ارتبك الإعلام العربي والدولي، حين كشفت وزارة الداخلية السعودية أخيراً عن شخصية منفذ العملية الإرهابية التي وقعت قرب الحرم النبوي الشريف في المدينةالمنورة. وقد كانت كل وسائل الإعلام نشرت صوراً للمدعو عمر العتيبي، المطلوب للأمن وعضو تنظيم داعش، زاعمة أنه هو من نفذ عملية التفجير. غير أن الإرهابي الذي تم الإعلان عن اسمه أخيراً لم يكن سوى نائر مسلم حماد النجيدي البلوي. قد يجد بعض مناصري الفكر المتطرف ذريعة لأولئك الانتحاريين الذين باعوا أنفسهم لدعاة ظلاميين وقرّروا ارتكاب أفعال إجرامية إرهابية في أماكن سياحية أو معالم أثرية أو مهاجمة أحد ملاعب كرة القدم أو مقهى هنا أو هناك، بحجة محاربة الفسق أو الكفر. والأمر نفسه ربما في حال مهاجمتهم مدرسة أو جامعة أو حتى مستشفى. من هو العدو كل هذا قد يجد له أولئك المناصرون المتشددون ذرائع لن يعدموا وسيلة في ابتكارها، وتوثيقها، حسب مزاجهم، إن لزم الأمر. إلا أنه من الصعب تفسير أن يعمد شاب "مسلم" إلى القيام باعتداء على واحد من أكثر الأماكن قدسية لدى المسلمين في عموم أنحاء العالم، وفي العشر الأواخر من شهر رمضان بالتحديد، وهي الأيام التي يقصد فيها عشرات الآلاف من مختلف بقاع الأرض الديار المقدسة لأداء العمرة، ومجاورة قبر الرسول الكريم، والتقرب إلى الله بعيداً عن المشهد المأساوي الذي تمر به العديد من البلدان الإسلامية وانتشار حمى التطرف والإسلاموفوبيا. لا يمكن تفسير أن يتقصد نائر البلوي الشاب ابن الستة والعشرين عاماً والموقوف سابقاً بتهمة تعاطي المخدرات، التسلل بين جموع المصلين وقت الإفطار، ليحوّل نفسه إلى قنبلة تودي بحياة أربعة من رجال الأمن الذين حاولوا منعه من التقدم بعد أن اشتبهوا بأمره. لكن الهدف بكل تأكيد لم يكن قتل رجال الشرطة بل كان الذهاب بعيداً داخل المسجد المكتظ بالآلاف من المصلين حول قبر الرسول في الحرم النبوي، أحد أكبر المساجد في العالم وثاني أقدس موقع في الإسلام بعد المسجد الحرام في مكةالمكرمة، وهو المسجد الذي بناه النبي محمد (ص) في المدينةالمنورة بعد هجرته سنة 1 هجرية الموافق 622 ميلادية بجانب بيته بعد بناء مسجد قباء. فالغاية التي أوجد من أجلها تنظيم داعش، تبرر الوسيلة، أيّا تكن تلك الوسيلة، إذ أن تنظيم داعش ومنذ أن أعلن نفسه دولة خلافة نصّب نفسه باعتباره آخر المدافعين عن الإسلام وهو يسعى للقضاء على أيّ شيء يعتبره عدوًا للإسلام من وجهة نظره بل حتى أيّ مسلم يرى أنه قريب من الغرب. ولذلك فقد عمد التنظيم في مختلف المناطق التي وصل إليها إلى هدم الأماكن المقدسة كالمساجد والكنائس ومقامات عدد من الأولياء الصالحين. فهدم داعش في كل من سوريا والعراق وليبيا بعض تلك الأماكن المقدسة، وقد أعمل الحرائق في كل مكان يعتبره مخالفاً لنظرته المتطرفة للإسلام، والتي تستند في معظمها إلى أحاديث ضعيفة السند، أو تفسيرات غير معمول بها، كما أجمع على ذلك فقهاء وعلماء دين. بيعة جهيمان والبغدادي قالت تقارير متطابقة استناداً إلى تغريدات وبيانات لعناصر تابعين للتنظيم، إن داعش قد يستهدف مدينة مكةالمكرمة بما في ذلك الكعبة المشرفة قبلة المسلمين والحجر الأسود. وحسب واحدة من تلك التغريدات فإن الخليفة المزعوم أبا بكر البغدادي، سيقود هدم حجر مكة، "لأن المسلمين لا ينبغي أن يعبدوا حجراً". وفي تغريدة أخرى ورد أن "المسلمين يذهبون إلى مكة للمس الحجارة وليس في سبيل الله". لكن كيف يجرؤ تنظيم داعش حقاً على تدنيس الأماكن المقدسة واستباحتها ونشر الموت والخوف في جنباتها بتلك السهولة، وهو الذي يدّعي حرصه على الإسلام؟ لداعش أجداد سبقوه، هكذا تقول الرواية التي وقعت في المكان الأكثر قداسة بالنسبة إلى المسلمين في الحرم المكي تحديداً، في ال20 من شهر نوفمبر من العام 1979 حين فاجأ جهيمان العتيبي المصلين في المسجد الحرام بمكة، وهم في لحظة السجود في صلاة فجر اليوم الأول من المئة الأولى للقرن الخامس عشر الهجري فاقتحم ورجاله ساحة الحرم حول الكعبة، وأغلقوا الأبواب المؤدية إلى الخارج، مدججين بالسلاح، وكانوا قد دخلوا إلى المسجد مدّعين بأنهم يشيّعون جنازة وأنهم ينوون الصلاة على التوابيت التي يحملونها، ولم تكن تلك التوابيت تحوي جثثاً لموتى يصلّى عليهم بل كانت محملة بالسلاح. كان جهيمان أحد مؤسسي "الجماعة السلفية المحتسبة" عام 1965 والتي كان معظم أعضائها طلاباً في الجامعة الإسلامية وتلاميذ في المعاهد العلمية، لكن الجماعة بدأت تنمو كخلايا سرطانية، وصار لها بيوت في مدن سعودية مختلفة. الرجل الثاني في تنظيم داعش أبو محمد العدناني وفي خطبة بعنوان "ويحيى من حيّ عن بينة" يتوعد السعودية، معتبرا أنها أول المهزومين. تأثرت تلك الجماعة بفكر سيد قطب والألباني وفكرة الحاكمية، وبات أفرادها يلفتون النظر في مجادلاتهم، وبدأت الجماعة بتطبيق إجراءاتها على المجتمع السعودي، وأخذت تظهر عداءها لنظام الحكم وتحرّض الناس ضده. وقف جهيمان العتيبي أمام المصلّين في المسجد الحرام ليعلن للناس نبأ المهدي المنتظر وفراره من "أعداء الله" واعتصامه في المسجد الحرام. قدّم جهيمان صهره محمد بن عبدالله القحطاني على أنه المهدي المنتظر، ومجدد هذا الدين، وقام جهيمان وأتباعه المسلحون بمبايعة "مهديّه المنتظر". وطلب من جموع المصلين مبايعته، تماماً كما أعلن تنظيم داعش تنصيب "إبراهيم عواد البدري" الذي سيعرف لاحقاً باسم أبي بكر البغدادي خليفة عليهم، وطالبوا الجميع بمبايعته. بدأ أتباع جهيمان بالتكبير، ثم قاموا بإغلاق الأبواب وسَدِّ منافذ الحرم والتحصّن داخله، وأخذوا المصلين الذين كانوا يؤدون صلاة الفجر كرهائن. كان جهيمان يعتقد أنه إذا اقتحم المسجد الحرام فجر اليوم الأول من القرن الهجري الجديد فإنه سيكون الرجل الذي سينقذ الدين على رأس كل مئة سنة، استناداً إلى الحديث الشريف "عن أبي هريرة رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: إِنَّ اللَهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِئَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا". وكانت الخطة التي رسمها تقضي بأن "يُبايع الرجل بين الركن والمقام ويعتصم هذا الرجل في الحرم ثم يأتي جيش من تبوك ويخسف بهذا الجيش ثم يخرج هذا الرجل من الحرم ويذهب إلى المدينة ويحارب المسيح الدجال ثم يخرج من المدينة ويذهب إلى فلسطين ويحارب هناك اليهود ويقتلهم ثم يأتي عيسى بن مريم فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويذهبون إلى الشام فيصلّون في مسجد بني أمية وبعد ذلك تقوم القيامة الكبرى". لكنّ أيّا من تلك التفاصيل لم تحدث، وظل جهيمان و"مهديّه المنتظر" وأتباعهما يحتلون الحرم المكي قرابة أسبوعين، وقد أحجمت السلطات السعودية وقتها عن مهاجمة الحرم خشية على حياة الرهائن، كما أنها لم تستخدم الأسلحة الثقيلة لحرمة المكان. قامت قوات الحرس الوطني بعد ذلك باقتحام الحرم المكي فقتلت عدداً من أتباع جهيمان ومن بينهم محمد عبدالله القحطاني، كما تم أسر جهيمان وعدد كبير من أتباعه، وانتهت حكايته في الرابع من شهر ديسمبر 1979. وتمت محاكمة جهيمان وأتباعه في المحكمة المستعجلة. وصدر حكم المحكمة بإعدامهم. وقد نفذ فيهم حكم الإعدام في التاسع من يناير عام 1980. جهيمان العتيبي يعتبر النسخة الأولى لما يحدث اليوم، حين وقف أمام المصلين في المسجد الحرام ليعلن للناس نبأ المهدي المنتظر وفراره من "أعداء الله" واعتصامه في المسجد الحرام. مقدما صهره محمد بن عبدالله القحطاني على أنه المهدي المنتظر، طالبا من جموع المصلين مبايعته. بين داعش وإيران في شهر مايو 2016 توعّد الرجل الثاني في تنظيم داعش أبو محمد العدناني وفي خطبة بعنوان "ويحيى مَن حيَّ عن بينة" العربية السعودية، واعتبر أنها أول المهزومين، وإذا كان في خطابه قد بثّ تهديداته على جهات الأرض الأربع إلا أن نداءه الذي وجهه إلى "مجاهديه" المنتشرين في العالم، ثم اعتباره أن شهر رمضان هو شهر"الفتوحات" و"الانتصارات". كل ذلك وضع السعودية في مرمى نيران التنظيم الإرهابي، ولعل التفجيرات الأخيرة التي تعرضت لها مناطق متفرقة ومن بينها حادثة الحرم النبوي، هي تنفيذ لتهديدات العدناني. ولكن هل تنظيم داعش وحده من وجّه التهديدات إلى السعودية؟ هل علينا مثلاً أن ننسى أن الحرس الثوري الإيراني قد هدّد وتوعّد في أعقاب قيام السلطات السعودية بداية العام الحالي بإعدام الشيخ نمر النمر والذي أدانه القضاء السعودي بالتخطيط والتحريض على الإرهاب في المملكة؟ وقد أعلن الحرس الثوري وقتها أن "النظام السعودي سيدفع ثمناً لتلك الفعلة الشائنة". ثم ألم تستثمر السلطات الإيرانية حادثة التدافع التي حدثت في موسم الحج العام الفائت لتوجه سهام اتهامها للسلطات السعودية وتقول إنها فشلت في إدارة الأماكن المقدسة؟ بل وأطلق اللواء محمد علي الجعفري القائد العام للحرس الثوري الإيراني، والرجل الأقوى في إيران بعد مرشدها، تهديدات مباشرة وصريحة قال فيها إن "الحرس الثوري مستعد لتوظيف جميع قدراته لتوجيه ردّ سريع وعنيف، في أيّ زمان ومكان، ضد آل سعود، بسبب كارثة منى، واسترداد حقوق الحجاج الإيرانيين الضحايا، وتحقيق طلب المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي". ولعله لم يعد خفياً على أحد العلاقة الوثيقة والتنسيق بين إيران من جهة وبين تنظيم داعش من جهة أخرى، والتي كشف عنها دبلوماسي إيراني منشق عن النظام و مفادها أن تنظيم داعش يتم تحريكه من خلال غرفة عمليات حربية في مشهد، شمال شرق إيران، يديرها كبار قادة المخابرات الروسية والإيرانية، بهدف خلق فوضى كبيرة في العالم العربي عامة والخليج خاصة و"السعودية" تحديداً. وعند هذه النقطة يلتقي العدناني بقاسم سليماني.