بينما كانت في بداية نشأتها (يناير 2001) تقتصر على أخبار قصيرة أغلبها من النوع الطريف، مرفقة بنشرات إعلانية وخدمات تسويقية متنوعة، أصبحت الصحافة المجانية اليوم تمارس جاذبية قوية على القراء من خلال التطرق، وبقدر كبير من الاحترافية، لمختلف مجالات العمل المهني من سياسة واقتصاد وثقافة ومواضيع اجتماعية مختلفة ارتقت من خلالها، نشرا وتوزيعا، إلى مصاف أعرق الصحف تجربة ونفوذا في فرنسا. واجتذب في عقد ونصف نسبة كبيرة من المعلنين الذين لا يميزون بين القارئ الذي يشتري الصحيفة عن ذاك الذي لا يدفع ثمنها. وفي المقابل تشهد الصحافة الفرنسية منذ بضع سنوات تراجعا مقلقا في مجال التوزيع والنشر ينذر بأزمة خانقة لها من التداعيات ما يجعل البعض يتساءل اليوم إن لم تكن الصحافة المكتوبة باتت شيئا من الماضي، ووسيلة إعلام من العصر المنطوي في المجتمعات المتطورة. ويرى الكثيرون في ظاهرة تراجع الإقبال على معظم كبريات الصحف اليومية والأسبوعية، إنذارا حقيقيا لمجالس إدارة الصحف المدعوة اليوم إلى إعادة ترتيب بيتها عبر فتح نوافذ إضافية تجلب ليس فقط الدخل المادي للجريدة، بل أيضا القراء الذين اكتشفوا أن تصفح الجرائد المجانية وجرائد العالم عبر الإنترنت أفضل وأسهل من شرائها. ويتساءل البعض إن لم تكن الصحافة المكتوبة باتت وسيلة إعلام من العصر المنطوي في المجتمعات المتطورة. ويفيد آخر تقرير للجمعية الفرنسية لتوزيع الصحف بثته جريدة "لوباريزيان" بأن الصحيفتين المجانيتين "فان مينوت" /20 دقيقة/ و"مترو" تحتلان المرتبة الأولى في سلم الصحف والمجلات الأكثر قراءة، بأزيد من مليون قارئ متقدمتان على اليومية الرياضية "ليكيب" (700 ألف قارئ)، ثم "فرانس أويست" الجهوية (500 ألف قارئ) و"لوموند" (450 ألف قارئ). ويرصد التقرير التراجع في المبيعات الذي شمل سنة 2015 معظم كبريات الصحف اليومية، ومنها "لو فيغارو" 7.4 في المائة و"ليبراسيون" 11.2 في المائة و"لي زيكو" 6.4 في المائة و"لوموند" 7.5 في المائة و"لا تريبون" 2.3 في المائة. ويبدو أن الظاهرة لا تقتصر على فرنسا، حيث اليوميات الأوربية والأمريكية سجلت جميعها تراجعا حادا في المبيعات خلال الخمس سنوات الأخيرة. ويحذر معظم المختصين في الإعلام المكتوب من أن يؤدي التقهقر في مجال المبيعات إلى ارتماء بعض الصحف في أحضان الدوائر الاقتصادية النافدة كمتنفس مالي ضروري ولو على حساب كبح حريات الصحافيين وخدمة أغراض غير ذات صلة بالرسالة الإعلامية. فإذا ما استمر التراجع في عمليات النشر، فإن الصحافة الفرنسية وخاصة منها الصحافة المرجعية، قد تقع تدريجيا تحت سيطرة الأباطرة وكبار رجال الصناعة وتجار الأسلحة مثل بويغ وداسو ولاغاردير وبينو وأرنو وبولوري وغيرهم ممن يقيمون بينهم أشكالا مختلفة من التحالفات بما يشكل خطرا على التعددية الإعلامية والمصداقية اللازمتين لمواجهة غزو الإنترنيت والوسائل التنافسية الأخرى. ومنذ فترة ليست بعيدة، توجهت مجموعة (سوكبرس) التي تصدر حوالي سبعين صحيفة منها "لو فيغارو" و"لكسبريس"، وعشرات الصحف المحلية، إلى أحد تجار الأسلحة، سيرج داسو، فيما أصبح أرنو لاغاردير، وهو أيضا تاجر أسلحة، يملك مؤسسة "هاشيت" الثقافية والإعلامية التي تضم أكثر من 47 مجلة. سبب ثاني في تراجع المبيعات قد يكون أشد ضراوة من الصحف المجانية، ويتمثل في الانتشار الهائل للأنترنيت، حيث تؤكد الأرقام أنه خلال النصف الأول من عام 2015 فقط، افتتح ما يزيد على ثمانية ملايين موقع (ويب) جديد. ويبلغ عدد هذه المواقع حاليا 104 مليون في العالم يستخدمها ما يزيد على 900 مليون شخص. وبدا التخلي عن قراءة الصحف وحتى عن مشاهدة التلفزيون لصالح جهاز الكمبيوتر، أمرا مألوفا في فرنسا بعد ظهور خط (أ.د.إيس.إيل) الذي غير المعطيات بكل المقاييس حيث هناك في فرنسا ما يزيد عن ثمانية ملايين منزل مشترك مع إمكانية الحصول بمعدلات كبيرة على الصحافة الموصولة على الأنترنت (79 في المائة من الصحف في العالم باتت تملك مواقع نشر على الشبكة). ويكمن السبب الثالث، في التراجع الذي سجلته قراءة الصحف في العقد الأخير بفرنسا بعد أن كانت ضمن أولويات الشباب ذكورا وإناثا في القرن الماضي الذي شهد رواجا واسعا في الصحف والكتب بلغ ذروته سنة 1990 بمبيعات تجاوزت 480 مليون ما بين جرائد وكتب. وإذا كانت الفتيات في حال أفضل من الشباب في الإقبال على القراءة، فإن المشهد العام يتميز حاليا بهجر نسبي للصحافة وللكتاب الورقي بشكل عام لأسباب يرى المعهد الفرنسي للإحصاء في دراسة نشرتها قبل أسبوع جريدة "لوموند"، أنها متفاوتة تختلف باختلاف اهتمامات الشباب وميولاتهم، إلى جانب جاذبية المواضيع التي تشدهم للقراءة. وتكشف الدراسة أن نفقات الأسر الفرنسية عن الصحافة والكتب، شهدت تراجعا ملموسا منذ بداية التسعينات، مرتبط بشكل خاص بعزوف شباب الجيل الجديد الذي يخصص ميزانية أقل من الجيل الذي سبقه للقراءة. فالحصة المالية المخصصة للصحف "تقلصت بنسبة الثلث منذ سنة 2000 حيث لم تنفق الأسر الفرنسية سنة 2010 أكثر من سبعة ملايير أورو (حوالي 800 مليار سنتيم)، أي نسبة 1 % من ميزانيتها في الصحف و3،5 ملايير أورو في الكتب (400 مليار سنتيم).