قدمت مديرة "لوموند"، ناتالي نوغيريد، أول أمس استقالتها من الجريدة العريقة التي تواجه اليوم على غرار الصحافة الفرنسية المكتوبة أزمة حقيقية بسبب انخفاض المبيعات وعائدات الإعلان. وقالت نوغيريد التي تواجه معارضة شديدة في هيئة التحرير منذ توليها المنصب قبل عام، إنها "لم تعد تملك وسائل العمل بهدوء". وينذر التراجع المقلق الذي تشهده الصحافة الفرنسية منذ بضع سنوات في مجال التوزيع والنشر، وفي مقدمتها الصحف العريقة مثل "لوموند" و"لوفيغارو" و"ليبراسيون" وغيرها، بأزمة خانقة لها من الانعكاسات ما يجعل البعض يتساءل اليوم إن لم تكن الصحافة الورقية باتت شيئا من الماضي في عصر طغى عليه الإنترنيت والصحافة المجانية. ويرى الكثيرون في ظاهرة تراجع الإقبال على كبريات الصحف اليومية والأسبوعية، إنذارا حقيقيا لمعظم مجالس إدارة الصحف المدعوة اليوم إلى إعادة ترتيب بيتها عبر فتح نوافذ إضافية تجلب ليس فقط الدخل المادي للجريدة، بل أيضا القراء الذين اكتشفوا أن تصفح جرائد العالم عبر الإنترنت أفضل وأسهل من شرائها. ويحذر معظم الإعلاميين من أن تشهد عدة صحف وعلى رأسها "لوموند"، في غضون السنتين القادمتين نهاية حزينة على غرار صحيفة "فرانس سوار" التي توقفت بشكل نهائي بعد 67 عاما من العطاء والتفوق نشرا وتوزيعا على المستويين الفرنسي والأوربي، حيث كانت في أيام عزها في خمسينات القرن الماضي، تبيع أزيد من 1.5 مليون نسخة يوميا قبل أن تتراجع إلى 50 ألف نسخة لتموت ببطء جليدي قبل سنتين. وتخشى الدوائر الحكومية من أن يؤدي التقهقر الذي تشهده مبيعات الصحف بمختلف أنواعها، إلى ارتماءة الإعلام المكتوب في أحضان الدوائر الاقتصادية النافدة. ولذلك قررت الحكومة قبل سنة ونصف ضخ 500 مليون أورو (نحو 530 مليار سنتيم) في شرايين الصحافة الورقية كدعم إضافي يجنبها الإفلاس ويروم المحافظة على المصداقية والتعددية الإعلامية. ويضاف هذا الدعم إلى الغلاف السنوي المحدد في مبلغ 1.5 مليار أورو. والتخوف من أن تبتعد الصحافة عن رسالتها جاء على لسان الرئيس فرانسوا هولاند الذي يرى في الدعم المادي للصحافة، ضرورة حيوية لضمان التعددية الإعلامية وصون الديمقراطية. "لا يمكن للديمقراطية أن تؤدي وظيفتها بصحافة تقف بشكل دائم على شفا هاوية اقتصادية، ولا يمكن للصحافة أن تقوم بوظيفتها الإعلامية إذا لم تكن في وضع مادي مريح يجنبها الاستنجاد ببعض الدوائر للتنفيس ماليا عن أزمتها"، يقول هولاند، محذرا من جهة أخرى من سلطة الصحافة المجانية وثقل تداعياتها على المشهد الإعلامي الفرنسي برمته. وتعيش صحيفة "لوموند" التي قامت مؤخرا بتسريح 56 من موظفيها بعد خسائر بلغت منذ مطلع السنة إلى اليوم ما يزيد عن 25 مليون أورو، نقطة تحول حاسمة في مسارها الإعلامي بعد أن أدت الخسائر المتراكمة التي تكبدتها إلى الاستنجاد بشريك جديد سيحصل وحده أو مع شركاء آخرين على حصة الأغلبية في واحدة من أعرق المجموعات الإعلامية بفرنسا. ولم يخف الرئيس فرانسوا هولاند قلقه من هذا التحول الذي قد يرمي بالجريدة في أحضان بعض الدوائر النافذة اقتصاديا وسياسيا، ويؤثر بالتالي على خطوطها التحريرية. وقد أبدى رغبة حثيثة في معرفة هوية وطبيعة الشركاء الجدد، وهو ما ردت عليه مديرة الجريدة بقولها "لا نرى مانعا من أن يكون لرئيس الدولة انشغال كبير بشأن الخط التحريري للجريدة، لأن مثل هذا الانشغال شكل القاعدة الأساسية منذ تأسيس "لوموند" سنة 1944، غير أنه لا يجوز وتحت أية ذريعة كانت، التدخل في الخطوط التحريرية العامة للجريدة أو المس باستقلاليتها الفكرية والسياسية"، تقول المديرة التي اعترفت أنها تلقت مكالمات هاتفية عديدة من الرئيس هولاند قبل أن يستقبلها بقصر الإليزيه ويثير معها الموضوع طويلا. وتترقب "لوموند" منذ أسابيع ظهور مستثمر أو مستثمرين خارجيين ينقذونها من الإفلاس بعد أن رفضت مؤسسة "لاغردير" التي تملك 17% من مجموعة "لوموند" الزيادة في حصتها. وتتراوح المبالغ المعروضة ما بين 90 إلى 130 مليون أورو (حوالي 100 إلى 140 مليار سنتيم). ومن بين المشترين المحتملين، ناشر "لونوفيل أوبسيرفاتور" الأسبوعية ذات التوجه اليساري، كلود بيردرييل، ومجموعة ثلاثية من المستثمرين تتكون من بيير بيرجي الشريك السابق لمصمم الأزياء الفرنسي، إيف سان لوران، ورجل الأعمال كاتيو بيغاس، ورئيس مجموعة "فري" للمواصلات، كزافيي نييل، بالإضافة إلى مجموعة "بريزا" الإسبانية للإعلام، مالكة جريدة "إيل بايس". وتنظر مجموعة "رينجي" السويسرية للإعلام هي الأخرى في العرض. ويرفض الإليزيه في خضم الأزمة التي تعيشها الصحيفة، أن يكون للمالكين الجدد سعي للتأثير بشكل أو بآخر على الخطوط التحريرية للجريدة التي لها من القيمة الرمزية والنفوذ الإعلامي ما يجعل التدخل في خطوطها التحريرية أمرا غير مقبول بالمرة من طرف صناع القرار بفرنسا، وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية. ويصعب جدا على السلطات السياسية أن تلتزم الحياد السلبي فيما سيحدث لجريدة بمثل وزن وقوة "لوموند".. فهناك "مدرسة الوسط" في الصحافة العالمية بأسرها. والمعنى المهني لكلمة "وسط" بالنسبة لجريدة "لوموند" هو دفاعها عن القيم الأساسية للمجتمع. فهي "تنتفض" حينما تشعر بأن هذه القيم مثل الديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان مهددة.. وترفض هذه المدرسة أيضا الإثارة والشعبوية في عرض الأخبار، وتتجنب ردود الأفعال العاطفية في قراءة الحدث مع الحرص على معالجته بطريقة هادئة في ضوء فهم دقيق لسياقه العام.