دخلت يوما معرضا للفن التشكيلي، ووقفت أتأمل لوحة جذبتني، وكانت عبارة عن إخطبوط ضخم يسيطر على كامل اللوحة، يدور حول نفسه، وأذرُعُهُ، أو مِجسّاتُه، تتلَوّى حوله، عيناه تحدقان في الرائي. وكأنّ الإخطبوط يقول للرائي : إنني أعرفك. وعندما حاذاني الرسام صاحب العرض، سألته : ماذا تعني هاته اللوحة؟ رفع الفنان راحته اليمنى وأدارها في الهواء، في اتجاه عقارب الساعة، وقال : إنها تمثل حركة الله في الكون... واقتنيْتُ اللوحةَ المستقرة الآن على أحد جدران البيت، لأن الفنان أضاف لها بعدا جديدا بالوصف بالكلمات. بعد عقود من اقتنائها، ما زلتُ، كلما ألقيتُ عليها نظرة، أرى فيها حركة الله في الكون. لقد أصبحتْ صورةُ الكلمات وصورة الفرشاة تتضافران لإيصال المعنى. أصبح الرائي والناشئ، مشاركان في إضفاء المعنى على الأثر الجمالي، الفرشاة بالنسبة للشعر هي خيال الشاعر، وخيال قارئ الشعر، معا. هكذا أصبح ؤضع الشعر في زمان الصيرورة، الذي ينبغي ألا يغصب حق أحد. الشعرُ، لايشرح الشاعرُ معناه؛ لآن كل مقطوعة شعرية، تَلُفُّ إزارَها على معانيها، وإلا تحولتْ من التّورِيّةِ إلى التّعْرِيّة. ثم إن الشرح من طرف الشاعر، هو تفتيت وإتلاف. أما عندما تتدخل مخيلة القارئ، وتنخرط إيجابيا في المضمون، يصبح الشعر ثريا، بما أضفاه عليه القارئ من خياله. يصبح للمقطوعة الشعرية أبعادا متعددة لا تَحُدُّها إكراهات الشّرْح، وما يَفْرِض عليها الشرح من حدود. وعليه، فإنني أتقدم بمطلبٍ، إلى صاحب المَرْسَمِ العريض الواسع، والذي لاجُدران له ولا سقف، إلا السماء، والأفق الأرحب، مَرْسَمُ الخيال الذي يملكه كل قارئ للشعر، وهو من صفوةٍ، مازالت تُقِرّ بمكانٍ للشعر، في مناخٍ مزدخمٍ خانق، مطلبي لقارئ المقطوعة التالية، إذا شاء أن يُضفي عليها معنىً، أو معاني، من عنده، ومن وحي خياله، أن يأخذ بالإعتبار، وهو يرسم لها لوحته، أنها مخبولةُ اللّفَتات، تَفْكيك شَفْرَتِها يكاد أن يقول : (خذوني) إنها تسكن، كنفس الشاعر، في الحَيِّ البوهيمي. غَجَرِيَّةٌ تَسْتَحِمّ بِشَلاّلِ الشمس حسناءٌ تَتَهادَى، لا تقايضُ أحلامَها، مفاتنَها، لا تَفْصيلاً ولا جُمْلةً في سوق النَّخّاسِين. غيرُ عابئة، إن أثْقَلَ قاربَها نفيرُ السّيْلْ أو سرابُ سهوبِ الليلْ. أو بُهْتانٌ من تصانيفٍ المشّائينْ. غَجَرِيّةٌ تَخْتالْ لا تَبيعُ أحْمالَ بَهاءها، تواشيها، زَخارفَها، وما ادَّخَرَتْهُ من بُسُطٍ وفراديسٍ، أُضْحِيّةَ تَقَرُّبٍ للأوثانْ، فعِشْقُ الغَجَرِيّةِ راسخٌ مَكينْ ؟ هيّ حسناء تَحَدّرَتْ خَلاياها من عظيم الإنفجارْ لاتقايضُ مَتاعَ زينتِها بِقَبْضَةٍ من غُبارْ، ولو أضْنَتْها تباريحُ الفؤاد، في لُجّةٍ مظلمةٍ وأضناها تنائي اليقين. غادةٌ بشلاّلِ الشمسِ تسْتَحِمُّ شريدةَ الأمساءِ والأصباحْ شاردةً في يَمِّ التّدبُّرِ والإفتكارْ. خَلاّبةُ الدّلالِ سادِرَةٌ في شَرايينِ الوَجْدِ، متحَرّرَةٌ من أصْفادِها، رافضةً منابرَ البَوارْ. سُرّتُها، نَهْداها النّافِرانْ غُنْجُ طَرْفِها، بَضاضَةُ حَرْفِها، مُزَخْرَفاتٌ بلون الطّيْفِ، وأشعارْ. حسناء بنتُ عاصفةٍ مذعورةٍ، نشأتْ في مهدِ الرياحِ العاوية، رياحٍ مفزوعةٍ كذئابْ تُصَدِّرُ سُعْرَها لِلْمَلكوت. غجريةٌ بِنْتُ الفُتونِ والجنونْ إنْصَهَرَ قُطْباها، تَعانق شَعْرُها في ضَفيرَةٍ من نورٍ بِنارْ. لا بُكاءَ ولا أنينْ. يتفجّرُ بين أصابعها شعاعٌ يكشف سِتْرَ الأسرارْ هَبّاتٍ هَبّاتْ يَجوسُ في بِرْكَةِ الشّعورِ دون انْحِصارْ. في مَسْراها ورَجْعَتِها، لاتَعْبَأ بطواحين الأوْهامِ تُهَدِّدُ بِنَسْفِ طَلْعَتِها، فقد توّجَتْها المَجَرّاتُ سابِرَةً للأغْوارْ مالكةً للأمْصارْ. الغجرية غدتْ فراشةً، في حَقلها وفَضائِها، غدتْ ناهدةً رَعْناءْ يَتَلَوّى قَدُّها يُتْلِفُ الأبصارْ تَبْني مَدائِنَها دون أسوارْ تَتَآكلُ الجُدْرانُ فيها، تَنْهَدُّ الحُصونْ. تَخْتَرِقُ مَتاريسَ اللاّمُمْكِنِ بِنَظْرَتِها. كاملةَ الوَصْفِ، لاتعكيرَ في كَوْنِها ولا انْشِطارْ تَحْتَ خَطْوِها تَنْمو الظِّلالْ تَنْتَشِرُ الموسيقى شَذَراتْ. حين تَنْقُرُ في دَفِّها ينتشي فِناءُ الحَضْرَةِ بِنَقَراتِها، وتقتربُ من نفسها، تُعانِقُها، ويضوعُ مسكُ الليلِ في الحيّ البوهَيْمي ويَتَشَرْنَقُ الوَهْمُ في مَذَلَّةٍ وانْكِسارْ.