*عدم الاندماج في النسيج الاقتصادي الرسمي، دفع البدو إلى تطوير اقتصاد مواز في سيناء *التهميش واستمرار العزلة السياسية وصرامة التدابير الأمنية، ما زالت تلقي بظلالها القوية في تغذية التذمر المحلي تحوّلت شبه جزيرة سيناء المصرية في السنوات الأخيرة إلى منطقة غير آمنة وقبلة تجتذب المتطرفين في الداخل والخارج، لا سيما بعد الارتباك الأمني الذي صاحب ثورة 25 يناير 2011 التي أطاحت بحكم الرئيس الأسبق حسني مبارك. وازداد الوضع سوءا عقب قرار الجماعات الأكثر تشددا والناشطة في شبه الجزيرة المصرية إعلان البيعة لصالح تنظيم الدولة الإسلامية. ***************** تطرح الأوضاع في مثلث العريش-رفح- قرية الشيخ زويد بشمال شرق جزيرة سيناء، جملة تساؤلات عن استراتيجيات المواجهة التي تخوضها مصر ضد الجماعات الجهادية في حرب غير متكافئة، قوامها حرب العصابات والكر والفر. فالهجومات اليومية المباغتة التي تقوم بها الجماعات المسلحة، وما يقابلها من محاولة تطهير المنطقة من أوكار العنف والتهريب اتخذت طابعا صارما بعد عملية "نسر 1" و "نسر 2" من طرف المجلس الأعلى للقوات المسلحة في عام 2011. وهو ما تبلور بشكل أوضح وأخطر منذ إعلان حظر التجول وحالة الطوارئ في أكتوبر 2014 بسب ارتفاع العمليات الإرهابية التي جعلت المنطقة تئن تحت تهديد أثقل وزنا وأوسع نطاقا، لا سيما بعد الاعتداء على أكثر من 15 نقطة تفتيش في فاتح يوليو 2015. والواقع أن إعلان جماعة "أنصار بيت المقدس" في 10 نوفمبر 2014 ولاءها إلى تنظيم داعش، وتبني تسمية تنظيم "ولاية سيناء"، ثم ما قابله من قيام السلطات المصرية بإغراق الأنفاق وتدمير العديد من المنازل في محيط غزة الحدودي في 30 أكتوبر 2014 بغية تطويق هذه الجماعات بعد إقامة منطقة عازلة تمتد في عرضها 6.4 كلم و 13 كلم ونصف طولا، وترحيل 1100 أسرة، كان له أثر كبير في تضخيم الطابع الإقليمي للمشكلة القائمة. ولذلك، ورغم هذه التدابير العاجلة، فإن نتائج العمليات الأمنية والعسكرية لا تزال محدودة، ولها أحيانا ارتدادات سلبية. وبالتالي، فإن ذلك يعني لزاما مراجعة الاستراتيجية الأمنية وتقويتها برؤية اجتماعية واقتصادية وسياسية لمعالجة العوامل المغذية لتنامي الحركات الجهادية في سيناء، وتفاعلاتها مع ما يجري في داخل مصر، ومن ورائها العلاقة بين الدولة المركزية والقبائل البدوية، ثم العلاقات بين حركة الإخوان المسلمين الدولية بالجهاديين، والعلاقة بين غزة ومصر، والأهم من ذلك دور خصوم مصر: حماس، وحزب الله، وتركيا رجب أردوغان، وإيران. التنظيمات الجهادية في سيناء قبل رصد التنظيمات المتشددة في شبه جزيرة سيناء، لا بد من الانتباه إلى أن حركة حماس ومجموعات مسلحة أخرى في قطاع غزة اتخذت منها عرينا لتهريب البضائع والأسلحة والمتفجرات في اتجاه غزة عبر عدة أنفاق في شمال شرق سيناء، فيما استقرت العديد من التنظيمات القريبة من القاعدة وتنظيم داعش في عين المنطقة لصعوبة تضاريسها. وفي هذا الإطار، يعد تنظيم ولاية سيناء (أنصار بيت المقدس سابقا) أكثر قدرة على المستوى العملياتي في جزيرة سيناء إلى جانب أنه يضم 500 مقاتل و5000 من الأنصار، وهو تنظيم تأسس في عام 2012 على يد مصريين، واستلهم في البداية هيكل القاعدة التنظيمي، وأغلب أعضائه من