فيما العالم العربي يموج بالأحداث التي تزعزع الاستقرار في مجتمعاته وتتهدد أمنه القومي، ويكاد يغرق في بحر من الفوضى الهدامة، ويبحث عن مخارج مأمونة من المآزق التي وجد نفسه محصوراً فيها، دون أن يهتدي إلى وسيلة للإنقاذ، يفجر مجمع اللغة العربية في القاهرة، قضية خطيرة، لطالما وقع التعتيم عليها وصرف الاهتمام عنها وتجاوزها باعتبار أنها قضية لغوية، ثقافية، أدبية، تعليمية، لا ترقى إلى القضايا الكبرى ذات الحساسية العالية التي تستحق التوقف عندها، وإعارتها العناية اللائقة بها. ففي المؤتمر الثاني والثمانين لمجمع اللغة العربية في القاهرة، وكما أشرت إلى ذلك في ورقة لغوية سابقة، أطلق الدكتور حسن الشافعي رئيس المجمع، ورئيس اتحاد المجامع العربية اللغوية العلمية، صرخة مدوية تصم الآذان، شدَّ بها الانتباه إلى الوضع الخطير الذي وصلت إليه حال اللغة العربية في عقر دارها، نتيجة للانهيار الذي أصابها، وللضعف الذي لحق بها، ولانصراف أهلها عنها وإهمالهم لها. ولا بأس أن أعيد نشر فقرات محدودة من الكلمة التي ألقاها في افتتاح المؤتمر، لأن الإعادة والتكرار هنا مطلوبان كما لا يخفى : ((إن الموقف العام للعربية في مجتمعاتنا الراهنة، لا يدعو إلى الاطمئنان، بل إلى التأزم ومزيد الاضطراب. ويرجع هذا التأزم إلى تقلّص العربية، في مستواها الفصيح السهل الواضح، على ألسنة الشبيبة العربية الناشئة، في سائر الأقطار، التي تعاني ظروفاً لغوية معقدة، من حاضنات أجنبية، ومؤسسات تعليمية أجنبية، وإمكانات ومناهج تربوية محلية، غير متطورة وغير كافية، ولا يتجه أكثرها إلى التحسين بل إلى الضعف والاضطراب)). وهذا بكل أمانة، وكما سبق القول، تحليل دقيق لوضع اللغة العربية، ووصف شفاف لحالها، مما بات يطرح السؤال التالي : إلى ماذا سيفضي هذا الوضع الخطير؟. ولكن الأخطر من هذا كله، هو تقلص العربية وانسحابها تقريباً في مجال الشركات والمقاولات، وعالم المال والأعمال. ولنا في المغرب ما يؤكد ذلك. ولقد أحسن رئيس مجمع القاهرة، حينما أكد أن هذه قضية مصيرية تعنى دون مبالغة أن نكون أولا نكون، في وضع عالمي مضطرب. وهو الأمر الذي سبق لي أن عبرت عنه في مقالات سابقة نشرت لي في هذه الصحيفة، حينما وصفت الوضع العام للغة العربية بأنه ذو مساس بالأمن القومي العربي، ومرتبط بالسيادة الوطنية لكل دولة عربية على حدة. في ذلك الوقت قبل عدة سنوات، حين تناولت هذه المسالة، لم تكن قد برزت ظاهرة الإرهاب واستفحلت بالشكل الذي هي عليه اليوم، ولم يكن العالم قد انخرط في ما يعرف اليوم بالجهود الدولية لمحاربة الإرهاب. أما اليوم فإن أخطر ما في الأمر، هو الزعم باقتران اللغة العربية مع الإرهاب، فتوصم بأنها لغة إرهابية، أو لغة الإرهاب، ويتهم كل من يدعو إلى العناية بها وصيانتها وتحسينها وتجديدها والرفع من شأنها، بالترويج للفكر الإرهابي. بل بلغ الكيد للعربية والتجني عليها من أطراف عديدة، درجة الربط بين محاربة الإرهاب وبين محاربة اللغة العربية، والادعاء