بسم الله الرحمن الرحيم (1) ملخصُ قصة القردِ الفنّان خبرُ هذه القصة كان له، في وقته في شهر دجنبر من سنة 2002، دويّ كبير في الأوساط الفنية والثقافية، لكن الإعلامَ "الحداثي" الجبّارَ، بما يملكه من وسائل وإمكانات هائلة، استطاع أن يمنع صدَى هذا الخبر أن يذهب بعيدا، وأن يجعله خبرا مقروءا في الأخبار الثانوية، التي سرعان ما يأتي عليها النسيان. ملخَّص القصة أن صحافيا مصريا شابا، اسمه (صلاح محفوظ)، كان يعمل محررا في مجلة "الصدى" الأسبوعية الإماراتية، وكان له ميل واهتمام بالتحقيقات التي تتسم بالتشويق والمغامرة، قام بإحضار قرد من نوع (الشامبانزي) كان استعاره من إحدى السيدات، ووضع أمامه لوحةً وألوانا وفُرشات، ثم تركه وكأنه "فنانٌ" في مَرْسَمِه. ولم يمرَّ وقت طويل حتى انتابت القردَ غريزةُ اللهو والعبث، فأمسك بالفرشاة، مُقلدا ما رآه من صاحبِه الصحافي، ثُمَّ جعل يلعب بالألوان على اللوحة على طريقة القرَدَة في الحركة والخفة والقفز والنّزَق، حتى شبع خبطا بالفرشاة وتلطيخا بالألوان. بعدها قام الصحافي "المغامر" بتصوير لوحة القرد العابث (شيتا) في عدة نسخ، ثم جعل يعرضها على بعض أصدقائه ومعارفه من الأدباء والكتاب النقاد مدّعيا أنها لوحة لأحد أمراء الخليج، سمّاها (أمريكا والعالم)، وأنه ينوي عرضها في لندن، وإصدارَ كرّاسة تضم مقالات تعرّف باللوحة وتشرحها وتنتقدها فنيا، وأوهمهم، كُلاًّ على حدة، بأنه قد تكون هناك جوائز مالية لأصحاب هذه القراءات النقدية الفنية للوحة. وبسبب الطمع في نيل الجائزة من الفنان الخليجي الوهمي، انطلق الكتاب والنقاد يكتبون عن لوحة (أمريكا والعالم)، وأطلقوا لخيالهم العنان في تفسير دلالات الألوان والخطوط والظلال وما إلى ذلك مما خلّفه عبثُ القرْد على وجه اللوحة. وفي المرحلة الأخيرة من هذه القصة(التحقيق/الخدعة)، قام الصحافي (صلاح) بفضح الحقيقة في مجلة (الصدى)، بتاريخ 22/12/2002، ونشرَ نصوص مقالات النقاد والكتاب، الذين كتبوا عن لوحة القرد وهم يظنون أنها لإنسان فنّان. فوقعت هذه الفضيحة كالصاعقة على من وقعوا في فخّ الصحافي المغامر، أولا، وعلى الوسط الثقافي الفني، ثانيا، وتردّدت بعضُ أصدائها في بعض وسائل الإعلام، لكن سرعان ما خمَد لهيبُها، وحُفِظت في الأخبار العادية المنسية. ومع هذه الفضيحة المدوية، التي لم تترك للنقاد المهرّجين الأدعياء ملجأ يحتمون به، فإن منهم من قامت قيامتُه بالاحتجاج والطعن على الصحافي، والتشكيكِ في مقصده، وتهديده بالقتل، بل منهم من أَنكر جملة وتفصيلا ما خطَّه بيمينِه عن اللوحة القِرْدِية. هذا هو حالُ الكتّاب والمثقفين المُزوّرين المُبْطِلين دائما؛ فهم ليسوا راشدين للاعتراف بأخطائهم وكبواتهم وانحرافاتهم، بل هم مستعدون، في كل الظروف والأحوال، للمواجهة والخصام، وإن كانت التهمةُ ثابتةً عليهم كالشمس الحارقة في قَيْظِ النهار. ولتكتملَ الصورةُ عند القارئ الكريم، أسوق فيما يلي مختاراتٍ مما قاله كتابنا ونقادنا "الطمّاعون" عن