لنتفق أولاً، أن لداعش وجوهاً متعددة، فليس داعش هو مختصر لكلمات (تنظيم الدولة الإسلامية)، الذي ينتحل صفة الإسلام بينما الإسلام منه براء، وإنما الصفة المشتركة بين الدواعش هي محاربة الإسلام، والإساءة إليه، وتحريف أحكامه وتعاليمه، وتزييف حقائقه، وتشويه صورته أمام العالم، وكراهية الناس فيه. فمن سار على هذا الدرب، وارتكب هذه الجرائم، فهو يلتقي مع التنظيم الإرهابي داعش، حتى وإن كان يحمل عناوين قد تبدو في الظاهر متناقضة ومتنافرة. فالحرب على الإسلام بمختلف الوسائل، وفي المقدمة منها وسائل الإعلام، لا تكاد تختلف عن الحرب التي يشنها التنظيم الإرهابي على الإسلام. ففي جميع الأحوال، هناك كراهية للإسلام، وإصرار على الإساءة إليه وإظهاره للعالم في صورة دين الإرهاب والظلام والتخلف والانحطاط. مناسبة هذه المقدمة هي البيان الذي صدر عن هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف، خلال الأسبوع الماضي، في مبادرة غير مسبوقة تحسب لهذه المؤسسة الدينية الكبرى والرائدة التي كانت عبر العصور القلعة المنيعة التي تصدّ الهجوم على الإسلام وتنشر تعاليمه وثقافته وشريعته السمحة، وتحمي بيضة الإسلام، وتعلي راية أهل السنة والجماعة ومبادئ الاعتدال والوسطية، وتدافع عن قضايا الأمة الإسلامية، وتتصدى للظلم والبغي والعدوان على كرامة الإنسان على مر الأزمنة. جاء في بيان هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف التي يرأسها شيخ الأزهر الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب : ((في ظاهرة غير مسبوقة يتعرض الأزهر الشريف، في السنوات الأخيرة، إلى حملة شرسة، تجاوزت تحميله -ظلمًا-مسئولية بروز ظاهرة العنف العشوائي، التي تروّع الآمنين، وتستخدم القوة لفرض الآراء، تجاوزت ذلك إلى تجريج ثوابت الإسلام، والطعن في التراث الفكري والحضاري الذي جعل من أمتنا العالم الأول على ظهر هذه الأرض لأكثر من عشرة قرون، والذي استلهمته أوربا في بناء نهضتها الحديثة، ولقد تزامنت هذه الحملة الظالمة مع بروز ظاهرة «الإسلامو فوبيا» في الغرب حتى لكأنهما جناحان لنزعة كراهية الإسلام، وتزييف صورته، وتشويه تراثه، الذي كان الأزهر -ولايزال-حارسه الأمين على امتداد تاريخ هذا المعهد العريق». ويستطرد البيان قائلاً : «لقد تجاوز الأمر -في هذه الحملة الظالمة- كل ألوان النقد -المشروع منه وغير المشروع- إلى الطعن الفج في ثوابت التراث، ومذاهب أهل السُّنَّة والجماعة، المجسدة لهوية الأمة وتميزها الحضاري، بالدعوة إلى إحراق هذا التراث وإهانة الأئمة والأعلام العدول الذين أسهموا في إبداعه وفي حمله جيلًا بعد جيل)). وفي إطار هذه الحملة الظالمة المشبوهة التي بلغت الذروة في العداء للإسلام، كشف البيان عن بعض الجوانب من الحرب ضد الإسلام التي تشنها بعض وسائل الإعلام في مصر خلال هذه المرحلة الحرجة التي يمر بها هذا البلد الشقيق، والتي يتعرض فيها الأزهر الشريف ورموزه الأعلام، بمن في ذلك شيخه الإمام الأكبر، لهجوم غير مسبوق، سجل البيان ما يلي : ((-1- فضائيات تصف كتب التراث الإسلامي -التي قامت على خدمة الكتاب والسُّنَّة- بأنها «كتب النفايات البشرية التي مثلت لعنة حلت على الأمة، والتي يجب حرقها ودفنها.. فكل التراث مبني على النفاق والكذب والتدليس»!!. كما تصف هذه الفضائيات ثمرات قرون صدر الإسلام -القرون الثلاثة الأولى- بلعنة الإرهاب والقتل والدموية والترويع، والكارثة الكبرى التي حلت بحياتنا. وتصف الدين – الذي هو وحي وتنزيل إلهي ووضع إلهي ثابت- بأنه منتج بشري، لا يصح أن يكون علمًا. وتصف علوم الحديث النبوي بالتافهة، وتحكم بأن كل التخلف والعته والسفه في المجتمعات الإسلامية منذ ألف سنة، سببه الفكر الإسلامي والمذاهب الفقهية الأربعة، وأئمة هذه المذاهب الذين تقول عليهم هذه الفضائيات «إنهم أئمة الشيطان، الذين يتعلم منهم الشيطان«!!.. ((-2- ورأينا مجلات «ثقافية» تتهم أئمة الإسلام بأنهم أئمة الثقافة التكفيرية وتعدّ الأئمة: الشافعي ومالك وأبا حنيفة وابن حنبل والأشعري والباقلاني والبخاري والشهرستاني والغزالي -أمثالهم- في زمرة