البدو المحليين، وعناصر يتم استقطابهم من الشرق الأوسط، سواء من سوريا أو من شمال أفريقيا بصفة خاصة. وفي إطار تنفيذ مخططاته، بدأ عملياته باستهداف مواقع إسرائيلية في مدينة إيلات ومحاولات تفجير خط أنابيب الغاز إلى غاية 2012 (أكثر من 13 عملية). لكن بعد وصول الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى الحكم، أعلن التنظيم الحرب على الجيش المصري والقوات الأمنية، حيث قام بمحاولة اغتيال وزير الداخلية محمد إبراهيم في سبتمبر 2013، وقصف مباني إدارة الأمن في المنصورة في دجنبر 2013، ثم نفذ عدة تفجيرات في القاهرة في يناير 2014، وأسقط مروحية عسكرية مصرية بنظام محمول للدفاع الجوي (MANPAD) قرب قرية الشيخ زويد في نفس الشهر. ثم قام بتفجير انتحاري أدى إلى مقتل 30 عنصرا من رجال الأمن في 24 أكتوبر 2014، ونفَذ أربعة هجومات في شمال سيناء في 29 يناير 2015، أسفرت عن مقتل 30 شخصا. فضلا عن اغتيال المدعي العام هشام بركات في 29 يونيو، كما تم القيام بأكبر عملية هجوم على الجيش المصري منذ عام 1967 استهدفت 15 نقطة تفتيش ومراقبة في جنوب قرية الشيخ زويد، وأسفرت عن مقتل 70 جنديا في مطلع يوليو 2015، مما استدعى انتشارا إضافيا للقوات المصرية لأول مرة منذ توقيع اتفاقية السلام. هذا بالإضافة إلى اغتيال المدعي العام هشام بركات في 29 يونيو، ثم قيامه مؤخرا بمهاجمة فرقاطة بحرية مصرية في 16 يوليو 2015، وتفجير الطائرة المدنية الروسية. وهناك اتجاه ثان أطلق على نفسه "مجلس شورى المجاهدين" تأسس في عام 2012، ويشمل عدة جماعات جهادية في غزة، حيث يعترض على اتفاقية السلام المصرية – الإسرائيلية الموقعة في 1979، ومن ثمة تركيزه على استهداف مواقع إسرائيلية. لكنه أعلن مسؤوليته عن عملية وراء الحدود باستعمال متفجرات في يونيو 2012، علاوة على قيامه بهجمات صاروخية على مدن سديروت وإيلات الإسرائيلية في أبريل وأغسطس 2013. لكن أبرز تحول وقع في الآونة الأخيرة، هو إعلانه الولاء لتنظيم داعش في فبراير 2014. وبرز تنظيم آخر يدعى "أنصار الجهاد" في عام 2011 معلنا التزامه بتنفيذ وصية أسامة بن لادن، من طرف مؤسسه رمزي محمود المُوفي طبيب بن لادن، والذي هرب من السجن في 2011، حيث أسس في نهاية العام أنصار الجهاد، وأعلن ولاءه لأيمن الظواهري، فيما أعلن تنظيمه مسؤوليته عن العديد من التفجيرات ضد خط أنبوب الغاز نحو الأردن وإسرائيل، كما تحوم حوله شكوك قوية حول قيامه بعملية ضد القوات الأمنية في يناير 2013. وهناك جماعة محمد جمال أبوأحمد، الذي له علاقة بقيادة القاعدة، وتنظيم "القاعدة في المغرب الإسلامي"، و"القاعدة في شبه الجزيرة العربية"، حيث قام بعد إطلاق سراحه في عام 2011 بالتخطيط لعدة عمليات داخل مصر، وأشرف على عدة مواقع تدريب في مصر وفي ليبيا. وهو الأمر الذي يطرح ازدياد مستوى المخاطر ومعالجة العوامل التي تساعد على تجذر وانتشار هذه التنظيمات الجهادية في سيناء، منها ضعف الاندماج الاجتماعي والاقتصادي والجغرافي للجزيرة وسكانها، كما أن التهميش الذي طال المنطقة مدة طويلة في ظل الاحتلال الإسرائيلي واستمرار العزلة السياسية وصرامة التدابير الأمنية التي لا تراعي الأعراف القبلية، ما زالت تلقي بظلالها القوية في تغذية التذمر المحلي بين