أطلق الأزهر الشريف مبادرة فكرية تصحيحية بعنوان (منتدى الوسطية والحوار)، تهدف إلى محاربة التطرف والتشدد والغلو، وتدعو إلى تعميق قيم التسامح والاعتدال والاعتراف بالآخر. وهي القيم التي تنطوي عليها الثقافة الإسلامية التي يتلقاها طلاب الأزهر في جميع المراحل الدراسية، ابتداءًا من المعاهد الأزهرية الابتدائية والإعدادية والثانوية، وانتهاءًا بجامعة الأزهر بكلياتها التي تزيد عن خمسين كلية منتشرة في جل المدن المصرية. وتتزامن هذه المبادرة الأزهرية التي أطلقتها الرابطة العالمية لخريجي الأزهر، والتي يديرها المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، التابع لوزارة الأوقاف المصرية، ومجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر الشريف، تحت إشراف هيئة كبار العلماء التي يترأسها شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، تتزامن مع حملة مشبوهة في بعض وسائل الإعلام المصرية، من القنوات التلفزيونية والصحف والمجلات، إلى وسائط التواصل الاجتماعي، ضد التدين جملة ً وتفصيلا ً، وضد الأزهر، وثقافة الأزهر، والمنظومة التربوية للأزهر. ويشارك في هذه الحملة كتاب وصحافيون وإعلاميون يجدون من أنفسهم الشجاعة للهجوم على الإسلام بجرأة مجنونة، وبعضهم يروج للإلحاد بطرق شتى، في مخالفة صريحة للقوانين المصرية، وبما لا يقاس مع ما كان عليه الوضع في أي وقت سابق. وهو الأمر الذي يهدد الأمن الوطني المصري تهديدًا مباشرًا، كما هو واضح لمن يرى ويقرأ ويتابع ويحكم على الأشياء بالمنطق السليم. والهجوم على الأزهر يبدأ من اتهام جامعة الأزهر، وهي أكبر جامعة في مصر من حيث كثافة عدد الطلاب وتعدد الكليات، بل هي أقدم جامعة في مصر كما لا أحتاج أن أقول (وليس في العالم، لأن جامعة القرويين أسبق منها بقرنين من الزمن)، وينتهي بطلاب الأزهر الذين يتهمهم الإعلام بالإرهاب، هكذا دون تمييز بين طالب وآخر. وقد قرأت أخيرًا مقالا ً في (الأهرام) لأحمد عبد المعطي حجازي، يشن فيه هجومًا على المنظومة التعليمية في الأزهر، ويدعي أن تلك المنظومة هي من وضع الإخوان المسلمين، وأن عددًا وافرًا من أعضاء هيئات التدريس في جامعة الأزهر، ينتمون إلى الإخوان المسلمين. وهو اتهام عشوائي باطل من الأساس ينطوي على غرض ليس سليمًا. وهذا الربط المريب بين الأزهر وجامعته ومعاهده وأساتذته وعلمائه، وبين جماعة الإخوان المسلمين، هو عبث في عبث، ولعب بالنار، وإذكاء للفتنة، بل استدعاء لها، وتحريض عليها. وهو إلى ذلك كله، أمر خطير بجميع المقاييس، الغرض منه، مع الأسف، هو نسف التعليم الإسلامي الذي هو رسالة الأزهر في المقام الأول، وسعيٌ خبيثٌ من أجل تحقيق الهدف الذي تعمل له أطراف كثيرة من الداخل والخارج، ألا وهو (تجفيف منابع التدين) من خلال الشعار الغامض المريب (تجفيف منابع الإرهاب). وكأن التدين هو منبت للإرهاب ومحضن للتطرف. وهذا تفسير مضلل لظاهرة الإرهاب، وتشريح باطل لهذه الآفة التي ابتلي بها العالم، ونكب بها العالم الإسلامي بصورة خاصة. ولقد تصاعد المدُّ المعادي للتدين في مصر، وفي غيرها من البلدان العربية، خلال الفترة الأخيرة، في الوقت الذي تَفَاقَمَ الخطر المحدق بالمجتمعات العربية الإسلامية من جراء تنامي ظاهرة الإرهاب. ويتخذ هذا المدُّ المتصاعد المعادي للتدين، وجهة التصدّي للإرهاب وللإرهابيين. وما دامت جماعة الإخوان المسلمين قد أعلنت جماعة ً إرهابية ً، بغض النظر عن الدواعي والمبررات والأسباب والملابسات والأهداف التي تقف وراء ذلك، فإن ربط الدين والتدين والإسلام عمومًا بتلك الجماعة، هو المسلك الذي يؤدي فيما يزعمون، للقضاء المبرم على روح التدين في المجتمع المصري، بل يروج للإلحاد ولكراهية الدين وللإعراض عنه ولمحاربته. وهذا هو في حد ذاته منتهى الإرهاب، وقمة الاستبداد، وذروة الإفساد في الأرض. إن روح التدين التي تسري في الشعب المصري روح أصيلة متغلغلة ضاربة في عمق