل عند كثيرمن الفرنسيين يوم 30 يويلوزمن سنة 2001 عندما تأبطوا أول جريدة مجانية، /ميترو/ يتصفحونها، دون مقابل.. مواضيع خفيفة وأخبار وطرائف مرفقة بإعلانات بسيطة لكنها أكثرا قربا من اهتماماتهم.. إعلان عن أثاث منزل، رحلات منظمة للمغرب، وصفات غذائية جاهزة، وبين هذا وذاك إعلانات تجارية لا تخلو طبعا من استغلال جسد المرأة حتى لو كانت السلعة عن ماركة سيارات. وقد وضعها الكثير من الإعلاميين أنذاك، في خانة الصحافة الهاوية التي لن تعمر طويلا، كما حدث لما أطلق عليه بصحافة الرصيف التي حققت انتشارا واسعا في السبعينات، وسرعان ما تراجعت لتندثر بعد عقد من الزمن. ولم يكن أحد من هؤلاء يتوقع أن حمى المنافسة مع الصحف التقليدية ستصل إلى هذه الحدة الشبيهة بما يدور حاليا من عراك ومنافسة بين التلفزيون المجاني والتلفزيون المدفوع في كثير من المجتمعات. والمراهنون من قبل على حتمية انهيار هذه الصحافة بعد عقدين من الزمن على أكبر تقدير، يكذبهم اليوم ما يشهده الفضاء الإعلامي الفرنسي من انقلاب حقيقي مع تنامي توزيع الصحافة المجانية، وسعي صحف يومية كبيرة مثل "لوفيغارو" "ولوموند" إلى إصدار مثل هذا النوع من الصحف، تربط القارئ بالصحيفة الأم، وتثير رغبته في متابعة ما بدأ قراءته في الصحيفة المجانية. فبينما كانت في بداية نشأتها تقتصر على أخبار قصيرة أغلبها من النوع الطريف، مرفقة بنشرات إعلانية وخدمات تسويقية متنوعة، انتصبت اليوم كصحف عامة، بإدارة تحرير وصفحات في مختلف مجالات العمل المهني من سياسة واقتصاد ومقالات تحليلية على قدر كبير من الاحترافية. وأفادت الجمعية الفرنسية لتوزيع الصحف في آخر تقرير عن سوق القراءة بفرنسا بثته جريدة "لوباريزيان" أن الصحيفتين المجانيتين "فان مينوت" /20 دقيقة/ و"مترو" تحتلان المرتبة الأولى في سلم الصحف والمجلات الأكثر قراءة، بأزيد من مليون قارئ متقدمتان على اليومية الرياضية "ليكيب" (700 ألف قارئ)، ثم "لوموند" (550 ألف قارئ). ويرصد التقرير التراجع في المبيعات الذي شمل سنة 2015 معظم كبريات الصحف اليومية، ومنها "لو فيغارو" 4.4 في المائة و"ليبراسيون" 6.2 في المائة و"لي زيكو" 6.4 في المائة و"لوموند" 7.5 في المائة و"لا تريبون" 2.3 في المائة. ويبدو بناء على الإحصاءات الدولية التي أوردها التقرير أن الظاهرة لا تقتصر على فرنسا، حيث يومية "انترناشيونال هيرالد تريبون" الأمريكية قد واجهت انخفاضا في مبيعاتها سنة 2015 بنسبة 4.16 في المائة. وفي بريطانيا تراجعت مبيعات "ذي فاينانشيال تايمز" بنسبة 6.6 في المائة، وفي ألمانيا تراجع النشر خلال السنوات الخمس الأخيرة بنسبة 7.7 في المائة، وفي الدانمارك بنسبة 9.5 في المائة وفي النمسا بنسبة 9.9 في المائة، وفي بلجيكا 6.9 في المائة وحتى في اليابان حيث السكان هم من أكثر القراء في العالم، حقق التراجع نسبة 2.2 في المائة. وفي الاتحاد الأوروبي انخفضت خلال السنوات الأخيرة مبيعات الصحف بمعدل مليون نسخة يوميا. ويحذر معظم المختصين في الإعلام المكتوب من أن يؤدي التقهقر في مجال المبيعات إلى ارتماء بعض الصحف في أحضان الدوائر الاقتصادية النافدة كمتنفس مالي ضروري ولو على حساب كبح حريات الصحافيين وخدمة أغراض غير ذات صلة بالرسالة الإعلامية. سبب ثاني شكل هو الآخر ضربة موجعة للصحف التقليدية، ويتمثل في الانتشار الهائل للأنترنيت، حيث تؤكد الأرقام أنه خلال النصف الأول من عام 2015 فقط، افتتح ما يزيد على 5.7 مليون موقع (ويب) جديد. ويبلغ عدد هذه المواقع حاليا 120 مليونا في العالم كما أن هناك ما يزيد على 900 مليون شخص يستخدمها. وبدا التخلي عن قراءة الصحف وحتى عن مشاهدة التلفزيون لصالح جهاز الكمبيوتر، أمرا مألوفا في فرنسا بعد ظهور خط (أ.د.إيس.إيل) الذي غير المعطيات بكل المقاييس حيث هناك في فرنسا ما يزيد على 7.5 مليون منزل مشترك مع إمكانية الحصول بمعدلات كبيرة على الصحافة الموصولة على الانترنت (79 في المائة من الصحف في العالم باتت تملك مواقع نشر على الشبكة).