البدو والحكومة المركزية. الجغرافيا والاقتصاد والأمن في ظل هذا التشعب والتشابك، بلغ عدد سكان سيناء 597 ألف نسمة في عام 2013، يوجد منهم نحو 419.200 نسمة في محافظة شمال سيناء، وهي المنطقة الأشد فقرا، فيما يقطن 177.900 نسمة في محافظة جنوبسيناء 2013، كما يشكل 60 بالمئة من السكان من البدو، بينما تتكون تركيبة 40 بالمئة الباقين من "وادي النيل" الذين استوطنوا بالمنطقة لكسب العيش في العديد من القطاعات، وخاصة في قطاع السياحة. لكن هذا القطاع لا يستفيد منه أبناء البلاد الأصليون الذين يعيشون على الفلاحة والرعي والصيد إلا قليلا، وفيما يعتمد بعضهم على التهريب. وبالإضافة إلى عدم الاندماج مع باقي التراب المصري لظروف تاريخية، فإن 70 بالمئة من السكان (حوالي 200.000 إلى 300.000) لهم علاقة وطيدة مع سكان شرق المتوسط أكثر من الداخل المصري، حيث نجد بعض قبائل سيناء مثل "طرابين" ينتشر أفرادها في صحراء النقب، والعقبة، وجنوب الخليل، والقاهرة، فيما تقع مضاربهم غربي قضاء بئر السبع، وداخل سيناء، وجنوبالأردن، وبالأراضي الفلسطينية، فيما يرجع موطنهم الأصلي إلى وادي تربان، وقبيلة السواركة، وقبيلة الرميلات، وقد كان مسكنهم في بلدة القطيف في بلاد الإحساء بالمنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية. وربما يمثل تعدد الانتماءات تبريرا للتهميش السياسي الذي لحق بدو سيناء، وزاد فيه عدم قدرة السلطات المصرية الاستجابة لحاجياتهم الاقتصادية والاجتماعية منذ أن تم التخلي عن جميع المخططات التي كان قد هيأها الرئيس الراحل أنور السادات. كما أن تطوير مرافق سياحية في شرم الشيخ وساحل خليج العقبة استفاد منه المصريون في الداخل، بينما تم دفع هذه القبائل البدوية إلى داخل سيناء، كما أن تطوير أنبوب الغاز نحو الأردن وإسرائيل وقيام بعض المجمعات الزراعية، تم اعتباره من طرفهم وسيلة استغلال لأراضيهم القبلية. ويضاف إلى ذلك، أن عدم اندماجهم في النسيج الاقتصادي الرسمي، دفع البدو إلى تطوير اقتصاد مواز في سيناء، وذلك عبر التجارة في المخدرات والبضائع المهربة نحو إسرائيل بالاعتماد على حفر شبكة من الأنفاق. أما بالقرب من إيلات المنتجع الإسرائيلي، فإن بعض أبناء قبائل عزازمة والأحيوات يقومون بدورهم بتهريب البضائع، وتسهيل نقل المهاجرين غير الشرعيين، حيث ارتفعت تجارة التهريب في ظل الحصار الإسرائيلي عل غزة بشكل متصاعد في عام 2007. على المستوى الاقتصادي، يمكن توزيع الجزيرة على أربع مناطق، شمال زراعي، ومنطقة غربية غنية بالمعادن والنفط، ثم منطقة جنوبية شرقية تملك قدرات سياحية، فضلا عن حزام غربي صناعي ولوجيستيكي، يمتد من الشمال إلى الجنوب على طول القناة. ويجب أن تندرج مخططات الدولة التنموية في هذه الخارطة ودراسة معالم القوة والضعف في كل منطقة على حدة. ومن العوامل الإيجابية أن مصر استطاعت في ظرف وجير أن تجعل من المنطقة الجنوبية الشرقية قطبا سياحيا، وأن تستغل الموارد الطبيعية في الجنوب الشرقي (خليج السويس)، لكن دون أن تصل إلى تأمين استقرار تام للسكان وسط هذه المحاور وتربطهم بالداخل المصري. فهي استطاعت أن تجذب المؤهلين منهم فحسب. بحيث يبدو الوضع في الجنوب أحسن حالا من الشمال، بينما يحتوي هذا الأخير على ضعف السكان.