الصحافة هي ملحمة العالم الحر، فحيث توجد ديمقراطية عظيمة، توجد، بالضرورة، صحافة عظيمة، وحيث توجد صحافة عظيمة، توجد، أيضا، تقاليد راسخة في ثقافة القراءة، فالقراء الجيدون يصنعون الصحيفة الجيدة، كما تقول القاعدة الذهبية في مجال الصحافة... من هنا نفهم معنى أن تحتكر صحافة الدول الديمقراطية كل الأرقام القياسية، فنجد صحيفة مثل «نيويورك تايمز»، الأمريكية، عمرها قرن ونصف، و«ديلي ميرور»، البريطانية، توزع مليون نسخة في اليوم... فالعالم الحر سمح للصحافة ولوسائل الإعلام، عموما، بالانتقال من كونها إحدى وسائل إخبار الرأي العام إلى الوسيلة الرئيسية لصناعة الرأي العام، ليتم تتويجها «صاحبة للجلالة» على كل أنواع السلط أو «سلطة السلط»... رغم كونها الصحيفة الفرنسية الأكثر شهرة في العالم، حيث توجد في أكثر من 120 بلدا، ورغم اعتبارها مدرسة صحفية عريقة ومرموقة، فإن «لوموند» ليست الصحيفة الأكثر مبيعا في فرنسا، فهي تحل بعد كل من «لوفيغارو»، «ليكيب»، و«ويست فرانس» ب400 ألف نسخة يوميا. وخلافا لغيرها من الصحف العالمية مثل «نيويورك تايمز»، «ديلي تلغراف» و«واشنطن بوسط»، فإن «لوموند» لا تعد صحيفة تحقيقات وفضائح سياسية بالدرجة الأولى، فهي تركز، بدلا من ذلك، على التحليلات والتعاليق والآراء. فالصحيفة تولي أهمية كبرى لتقديم التفسيرات لقرائها وشرح الأحداث وخباياها وخلفياتها أكثر من سعيها وراء الأخبار والفضائح. صدر أول عدد من «لوموند» في الثامن عشر من دجنبر 1944، وكانت الصحيفة آنذاك تصدر في صفحة واحدة فقط. كان الجنرال شارل ديغول يريد جريدة كبرى ذات صيت عالمي لتكون صوت فرنسا في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية وتحل محل جريدة «الوقت» التي تم إغلاقها من طرف سلطات الاحتلال الألماني. وبذلك قام هربرت بوف ميري بتأسيس شركة ذات مسؤولية محدودة برأسمال قدره 200 ألف فرنك فرنسي موزع على 200 سهم. لجريدة «لوموند» سمعة جيدة وصورة حسنة خارج فرنسا، كأكبر وأعرق الجرائد العالمية وأكثرها جدية وسعيا وراء الحياد والمهنية. وكان خط تحرير الجريدة فيما مضى يوصف بكونه ذا اتجاه «يساري وسطي»، لكنه يوصف اليوم بكونه «معتدلا». لكن في 1981 خرجت الصحيفة عن حيادها، وساندت «فرانسوا ميتران» في حملته الانتخابية الرئاسية، معللة ذلك بكونها ترى في التناوب بين اليسار واليمين على الإليزيه «خيرا وصلاحا لفرنسا». لكن جريدة «لوموند» تعرضت لعدة انتقادات، اتهمتها بالتحيز وابتعادها عن المهنية في تغطيتها لبعض المواضيع، وفي هذا الصدد، قال رئيس تحرير الجريدة السابق، إدوي بلينيل، في حوار صحفي: «من الطبيعي أن يتم انتقاد «لوموند»، ويجب أن نعتبر الأمر مجاملة». كما عانت الجريدة، في دجنبر الماضي، من أزمة حقيقية بسبب صعوبات مالية متزايدة وفراغ إداري بعد استقالة جماعية لمجلس إدارتها. وكان رئيس مجلس الإدارة بيير جانتيه ونائبه برونو باتينو ومدير الصحيفة إيريك فورتورينو قدموا استقالاتهم في الثامن عشر من ديسمبر الماضي، إثر خلاف مع شركة المحررين، التي رفضت المصادقة على حسابات العام الفائت وإقرار موازنة العام الجاري الخاصة بفرع الصحيفة الإلكتروني وكذلك الإستراتيجية الخاصة باستقلاله. وينتظر أن تسهم الأزمة المالية في تدهور توزيع الصحيفة الفرنسية الأكثر شهرة في الخارج، خاصة أنها فقدت نسبة من قرائها منذ العام 2003. ويضاف إلى كل هذا انتقاد صحافيين سابقين فيها، عبر كتاب تحت عنوان «وجه «لوموند» الخفي»، أجر كل من كولومباني وألان مانك، مستنكرين أن يتقاضى رئيس التحرير 26 ألف يورو كمرتب شهري في مطبوعة تعاني الخسائر، ومنددين بالتوجه التحريري، الذي أريد له أن يكون مطاطيا حتى يستجيب لمصالح اقتصادية نفعية. وكان نيكولا ساركوزي قد دعا في خطاب له إلى «منح مزيد من الحرية لرجال الأعمال لكي يطوروا صحيفة تعاني مشاكل مالية كبيرة اليوم»، دون أن يذكر «لوموند» بالاسم. وهناك سيناريوهان ممكنان لمستقبل «لوموند»، فإما أن تخرج الصحيفة من أزمتها المالية وتستعيد مجدها وثقة جمهورها المحلي والعالمي، وإما أن تستمر في الغرق وسط وحل الانتقادات بعدم الاستقلالية والضائقة المالية، والذي سيؤدي لا محالة إلى موت أشهر وأعرق جريدة فرنسية وإسكات صوتها إلى الأبد. لكن رغم كل هذه الاختلالات تبقى صحيفة «لوموند» مدرسة حقيقية، خصوصا على المستوى الفني والتقني. فهي تجسد تحول صحيفة جادة من طباعة برودشيت إلى مقاس أصغر حجما، لكنه أكبر من مقاس التابلويد، وهو الشكل المميز لصحف الإثارة. والكومباكت يسمى أيضا في الأدبيات الصحافية بيرلاينر Berliner، وهو المقاس الوسطي بين التابلويد وبين البرودشيت، ويسمى أحيانا midi، التي تعني الشكل الوسطي في حجم الصحيفة. ويصل طول هذا المقياس إلى 47 سم، فيما يبلغ عرضه 31.5 سم، أي أنه أطول من صحف التابلويد، ولكنها ليست أعرض منها إلا بأقل من سنتيمتر تقريبا. وتتولى مطبعة «لوموند» أيضا طباعة نشرة «ليزيكو» (الأصداء) الاقتصادية وصحيفة «ديركت ماتان» المجانية، إضافة إلى أسبوعية «جورنال دو ديمانش».