التاريخ، فهي ليست من جماعة الإخوان المسلمين، وإن كان أعضاء هذه الجماعة جزءًا لا يتجزأ من الشعب المصري. والأزهر الشريف محصَّنٌ، بخيرة علمائه الشرفاء الشجعان المخلصين للعلم وللوطن، الذين يمارسون دورهم التنويري الحقيقي في إطاره، هو ضد الاختراق من أي جماعة من الجماعات تنحرف عن وسطية الإسلام واعتداله واستقامة ثقافته. فليس كل من ينتمي إلى الفكر الإسلامي، على أي نحو من الأنحاء، ويستقيم في حياته ويعتدل في فكره، ويلتزم بالقيم السامية التي جاء بها الإسلام، هو من جماعة الإخوان المسلمين، كما يزعم المغرضون الذين يريدونها فتنة ً تأتي على الأخضر واليابس. فهذا يَتَنَافَى وحقائق الأشياء، ويَتَعَارَضُ مع طبائع الأمور، ويصطدم مع المنطق السليم. ومن يقول بذلك يجهل ما يقوله ولا يفقه شيئًا. وأعلن وزير الأوقاف المصري الدكتور مختار جمعة، عن التزام وزارته والمؤسسات الدينية، بالمنهج الوسطي، ورفض كل أنواع التطرف والانحراف. وقال في تصريح نشرته الصحف المصرية : نحن نحارب الانحلال والإلحاد كما نحارب الغلو والكفر. وفي حواره مع صحيفة (اللواء الإسلامي) قال الدكتور محمد داود الأستاذ بجامعة قناة السويس، إن الدولة تتحمل المسؤولية عن مواجهة الإلحاد لتدعيم الإيمان وصد المتشككين في الدين. ولكن بعض الأقلام المصرية يردد أصحابها هذه المزاعم الباطلة، ويشاركون في حملة ظالمة بل وخطيرة للغاية، في محاربة الإسلام، وفي الترويج للإلحاد بمستويات مختلفة، من حيث يزعمون أنهم يحاربون جماعة الإخوان المسلمين. وينطبق هذا على مصر، كما ينطبق على بعض البلدان العربية. وهو وهمٌ من الأوهام، وباطل من الأباطيل، بل هو لعب بالنار، لأن الشعب المصري عريق في تدينه، أصيل في فهمه للإسلام، وشديد الارتباط بالثقافة الإسلامية حتى بالنسبة لغير المتعلمين منه، قبل أن تنشأ جماعة الإخوان المسلمين، التي هي ليست سوى مدرسة في الفكر الإسلامي المعاصر، لها ما لها وعليها ما عليها. ولا يمكن إطلاقًا اختزال الإسلام في هذه الجماعة أو في سواها. إن على رأس الأزهر الشريف اليوم عالم مخلص لربه صادق في أداء رسالته، ينهض بالمسؤولية التي يتحملها بأمانة ونزاهة. وهو بذلك يقود سفينة الأزهر بحكمة وتبصر، وسط هذه الأمواج المضطربة التي تكاد تهز أركان الدولة المصرية، من جراء تفاقم الأزمة الفكرية بالدرجة الأولى، التي لها تداعياتها الأمنية، وانعكاساتها السياسية، وتأثيراتها السلبية في المجتمع المصري. فإذا غضضنا الطرف عن جماعة الإخوان المسلمين، لأن هذا ليس المجال الذي نتناول فيه هذا الموضوع الذي سبق أن عرضنا له في عدة مقالات، فإن القضية الرئيسَة التي تهمنا جميعًا، هي ترسيخ قواعد الاستقرار في مصر وفي الدول العربية الإسلامية عمومًا، ولذلك فإن الحملة ضد الإسلام، بل ضد الدين بصورة عامة، التي بدأ يتسع نطاقها في مصر، هي حملة ضد استقرار هذا البلد العزيز، وضد أمنه وسلامة نسيجه الاجتماعي وسلمه الأهلي. ولذلك فإن التحصين الفكري ضد الإرهاب، لا يكون بالهجوم على التدين، ولكن يتم بالوسائل الثقافية والفكرية والعلمية المتقنة والمجدية، وما المبادرة التي أطلقها الأزهر الشريف أخيرًا، إلا وسيلة من تلك الوسائل. ولكن المبادرة تجد أمامها عراقيل ومثبطات وموانع، لأن بعض القوم لا يريدون الإسلام جملة وتفصيلا ً، ويرفضون الحديث عن الوسطية والاعتدال والحوار، لأنهم يرفضون الإسلام بل يرفضون الدين أصلا ً. أليست هذه أزمة؟. أليست هذه حربًا فكرية وغارة إعلامية على الإسلام في بلد الأزهر الشريف الذي منه أشرقت أنوار النهضة في أواخر القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، والذي منه تعلمنا، بل تعلم العرب والمسلمون قاطبة؟. فهل يعقل أن يشن الهجوم على الإسلام تحت غطاء محاربة جماعة الإخوان المسلمين، فهل هذه الجماعة هي ممثلة للإسلام؟ بل هل توجد أي جماعة أو تنظيم، أو لنقل بصراحة تامة، هل توجد أي دولة يمكن أن نقول عنها إنها تمثل الإسلام، أو ناطقة باسمه، أو تشكل مرجعية دينية؟. لا. ليس لدى أهل السنة والجماعة مرجعية دينية تتمثل في شخص أو في دولة. فلا كهنوت في ديننا. هذه قضية خطيرة للغاية، لا ينبغي اتخاذ موقف سلبي إزاءها. إن تجفيف منابع الإرهاب لا ينبغي أن يكون سبيلا ً إلى تجفيف منابع التدين. وإن محاربة الإرهاب لا تتم ولا يجب أن تتم إطلاقًا، بمحاربة الدين، وبالهجوم عليه، وبالازدراء به، وبتشويه صورة الدين والمتدينين. ومن ثم فإن من يقول إن جماعة الإخوان المسلمين في مصر تمثل الإسلام، ويبني على ذلك الزعم الباطل وهمًا سخيفًا، وهو أن محاربتها هي محاربة للإسلام، من يقول بذلك يرتكب جرمًا في حق الإسلام، وفي حق مصر وشعبها الطيب. دعا أحدهم من موقعه في بلد أوروبي، في مقال له نشر في (الشرق الأوسط) يوم الإثنين 22 سبتمبر الجاري، إلى ما أسماه (ترميم مناهج الأزهر)، عوضًا عن ترميم مبنى جامع الأزهر، تعليقًا على المنحة التي قدمها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز لهذا الغرض. حيث قال : ((إن الأزهر لا يحتاج فقط إلى ترميم المباني، بل ترميم الأفكار وترميم المناهج)). وقد عرف عن هذا الكاتب دائمًا الهجوم على جماعة الإخوان المسلمين، والسخرية من الأزهر الشريف، والحط من شأنه، بل النيل من الثقافة الإسلامية ومن الفكر الإسلامي والاستهزاء بأقطابه على اختلاف مشاربهم. وهو من الكتاب الذين يتوهمون الربط بين الإسلام وبين جماعة الإخوان المسلمين، وممن يرون أن تصفية الإخوان تمر عبر تجفيف منابع الإسلام. أي أنه يمارس الإرهاب بالمعنى الكامل للكلمة، ويحرض على الفتنة المدمرة للمجتمع وللدولة. والغريب أن هذا الكاتب يَتَبَاهَى بأنه أكاديمي وأستاذ للعلوم السياسية في إحدى جامعات لندن. وكان قبل ذلك يعمل أستاذا ً في جامعة أمريكية بواشنطن. وأمثال هذا الكاتب (الأكاديمي جدًا) كثرٌ، وهم يمثلون مع غالبية الصحافيين والإعلاميين والكتاب في مصر، كتيبة للتشهير بالإسلام، ولتشويه صورته، وللتحريض ضد كل من ينتمي إلى الفكر الإسلامي. وكلهم عندهم (إخوان مسلمون). ليس هكذا يحارب التطرف والغلو (لاحظوا أنني لا أصف التطرف ولا الغلو بالديني). ولا هكذا يواجه الإرهاب الذي يفتك بالمجتمعات العربية الإسلامية، ويهدد المجتمعات الغربية عمومًا. وليس في هذه الأجواء ينشر فكر الوسطية والاعتدال وقيم التسامح والاعتراف بالآخر. فكل جهد يبذل في هذا المجال، في ظل هذا المناخ، لا يكون ذا مفعول، ولا يكون مؤثرًا يحقق الأهداف النبيلة المرسومة. إن إطلاق مبادرة (منتدى الوسطية والحوار) وسط هذا الهجوم الإعلامي على الإسلام وعلى التدين بصورة عامة، هو، مع الأسف، بمثابة الحرث في البحر، مادام أولو الأمر لم يتحركوا لصدّ هذه الحملة قيامًا بالواجب الذي يتحملونه. ومادام هذا الربط المريب قائمًا بين جماعة الإخوان المسلمين وبين الإسلام الذي هو دين الغالبية من الشعب المصري. إن أمن مصر فوق كل اعتبار، واستقرار مصر هدفٌ سام وغاية عليا. ولذلك فإن الحملة المجنونة على التدين التي تبلغ أحيانًا درجة نشر الإلحاد والانحلال الخلقي عبر مسارب كثيرة، تسير في الخط المناهض لهذا الهدف، وتخدم مصالح الأطراف الأجنبية التي لا يهمها تأمين مصرنا الغالية ضد المخاطر المحدقة بها وتمكينها من النهوض. إن الذين يغتنمون مناسبة إقصاء جماعة الإخوان المسلمين من الحياة السياسية، يوهمون أنفسهم. وها هو الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يقول عشية سفره إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، في مقابلة مع وكالة الأنباء الأسوشييتدبرس الأمريكية، إن جماعة الإخوان المسلمين يمكن أن تشارك في الحياة السياسية إذا نبذت العنف. كيف؟. هل هي بداية انفراج للأزمة؟. أم هي مراجعة للذات من منطلق أن الجماعة قوة شعبية متغلغلة في النسيج الوطني المصري، وأن أفكارها صارت ثقافة عامة يتشربها الوجدان المصري؟. ذلك هو سؤال المرحلة.