لوحة القرد العابث (شيتا)، من غير أن أذكر الأسماء، لأن الذي يهمّنا هنا هو ما قالوه: وصف أحدُهم-وهو معدود في الشعراء- لوحةَ القرد بأنها "غيوم من الموسيقى والإيقاع اللوني الهادئ في صخَبِه، والصاخب في هدوئه". وعاد فوصفها، في مقال آخر، بأنها "قصيدة بصَرية" و"بأنها أغنياتٌ ملونة(...) تختصر الغناءَ في جملة صغيرة هي الهمْس. كأن الفنان يعالج أرواحنا بهذه الشلالات اللونية المنجَزة بأناقة بالغة(...) تكاد تشتم فيها رائحة الخُزامَى، والفجر، والحلم، والحب، والشمس ، والرقة." لاحظ، أيها القارئ الكريم، هذه اللغةَ الواثقةَ المطمئنّة المتعالمة في مقالاتِ هؤلاء المنتحِلِين لصفات النقاد وعباراتهم!! وقال آخر عن عبَثِ القرد (شيتا): "للوهلة الأولى لا يستطيع المرء إلا أن يقف مكتوياً بحرائق اللون وبراءة اندفاعاته أمام تجربة تشكيلية جديدة ومتمردة وباذخة في رؤاها، تبحث عن إطار تعبيري مختلف(....) وهي تتقدم إلى متلقيها مسكونة بحرية فائقة، تأخذنا إلى تخوم التجربة المطلق، إن صح التعبير. وهذا بحد ذاته يتطلب من قارئ اللوحة أن يتسلح بذائقة مختلفة، تبتعد بمسافة غير محسوبة عن أنماط التلقي التقليدي الذي يبنى على حسابات الكتل والمساحات، وقوانين التشريح وكيمياء الألوان". وقال ثالث: "...لوحةُ (أمريكا والعالم)(....) هي بمثابة رفض لوني أو إدانة ضوئية متوهجة عبر لوحة تجريدية ذات بعد فلسفي عميق، يحرص على تكريس قيَّمِ مواجَهةٍ ومقاومةٍ لهذا التوحش الحضاري المتكئ فقط على القوة والافتراس. هكذا تبدو أمريكا بوصفها حضارة مادية مبنية على قوة مفرغة من المبادئ الإنسانية، وذلك هو سر الدماء الحمراء." تعجّبْ من هذه الجرأةِ في التحليل والتأويل!! ورأت "ناقدة" محسوبة على الفنانين التشكيليّين "أن مبدع اللوحة ترك مساحات بيضاء لإشاعة الأمل والبهجة تأكيدا لجمال وروعة الحلم(...) فالفنان يدعونا لإعادة قراءة الواقع(...) ويبدو وكأنه يبحث عما هو أعمق من حدود المعرفة المتاحة". وكتب آخر، وهو أيضا محسوب على الفن التشكيلي، فوصف "إبداع" القرد بأنه "خطوط وألوان بُعثرت بشكل فلسفي عميق يشير بكل ثقة وجرأة، من خلال ألوانها المتداخلة والمتضادة، إلى طبيعة العلاقة التي تحكم أمريكا بالعالم(...). لقد استطاع الفنان ببراعة وحنكة صياغة واقع سياسي بكل تعقيداته من خلال خيوط وألوان ذات مدلولات غاية في العمق." وممن "حللوا" لوحةَ القرد طبيبٌ متخصص في الأمراض النفسية والعصبية. ومما استنتجه في تحليله أن "قلة المساحات البيضاء باللوحة تشير إلى أمرين: أولهما أن هذا الفنان يزدحم عقله بثقافات مختلفة وكثرة اطلاع. وثانيهما أنه متشائم بدرجة كبيرة، لأنه قلص مساحة الأصل التي يشير إليها اللون الأبيض. كما تشير طريقة رسمه للوحة إلى أنه رسمها على مرحلتين، الأولى كان يمر فيها بمرحلة قلاقل نفسية نتيجة مشاحنات أو مشكلات عائلية، وهذا بدا من التوتر اللوني الذي يعبر عنه بوضوح في الجانب الأيسر من اللوحة، أما الجانب الأيمن من اللوحة فقد رسمه وهو في حالة نفسية مستقرة، تعبر بوضوح عن حالة انسجام عاطفي وعائلي، حيث تميزت الألوان بالدفء والتناغم. لكن المثير في هذا الفنان(....)