التكفيريين!!. كما تتهم المذهب الأشعري -وهو مذهب أهل السنة والجماعة.. الممثل لفكر 90% من الأمة -بالمسؤولية- عن الإفقار الكامل لكل من الطبيعة والسياسة والعقل، مع دعوة هذه المجلات للأزهر إلى تفكيك هذا المذهب الذي هو جوهر تراث الوسطية الإسلامية عبر تاريخها الطويل..)) ((-3- وغير هذه الفضائيات وهذه المجلات، وجدنا المتمركسين الذين يتهمون الأزهر ومناهجه وعلماءه بالإرهاب، متوسلين إلى ذلك بالتفسير المادي للدين، وطيّ صفحة الإيمان الديني، وفتح الأبواب أمام المادية الجدلية والتاريخية والزندقة والإلحاد، والبنوية والتفكيكية والحداثة وما بعد الحداثة. وعلى سبيل المثال، فإن واحدًا من هؤلاء المتمركسين –الذين يناصبون الأزهر العداء– يعلن أن الإسلام دين "مادي"، ويختزله في مجرد مشروع سياسي – هو مشروع الحزب الهاشمي الذي أسسه عبد المطلب ونفذه حفيده -محمد - صلى الله عليه وسلم- لإقامة الدولة العربية. يقول: "كأني بمحمد ينادي طيف جده : أي جدي، هآنذا أحقق حلمك". ويتهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأنه ورث التوحيد عن جده عبد المطلب، وأخذ اسم الإسلام عن زيد بن عمرو بن نفيل، واستعان بشعر أمية بن أبي الصلت في صياغة التراكيب والألفاظ التي ادعى أنها وحي إلهي، بينما هي -في هذا الهذيان الماركسي- مواريث جاهلية«!!... وجاء في بيان هيئة كبار العلماء التي هي أعلى سلطة علمية شرعية أكاديمية في الأزهر الشريف، أيضاً : «هكذا تحالفت في هذه الحرب الشرسة على الإسلام وتراثه الفكري والحضاري، تياراتٌ فكرية –علمانية وماركسية– وفضائيات وصحف ومجلات، اتخذت من الهجوم على الأزهر الشريف نقطة انطلاقها، لا لشيء، إلا لأن هذا المعهد العريق قد اتخذ من حراسة الشريعة وعلومها، والعربية وآدابها -وهما جماع هوية الأمة- رسالته المقدسة، التي رابط علماؤه على ثغورها منذ ما يزيد على ألف عام» . ويختتم بيان هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف بالتأكيد على ((أن الأزهر الشريف بمؤسساته العلمية، وجامعته، ومعاهده الدينية، يعلن -بلسان هيئة كبار العلماء أنه سيظل كما كان العهد به على مر تاريخه، الحصن الحصين لتراث الأمة وهويتها الحضارية في مواجهة مختلف التحديات. مهما كانت شراسة هذه التحديات ومهما كانت الجهات التي تقف وراءهم، ويؤكد الأزهر أنه سيكون لهم بالمرصاد)). بيان هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، هو انتفاضة، جاءت في وقتها تماماً، في وجه الحملات المغرضة التي يشنها الإعلام المصري، أو بعبارة أدق قطاع واسع من هذا الإعلام، ضد الإسلام على نحو غير معهود طوال العهود السابقة، سواء في العهد الملكي، أو في عهود عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك، تشارك فيها بعض الفضائيات وبعض الصحف، سواء الرسمية (التي تعرف في مصر بالصحف القومية) أو الحزبية أو الخاصة. وعلى سبيل المثال، فإن (الأهرام) دأبت على نشر مقالات لاثنين من المثقفين الأشد عداوة للإسلام واحتقاراً لرموزه وتطاولاً على الأزهر الشريف، هما الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، والأستاذ الجامعي جابر عصفور الذي تولى وزارة الثقافة في العهد الجديد لفترة قصيرة. إنني أقرأ لهذين الكاتبين، بمرارة، مقالات في (الأهرام) كلها هجوم سافر على الثقافة الإسلامية، وعلى الفكر الإسلامي، والتأييد والمساندة لكل من يشارك في هذه الحملات العدائية ضد الإسلام في وسائل الإعلام المصرية، مع الانحياز إليهم وتبنّي أطروحاتهم. فهذه المقالات، وغيرها كثير، وهذه البرامج التلفزيونية التي يشارك فيها الكارهون للإسلام، تشكل درعاً من الدروع التي يستخدمها أعداء مصر المتآمرون على أمنها واستقرارها وقوتها وازدهارها، لضرب الإسلام. وبذلك يكون هؤلاء يسيرون في سكة واحدة مع داعش، وإن لم يحملوا سلاحاً، لأن منابرهم وأقلامهم هي السلاح الفتاك الذي يلتقي مع السلاح الذي يستخدمه التنظيم الإرهابي داعش في تحقيق الأهداف الشريرة التي تجمعهم. إن بيان هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، حدث بالغ الدلالة ينتظر أن يكون له ما بعده.