بأن لا سبيل إلى القضاء على الإرهاب بكل أشكاله، من دون اجتثاث لجذوره وتجفيف لمنابعه التي منها اللغة العربية المتهمة بأنها تحرض على الإرهاب. منتهى الانحطاط في التفكير، والإسفاف في التحليل، والسفاهة في الادعاء. إن هذا الوهم بالربط بين اللغة والإرهاب، يتعارض كلية مع المنطق السليم، ويتناقض مع الفهم الصحيح لطبيعة الأشياء. ففي مرحلة سابقة كان المناوئون للغة العربية الكارهون لها والمتربصون بها، يقرنونها بالرجعية، ثم بعد أن تراجعت هذه الكلمة واختفت تماماً من القاموس السائد، باتوا يقرنونها بالتخلف، وبعضهم يزيد في التعبير عن غيظه وسخطه وكراهيته للعربية، فيجمع بينها وبين الجهل والظلامية كما يعبرون. وليس هذا التحامل على العربية بهذه الدرجة من الحدة سوى مظهر واحد لحرب الأفكار التي تخوضها القوى النافذة على المسرح الدولي، في إطار الصراع بين الثقافات، في الوقت الذي ينخرط العالم في حركة إنسانية دولية لتعزيز الحوار بين الثقافات والتحالف بين الحضارات، مما يؤشر إلى انتكاسة في الموقف الدولي إزاء ما يجري في المنطقة العربية، سيكون لها مضاعفاتها التي لا تحمد ويخشى أن تكون تنذر بعواقب وخيمة تهدد الأمن والسلم الدوليين. وفي التحليل الواقعي لهذه الظاهرة الخطيرة، فإننا نرى أن المزج بين اللغة والإرهاب يأتي من كون اللغة هي وعاء الفكر. ولما كانت الجماعات المتشددة التي تمارس جرائم الإرهاب، تنتسب في غالبيتها إلى المجتمعات الإسلامية، وتعلن عن اعتناقها للفكر الإسلامي المتطرف، وللعقيدة الجهادية المنحرفة والمتوحشة، فإن الربط بين اللغة العربية والفكر الضال المنحرف والمتطرف، الذي يحرك هذه الجماعات الإرهابية، يكون له بعضٌ من المبررات والمسوّغات لدى الجهات التي تروج مقولات باطلة من مثل (اللغة الإرهابية)، و(الجذور اللغوية للإرهاب)، وتنشر الشبهات التي تقرن بين الإسلام وبين الإرهاب، وتزعم أن العالم الإسلامي هو (الموطن الأصلي للإرهاب)، وأن المسلم، في الغالب الأعم، هو مشروع إرهابي ينبغي الحذر منه، وتبني على هذه المزاعم الفاسدة الفكرة المتهافتة بأن اللغة العربية هي لغة إرهابية، وأن محاربتها هي المقدمة لمحاربة الإرهاب. من خلال هذه الرؤية الشمولية التي تلتقط المشهد الدولي بكل ما يعج به من تطورات، ينبغي النظر إلى الوضع المتأزم للغة العربية الذي يعكس، من وجوه كثيرة، الوضع العربي العام، كما يعبر عن حالة الإفلاس التي تطغى على الفكر العربي خلال هذه المرحلة الصعبة التي تمر بها المجتمعات العربية، حتى يتأكد لدينا الاقتناع بأن الأزمة التي تعاني منها اللغة العربية هي جزء لا يتجزأ من الأزمة السياسية الحادة، التي ترقى إلى مستوى الأزمة الحضارية، التي تحاصر أهلها العرب. وبذلك لا نجد حرجاً في أن نقول إن إنقاذ اللسان العربي لا يمكن أن ينفصل عن إنقاذ الوضع العربي العام، وإن اللغة لا علاقة لها إطلاقاً بالجريمة، سواء أكانت إرهاباً أم أي نوع من الجرائم التي تدخل تحت طائلة القوانين الجنائية.