لفهم السِّر في التجاء الجماهير العربية إلى بيت أبي القاسم الشابي:»إذا الشعب يوماً أراد الحياة…»، لا بُدَّ من قراءة الشابي، أولاً، في شعره ونثره، وقراءة مذكراته التي كان فيها يقول أشياء، ربما لم يكن يرغب في نشرها، أو يعتبرها شخصيةً، تَخُصُّه هو دون غيره. كان الشابي ثائراً، في فكره، ورؤيته، وفي فهمه للشِّعر الذي رأى أن دوره هو إيقاظ الهِمَم، وتنبيه «الشعب» للحرية والانطلاق، كشرط ضروري لمعنى الوجود والحياة، معاً. رفض الشابي طريقة القدماء في النظر إلى المرأة، واعتبر الشِّعر العربي القديم، في كتابه «الخيال الشعري عند العرب»، خارج الخيال بمعناه الإبداعي، لأن هذا الشِّعر بقي مُقيماً في خيالٍ مُغْلَقٍ. هذا النزوع الثوري، في نفس الشابي، وفي ثقافته وفكره، رغم ثقافته التقليدية المحافظة، ورغم اقتصاره على العربية، كلغة واحدة لِتَلَقِّي المعرفة، واكتفائه بالترجمة للانفتاح على الشِّعر الرومانسي، هو ما جعله يرى في الرومانسية، في بعدها التجديدي الثوري، آنذاك، طريقَ التحرُّر من عبء هذا الماضي الذي كان يَكْتُم بعض انطلاقه. وكتابه عن «الخيال الشعري عند العرب»، هو بيانُ تَحَرُّرٍ من هذا الماضي، رغم أن الشابي بقي مقيماً في الشكل الشعري القديم. فَهْم هذا السياق الشعري والمعرفي، وفهم نفس الشابي التي كانت حُرَّة، تأبى الضَّيْم، والاستعبادَ، وهو الشَّابُّ، ابن الثالثة والعشرين، حين كتب قصيدته «إذا الشعب يوماً أراد الحياة…»، هو ما يفضح سرَّ الْتِجَاء الشعوب العربية إلى بيته هذا لتنحتَ منه شعار»الشعب… يريد…». يقول الشابي في مذكراته «هل يأتي ذلك اليوم الذي تُعَانِقُ فيه أحلامي قلوبَ البشر، فتُرَتِّل أغانِيَّ أرواح الشباب المستيقظة، وتُدرك حنين قلبي وأشواقه أدمغةٌ مفكِّرَة سيخلقها المستقبل البعيد؟».هذه نبوءة شاعر كان يدرك أن ما يكتبه كلام خطير، وقابل للحياة، لكن ليس في زمنه هو، بل في زمن آخر، بعيد، هو هذا المستقبل الذي نعيش فيه نحن اليوم. ولأن الشابي كان شابّاً، فهو تكلَّم بلغة جيل، وخَاطَب جيلاً يعرف ما في نفسه من اشتعال وجَيَشَان. يقول في بعض شعره، مخاطباً ما كان يِسَمِّيه بالروح الحرة: فمالَكَ تَرضَى (ياشَعْبُّ) بِدُلِّ القُيود وتَحْنِي لِمَنْ كَبَّلُوكَ الجِباهْ وقال أيضاً: حَذَارِ فَتَحْت الرَّمادِ اللَّهيبُ وَمَنْ يَبْذُر الشَّوْكَ يَجْنِ الجِراحْ وفي هذا يظهر بوضوح أن الشابي لم يكن هو من أشْعَل ما يجري من ثورات في العالم العربي، بل وَعَدَ بها، وحَرَّضَ عليها، وكان، بحدس الشاعر الرائي الخلاَّق، يعرف أن «من نامَ لم تنتظره الحياة»، ولن تبقى في انتظاره. كان بيت الشابي، الذي خرجت الجماهير تُرَدِّدُه بصوتٍ عالٍ، وجَهِير، اعترافاً بدور الشِّعر في تفجير النفوس، وشَحْذِها، وتحية لشاعرٍ قال للشُّبَّان من جيله، ممن هم في نفس سِنِّه، الشعب جَمْر كامن في اشتعاله، وإذا ما خرج من بَيَاتِه، اسْتَحالَ إلى لَهَبٍ، يأكل الطُّغاة، ويرمي بهم في غياهب النسيان. فالتاريخ هو مدوَّنَة للفُضلاء، ولمن خدموا شعوبَهم، ووفَّروا لهم حياةَ الرَّفاه، والعيش الرَّغيد، ولا مكان فيه لمن يستعبد الناس، وأمهاتُهم ولدتهم أحرارا. فالحرية لا تفتأ تعود إلى جذورها.