منارة كبرى تنطفئ، قلم نافذ يجف، فكر ثاقب يتوقف، سيل جارف من العطاء ينضب، هرم يتوارى بكل شموخه وكبريائه. ينحني بكل خشوع لملاقاة قدر كان على موعد معه. لقد رحل عنا سي العربي وغادرنا إلى دار البقاء، وما أصعب حرقة فراق رجل مفرد بصيغة الجمع، ومتفرد بصيغة التميز. رجل من الإشراقات الحصرية التي أنجبها الزمن المغربي. من الصعب أن يكتب الإنسان عن سي العربي المساري، فالعبارات قد لاتطاوعني في حق هرم كبير، والقلم رفيق درب الفقيد يتمنع أن يكتب بصيغة الماضي. فبالرغم من أسلوب المصانعة الذي أبداه سي العربي وهو مازال شابا، بآرائه المتفردة التي كان يعبر عنها بكل عفوية، فقد كان علال الفاسي رحمه الله يرى فيه قوة دافعة، ومثقفاً يافعاً ذو رجاحة فكر وصواب رأي، لذلك فقد احتضنه وقربه إليه وأعجب بأسلوبه، لكن مع ذلك كان يرى فيه الرجل السهل الممتنع. سي العربي الرجل الذي اجتمع فيه ما تفرق في غيره، جمع من الخصال أحمدها، ومن القيم أرفعها، ومن العلم أنفعه للوطن، ومن السياسة أخلاقها. فهو السياسي الجريئ الذي أزعج كثيراً عندما كان نائبا برلمانيا، ورئيسا للفريق الاستقلالي للوحدة والتعادلية بمجلس النواب. دافع باستماتة عن الديمقراطية، والحريات العامة، وحقوق الإنسان. ولم يكن يكتفي بأن يصدح بأعلى صوته بالحق، وبالمطالبة بالحرية والعدل والمساواة والكرامة للمغاربة في المؤسسات السياسية والتمثيلية، وفي التجمعات واللقاءات الجماهيرية، بل استعمل كذلك سلاح القلم الذي كان يصيب به الظلم والتعسف والقهر، ولم يكن في ذلك متلكئاً ولا مهادنا، بل كان مقداماً بثبات، مدافعا بإيمان، مناضلاً بعقيدة وطنية راسخة. سي العربي مؤرخ لامع، يقرأ الأحداث والوقائع بعين المتفحص المتبصر، ويكره أن يعيد إنتاج أو سرد ما مضى، لذلك تراه يحرص على استكشاف خبايا الأمور فيما جرى، وينتبه إلى أدق التفاصيل، ويسهر على توثيقها، وقراءتها في تقاطعاتها المختلفة، وينجح دائما في تقديم إضافات تاريخية رصينة، وقيمة نوعية رفيعة في التأريخ للحياة السياسية والاجتماعية للمغرب. لقد جعل من التاريخ منطلقه وقاعدته الخلفية لفهم الحاضر، واستشراف المستقبل، لذلك فقد كان سي العربي عميقاً في رؤيته، صائباً في تحليلاته، منسجماً مع قناعاته، لا يتكلم ليرضي، ولا يكتب ليَتَقَرَّب، ولا يصمت ليهادن. لقد قدم قراءات مفيدة جداً ونوعية لتاريخ المغرب، ولتاريخ الحركة الوطنية عموما، والحركة الوطنية في الشمال على وجه الخصوص، وكان يصر على ذلك، ليس لكونه تطوانيا أو شماليا، ولكن لايمانه القوي بأن تاريخ المغرب ينبغي أن يقرأ في كليته وعبر بوابته الشمالية والجنوبية معاً. عندما عين سي العربي سفيراً للمغرب بالبرازيل، كان الراحل الحسن الثاني ذكيا في اختياره صائبا في قراره. فهو اختار الرجل المناسب في الزمن المناسب، وللمكان المناسب، وللمهمة المناسبة، خصوصاً وأن البرازيل كانت قد أوشكت آنذاك على معاكسة وحدتنا الترابية، وكان ثمة قرارات صادرة لا محالة ليس في مصلحة المغرب. استطاع سي العربي بحنكته، وبرزانته الدبلوماسية، وبعمله الدؤوب، وبروحه الوطنية الصادقة أن يواجه بالحجة، ويقنع بالدليل، ويبين بالبرهان، فطرق كل الأبواب السياسية والاعلامية والثقافية والأدبية والمدنية بالبرازيل، واستطاع أن يقلب الموازين، ويغير المسارات، فانتصر لقضية وحدتنا الترابية، وأنجز مهامه الوطنية بكل كفاءة واقتدار. سي العربي ينبوع متدفق من العطاء، وحركة دائمة في الإنتاج، ويشهد الله أنه لم يكن يجري وراء سلطة زائلة، ولا جاه عابر، ولا وراء امتياز، رجل عفيف وقنوع ومتواضع وزاهد في المناصب. سي العربي نموذج المثقف الملتزم، والإنسان الخلوق، فالسياسة عنده أخلاق والتزام، فهو لم يكن قط حزبيا متعصباً بل كان فكره الوطن، والهواجس التي تسكنه قضايا الوطن، فاستطاع أن يجمع بين أصالة المنطلق، وبين الفكر التنويري التواق إلى الحرية والكرامة والعدل. لذلك فقد كان صديق الجميع، ومحبوبا من طرف جميع الطيف السياسي من أقصاه إلى أقصاه، يؤطر الندوات واللقاءات، ويطارح الأفكار بالأفكار