منذ أن اضطر المغرب إلى إعادة ترتيب الحقل الديني في أعقاب الهجوم الإرهابي على الدارالبيضاء (16 ماي 2003)، وما تلاه من تطورات ألقت بثقلها على دول أوروبا، بعدما تبين أن الإرهابيين حولوا تجمعات الشباب المسلم إلى مشتل ملائم لإنتاج المتطرفين وتمويلهم وتسليحهم وتحويلهم إلى قنابل متحركة.. منذ ذلك الحين، بدأت التجربة المغربية تستقطب الاهتمام الأوروبي، وذلك نظرا لخصوصيتها وارتكازها على مبدأ الوسطية والاعتدال، وتكوين الأئمة، وتطويق فقهاء الظلام المتشبعين بالفكر الوهابي الذي أنتج الحركة «الجاهدية» العابرة للقارات.. وقد وصل هذا الاهتمام إلى ذروته لما بدأت بعض الحكومات الأوربية تشيد بإمارة المؤمنين، وقدرتها على مواجهة المد الوهابي أو الداعشي. حيث أعلن، مؤخرا، وزير الخارجية البلجيكي، ديديي رينديرز، خلال لقائه بامباركة بوعيدة، الوزيرة المنتدبة لدى وزير الشؤون الخارجية والتعاون، بأن بلاده تعاني من نقص كبير في مجال تكوين الأئمة، وبأن المغرب يتوفر على خبرة في الموضوع، مما يكشف رغبة بلجيكا في الاستفادة من تلك الخبرة. وهو الاهتمام نفسه الذي أبدته بريطانيا أثناء لقاء جمع بين وزيري خارجية البلدين، في حين تجري فرنسا لقاءات مع المسؤولين المغاربة للتنسيق من أجل تكوين الأئمة الفرنسيين، علما أن «الإسلام» في فرنسا تتنازعه قوتان جاذبتان متعارضتان، ما بين السنة من جهة، وبين الشيعة من جهة ثانية. كما أن للتجاذب السياسي كلمته الحاسمة في النزال الديني بين أكبر تجمعين للمهاجرين في فرنسا، أي بين المغرب والجزائر. ويسعى المغرب إلى تسويق نموذجه في مجال تكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات، في إطار الترويج لمشروع الإصلاح الديني الذي بدأه عام 2004، وهكذا صدر سنة 2014 ظهير بإنشاء «مؤسسة محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات»، مهمتها توفير «تكوين متميز للقائمين بمهمتي الإمامة والإرشاد». ومن ضمن المهام المسندة إلى المؤسسة «تكوين وتأهيل واستكمال تكوين القيمين الدينيين الأجانب»، علاوة على تنظيم دورات للتكوين المستمر في مجال الاختصاص، وعقد ندوات وأطوار دراسية، والقيام بالأبحاث العلمية الرامية إلى تطوير أداء الأئمة والمرشدين والمرشدات، وتوفير تداريب لاستكمال التكوين لفائدة هذه الفئة، وربط علاقات تعاون مع الهيئات الوطنية والأجنبية ذات الاهتمام المشترك. وعلى خلفية تنامي ظاهرة التطرف الديني في فرنسا، قررت باريس الاستعانة بالتجربة المغربية في مجال التأطير الديني للأئمة، حيث التحق بالمؤسسة المشار إليها زهاء خمسين إماما فرنسيا لتلقي التكوين، في إطار عملية تبادلية بين البلدين، حيث سيشرف المغرب على تأطير الأئمة الفرنسيين حول قيم الاعتدال والتسامح، بينما تتكلف فرنسا بالشق المتعلق بقيم الاندماج في المجتمع الفرنسي العلماني واستيعاب التعددية وقيم الجمهورية. كما انطلق بمقر «المؤسسة الكاثوليكية لباريس» في العاصمة الفرنسية مشروع جديد لتكوين الأئمة المغاربة والأتراك والجزائريين والفرنسيين، تحت إشراف رجال دين مسيحيين ومسلمين، لتوعية هؤلاء الأئمة بأهمية الاندماج الثقافي والاجتماعي في النسيج الفرنسي، وتشرب قيم العلمانية. هذا التكوين يتم في إطار قانون عام 1905 الشهير عن فصل الدولة عن الكنيسة وتكريس علمانية الدولة. ويهدف المشروع إلى الاستجابة لحاجيات فرنسا من الأئمة لتغطية حوالي 2500 مسجد في مختلف أنحاء التراب الفرنسي، تتطلب تجنيد حوالي 1800 إمام ومرشد للقيام بشؤونها. وقد جرى الاتفاق بين باريس والبلدان الثلاثة على وضع مخططات مشتركة في مجال تكوين الأئمة والمرشدين الدينيين، بما يضمن لفرنسا وسيلة ناجعة لمكافحة التطرف الديني في أراضيها، خصوصا بعد الأحداث التي شهدتها مؤخرا، والتي أدت إلى مقتل عدد من الأشخاص العاملين في أسبوعية »شارلي إيبدو«، بمثل ما تضمن للبلدان الثلاثة استمرار مراقبتها لأئمتها في فرنسا والتحكم في جالياتها. وينص المشروع على تكوين 30 إماما من المغرب و120 