أنه يعاني من أعراض فصام عقلي في بداياته أصيب به من كثرة قراءاته واطلاعه على تجارب الآخرين". وقد علّق أحد الصحافيين على "تحليل" هذا الطبيب ل"خلْطَة" القرد بقوله ساخرا: "إن هذا التحليل يجيز لنا أن نقبض على هذا الطبيب، وأن نرسله إلى مصحة عقلية يديرها القرود." هذه الفضيحة الصحافية بيّنت هذا الحضيض التي نزل إليه مستوى الإبداع عندنا، تأليفا ونقدا؛ كما أثبتت أن الفن، أيَّ فن، حينما يفقد الضوابطَ والقواعد والمعايير المعتبَرةَ في الإبداع، فإنه يتحول إلى حِمى مُستباح لكل من هبّ ودبّ، كما هو حاصل اليوم مع ما يُسمَّى بالشعر الحداثي، وخاصة في شكله الذي يُسمّونه ب"قصيدة النثر"، حيث أصبح الناسُ جميعا متساوين في الإبداع، وأصبح في إمكان أي واحد، مهما كان تعليمُه وتذوُّقُه وتمكُّنُه وأخلاقُه، أن يُبَرِّقَ عينيْه، وأن يدعيَ أنه "شاعر"، وأن يجد بكل سهولة، وخاصة إن كان من الميسورين، أو ممن وراءه إعلامٌ مهيمن ومؤثر، أو إديولوجيّةٌ غازيةٌ غالبةٌ، أو مقصدٌ شيطانيٌّ مُخرِّبٌ، مَنْ ينشر كلامه، ويُقرِّظُه على أنه "شعر" "جميل" "ساحر" "فاعلٌ تاركٌ" يستحق صاحبُه أن يُصنَّف في الطبقة الأولى من المبدعين البارعين! وهذه هي النتيجة الحتمية للحداثيّة المتطرفة؛ حدودٌ مستباحة، وفنٌّ لا تحكمه أصول، ولا قواعد، ولا معايير، ولا صناعة، ولا أيُّ شيء من الضوابط والقيود، التي تحكم الإبداعَ وتميّزُ المبدعِين في مختلف الصناعات. مع الحداثيَّةِ المتطرفة، أنت مبدعٌ كبير في رَمْشَة عيْن؛ يكفي أن تكون ممن يعرف ضمَّ الكلمات بعضها إلى بعض، أو تخليطَ الألوان وبعثرَتها كيفما اتفق، كما فعل القردُ (شيتا)، وها أنت ذا شاعرا يمدحُه اللسانُ، وفنّانا تشكيليّا يُشار إليه بالبَنَان. اُكتبْ كلاما بلا وزن ولا معنى، وثابر على الكتابة، فإنك لن تعْدَم، اليوم أو غدا، في نقاد هذا الزمان، ناقدا يهتم بشأنك، ويحتفي بتجاربك، ويعترف بك وبشاعريتك رغم أنف العالمين! هِي ذي "حداثة" الدَّناسَة والعدَمِيّة والإباحيّة!! ومما له علاقة بفضيحة القرد الفنان في السياق الذي نحن فيه، ما قام به بعض الناس لاختبار معرفة النقاد وقدرتهم على التمييز بين ما هو شعر وما هو ليس كذلك، ولاختبار إن كانوا يستطيعون أن يميزوا كلام شاعر كبير من كلام غيره من الشعراء أو المنتحلين لصفة الشعراء. بل قلْ إنهم بهذا الاختبار أرادوا أن يثبوا أن ما يُسمَّى بالشعر الحديث، الذي لم يعد يعتد بالأوزان، ولا بالمعاني، ولا بالبيان، ولا بغير هذه من مميزات الشعر السليقي الأصيل، الذي تواضع عليها الشعراء والنقاد منذ كان الشعر موهبة وصناعة، وشعورا ومعاناة، ونظما موحيا بديعا، وخيالا شفيفا، وإنما هو(هذا الذي يسمَّى "شعرا حديثا") مخلوق بلا أصل ولا هوية ولا ماض ولا مستقبل، وأن أي إنسان يمكن، إن أراد، أن يدعي أنه