بأسلوبه الهادئ المتزن والذي لايخلو من لغة الدعابة في بعض الأحيان. عندما كان سي عبد الرحمان اليوسفي يعمل على تشكيل حكومة التناوب، كنا في النقابة الوطنية للصحافة نسأل سي العربي حول ما إذا كان سيتولى حقيبة وزارية، وكان في كل مرة يجيب بالنفي، قبل أن يؤكد لنا في إحدى المرات أن سي محمد اليازغي هو المرشح لوزارة الإتصال. لقد كان سي العربي يعلم جيداً أن الحزب لم يقترح اسمه ضمن لائحة المستوزرين، ولم يهرول من أجل ذلك. لكن المرحوم الحسن الثاني بسرعة بديهية تساءل عن عدم ورود اسم سي العربي المساري، وفي الحين حسم الأمر وأمر بتعيينه وزيراً للاتصال. لقد كان سي العربي كله حماس وطموح لأن عهد التغيير قد حان، ولم يضيع وقتا طويلا في صياغة استراتيجية إصلاح الإعلام ببلادنا، بل كل ما حصل هو أنه حمل معه جميع ملفات مطالب الإصلاح من النقابة إلى الوزارة، وسرعان ما استدعى لجنة متابعة تنفيذ توصيات المناظرة الوطنية الأولى للإعلام والإتصال. وقد أنهت أعمالها في ظرف قياسي، وعمل على صياغة مشاريع الإصلاح وإحالتها على الأمانة العامة للحكومة. لكن طريق المغرب لم تكن معبدة بعد لتستوعب عملية التغيير. وبدأت العقارب ترسل سمومها في كل اتجاه، وقوى الردة تتربص به، وتحاول إحباط كل مشاريعه الإصلاحية، وهنا أذكر وأنا أعمل مستشاراً لديه في الديوان، أنه بعد الرحلة الشهيرة لإدريس البصري آنذاك إلى الجزائر والتي اصطحب معه خلالها الأخ خالد الجامعي، جرى لقاء بيني وبين سي خالد بمكتبه بجريدة لوبنيون، وقال لي أن البصري قال له خلال هذه الرحلة أن سي العربي لايعرف كيف يشتغل، وأنه لن يكون هناك أي إصلاح ما لم يأته سي العربي ليطرق بابه. وعندما حكيت هذا الأمر لسي العربي أجابني بجملة واحدة وبلغة حازمة مصحوبة بنظرة مستنكرة: «أنا رئيسي هو سي عبد الرحمان اليوسفي وليس ادريس البصري». لما أدرك المساري حجم الدسائس التي كانت تحاك ضده، وأيقن أن مشاريع الإصلاح وصلت إلى الباب المسدود، بادر إلى تقديم استقالته ثلاث مرات، وهي الاستقالات التي كان يرفضها الحزب، تحت عدة مبررات. كان المساري مؤمنا بأنه جاء لأداء مهمة معينة، أما وأنه استعصى عليه ذلك، فلا داعي للاستمرار في كرسي زائف، لذلك فعندما جاءت أول محطة للتعديل الحكومي نزل بكل خفة من القطار وهو كله سعادة وقد تخلص من وضعية اختناق لم يكن قادراً على تحملها. ومباشرة بعد مغادرته الوزارة عاد الطائر إلى عشه الدافئ ليغرد من جديد، ليكتب ويؤلف ويحاضر وكأنه استعاد حريته من جديد. كان سي العربي دارسا جيداً وقارئا موسوعيا، وكاتباً متميزاً دائم الانشغال بهموم الوطن، متابعاً منتبها لما يجري في الجوار، لذلك كان يرصد التحولات والمتغيرات الوطنية في علاقاتها بدول الجوار، فليس من الصدفة أن يؤلف كتبا مثل كتاب قصف واد الناشف، أو صورة المغرب في مخيلة الصحافة الجزائرية، أو كتاب المغرب ومحيطه، أو آخر كتاب صدر له وأعانه في ذلك مشكوراً الأستاذ حسن أوريد، «اسبانيا الأخرى». فرؤيته للمغرب ولقضاياه الاستراتيجية لم تكن تقف عند الحدود، بل تمتد إلى ما ورائها، لأن الجوار أصبح جزءاً أساسيا في المسار. في آخر زيارتنا له أنا والأخ البقالي، كان يصارع المرض بهمة عالية، وبروح مؤمنة بقضاء الله وقدره، لذلك فقد كان حريصاً على ألا يستسلم له، وأن يتم رسالته إلى آخر دقيقة. لقد كان يسجل في تلك الأمسية حلقات خاصة عن ذاكرة المغرب مع الصحافي الصافي الناصري من الإذاعة الوطنية. لم يخل هذا اللقاء من روح المرح التي كان يتمتع بها المساري، وحكى لنا طرائف، ودعابات، وكان يعاتب مرضه بروح مرحة قائلاً: «هاذ المسخوط ديال الطانسيون مابغا يتفك عندي، أنا نهبطو من هنا وهو يطلع من هنا.» رحم الله الأستاذ والمربي والصحافي والمثقف والكاتب والمفكر والسياسي والدبلوماسي والأديب، الذي قلما يجود الزمن بأمثاله. تركتنا هكذا بدون استئذان، والحزن يعصر فؤادنا وجوارحنا. تركتنا في زمن نحن أحوج ما نكون فيه إليك. فقدانك خسارة كبيرة للوطن كرجل كبير وهرم سيظل شامخاً إلى الأبد. إنا لله وإنا إليه راجعون.