من الجزائر و150 من تركيا. ورغم موقف إئتلاف مسلمي بلجيكا الذي يرفض، لدواعي سياسية معروفة، فكرة استقدام أئمَّة مغاربة أوْ سعُوديين لأجل إمامة المسلمِين في البلاد، مفضلِين أنْ يجرِي الاعتمادُ على أئمَّة محليِّين، بدعوى أن «لا يظلَّ الارتهانُ للخارج قائمًا».. فإن الحكومة البلجيكية تبذل جهودا كبيرا من أجل إقناع «الإئتلاف»- الذي تدعمه الجزائر- بضرورة الاستعانة بالتجربة المغربية التي أثبتت نجاعتها في تطويق «الإسلام المتطرف». الموقف البلجيكي يرتكز على أن الخبرة المغربية هي التي بإمكانها أن تملأ النقص الكبير في تكوين الأئمة التي يعاني منه البلجيكيون المسلمون. ويجد اهتمام بلجيكا بتكوين أئمتها تفسيره في كون هذا البلد الأوروبي أصبح من أكبر الدول الأوروبية المصدرة للمقاتلين نحو "داعش"، وهو ما اعتبرته الحكومة البلجيكية ناقوس خطر يستوجب إعادة النظر في طريقة تعاملها مع المساجد والأئمة، لذلك ترى ضرورة تلقي الأئمة البلجيكيين تكوينا على أيدي الهيئات الدينية المغربية. وقد باتت الحكومة البلجيكية باتت من أشد المتحمسين لفكرة إشراف المغرب على تكوين أئمتها، رغم معارضة بعض الهيئات الممثلة للمسلمين في بلجيكا لهذا المشروع، وتستند الحكومة البلجيكية في المنافحة عن موقفها على ما يتوفر عليه المغرب من خبرة في مجال تكوين أئمة عدد من البلدان. وأشارت صحف بلجيكية إلى أن المذهب المالكي الذي يعتمده المغرب كان من العوامل المشجعة للحكومة البلجيكية لفتح نقاش مع المغرب حول تكوين الأئمة، إذ ترى الحكومة البلجيكية في المذهب المالكي «مذهبا معتدلا يمازج بين التراث والعقلانية»، هذا إلى الجانب الأهمية التي أصبح يوليها المغرب لمسألة التصوف. وهو ما يرفضه «ائتلاف مسلمي بلجيكا»، الذي يصر على تكوين أئمة بلجيكيين في بلجيكا، حتى يكون الإمام، حسب ما جاء به بيان في الموضوع، «ملما بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في بلجيكا». وقد أوضح بيان الإئتلاف سبب الرفض، لكون الأئمَّة الذين يأتون من الخارج يجهلُون بحسب قولهم، السياق الاجتماعي والثقافي للبلجيكيِّين، الأمر الذين يجعلهم غير ذوِي فعالية في تأطير المسلمِين، أوْ أنهم يضلعُون لدى تأطيرهم الشباب في الزيغ بهم إلى التطرف، بعد مضي أعداد كبيرة من المهاجرِين إلى العراق وسورية للالتحاق بتنظيم "الدولة الإسلامية" المتطرف. ورأى الائتلاف أنَّ من الأفضل تأمين السبل لبروز إسلام بلجيكي، وذلك من خلال إفساح المجال أمام أساتذة على تكوين رصين في الدين الإسلامي، يدركُون ما يعيشهُ المجتمع البلجيكي، ولا يتركُون الشباب تائهًا أمام الوعاظ المتطرفِين. الائتلاف دعا أيضًا إلى قطع الطريق أمام أيِّ تدخل أجنبي في تدبير الشأن الديني في البلاد، على اعتبار أنهُ جرَّ ويلاتٍ كثيرة على البلاد. وخلافا لموقف «الائتلاف»، يرى تجمع مسلمي بلجيكا أن بلجيكا تعتبر في مقدمة دول أوروبا التي أبدت إستعدادا للاعتراف بالدين الإسلامي و قامت بتسوية الوضع القانوني للمساجد وأداء أجور ومكافآت وضمانات إجتماعية للأئمة و موظفي الهيئات الدينية، كما ساهم حسن تواصل الجالية المسلمة مع الثقافات الفرنسية والهولندية والألمانية. بل إن التجمع أعرب أنه في أمس الحاجة، كما جاء على لسان سفير المغرب ببلجيكا واللوكسمبورغ، الذي أشار، حينما حل ضيفا على التجمع بمناسبة احتفالة الاعتراف الرسمي بالدين الإسلامي، إلى تمكن الجالية المسلمة ببلجيكا من تحقيق مطالب كثيرة تتجاوز بكثير ما تم تحقيقه في العديد من الدول الأوروبية الأخرى، كما تطرق السفير إلى حاجة وتعطش أفراد الجالية المسلمة المقيمة بالديار البلجيكية لمن ينير لهم الطريق المستقيم حفاظا على ديننا الإسلامي الحنيف الذي يدعو إلى السلم والأمن والسكينة كما هو نمط الإسلام المغربي الذي عرف عنه تاريخيا بالإعتدال والوسطية تحت راية إمارة المؤمنين حامية الملة والدين وفي ظل عقيدته الأشعرية ومذهبه المالكي الداعي دوما وأبدا إلى التآخي والرحمة ونبذ العنف والتطرف والكراهية.