شاعر، بتنسيق بعض العبارات على شكل معين، وتوزيعها في صورة أسطر، وقد يأتي في تنسيقه وتوزيعه بشيء أعجب وآنق وأقرب إلى أن يرتاح إليه ذوق القارئ، وتطرب له نفسه، من كثير من النصوص المنشورة المنسوبة إلى أسماء لها قامات لا تُطاولُ في فضاء ما يُسمّىَ بالشعر الحداثي. في بدايات انتشارِ ما يُسمّى ب"قصيدة النثر"، في الستينيات من القرن الماضي، قام بعض المثقفين بكتابة نصوص بعبارات تحاكي ما كان شائعا من صفات "قصيدة النثر"، كالغموض، والتعقيد، واستعمال بعض الرموز التي كان الاحتفاء بها كبيرا في كتابات الأدباء في ذلك الوقت- المهم أن هؤلاء المثقفين اختلقوا نصوصا تضاهي النصوص التي كانت تُنشر باسم "قصيدة النثر"، وقاموا بإرسالها إلى (أنسي الحاج) في جريدة "النهار" ببيروت، وهو يومئذ من أعلام بدعة (قصيدة النثر). ولم يكن من المسكين (أنسي الحاج) إلا أن قام بالاحتفاء بها ونشرها على أنها من جنس هذا "الشعر الحداثي الفاتح العظيم"! لقد مرّ خبرُ هذه الفضيحة الفنية/النقدية/الثقافية-فضيحة القرد الفنان- من غير أن يقف الناسُ عنده الوقفةَ اللازمة الحازمة الحاسمة، وأقصد بالناس مَنْ هُمْ مِنْ ذوِي الوزن والرأي والاختصاص الأمناء في مجالي الإبداع والنقد، وليس مَن هُمْ من طينة نقادِ لوحة القرد (شيتا). أعتقد أن النقدَ حينما يكون أمينا صافيا من غبش الطمع والمحاباة والتدليس، ومبرأً من عيوب الجهل والإمعية والتعصب الإديولوجي المقيت، ومعافى من الأهواء والصّنَميَّة العمياء، فإن ظهور أمثال "القرد الفنان" يكون متعذرا، إن لم نقل مستحيلا، لأن الأدعياء، ببساطة، حينئذ، لن يجدوا من يعينهم في شذوذهم وانحرافهم وانتحالهم ونَصْبِهم واحتيالهم؛ لن يجد المزورون المحتالون، في حضور النقد المتخصصِ الكشّافِ الفضَّاح، مظلةً فنية مزيَّفة يحتمون بها، أو ملاذا نقديا على مقاسهم يلوذون به. مثلا، في الخمسينيات من القرن الماضي، حينما بدأ ينتشر أمرُ ما يُسمَّى ب"الشعر الحرّ"، قام بعض النقاد المعارضين بالوقوف في وجه الظاهرة ناقدين ومُفَنّدِين ومُحَاجّين(من الحُجّة) بلغة النقد والأدب، وأدوات الفن والإبداع، وخبرة الذوق العالِم المدرَّب الرفيع، وليس بلغة الإديولودجيا والتعصب والرفض والهدم والعدمية والصخب والفوضى. لكن المعركة سرعانَ ما تحولت، على يد الحداثيّين المتطرفين، إلى معركة إديولوجية ضاع فيها النقد السليم البنّاءُ في غمرة زعيقِ قبائلِ "القرد الفنان"، وهِياج نقاد آخر الزمان، فتقَشَّع الغبارُ عن فرض انتصارٍ إديولوجي في معركة أدبية فنية بامتياز، وهي معركة ما تزال قائمة محتدمة إلى اليوم، وإن كان الخطابُ الحداثيّ الإديولوجيُّ لا يفتأ يتحدث عنها وكأنها معركةٌ من التاريخ الذي ولّى، وكأنها معركة انتهت وحُسمَت أدبيا وفنيا لصالحِ هذا الغثاءِ الغالبِ اليومَ باسمِ الحداثة والتنوير والمستقبل. تتمة الكلام في المقال القادم، إن شاء الله. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين. فاس: 16 ماي 2013