إذا نحت الكاتب أو الشاعر أو الفنان التشكيلي أثرا من صميمه عز عليه أن يدفعه إلى الناس منشورا قبل أن يوفيه شروط الكمال، أو ما يحسبه شروط الكمال فتراه يرصف ويجمع ويغوص في البحث عن الجديد، إلى غاية الاطمئنان إلى انطباق كتابه على مدينته الفاضلة التي تخيلها في إبداعه. هذا شأن الشاعر والفنان التشكيلي المغربي، عبد الله يعقوبي، الذي ألف كتبا عديدة، منذ تسعينيات القرن الماضي، وظلت حبيسة رفوف خزانته التي احتوت كل أصناف الإبداع الإنساني شعرا ونثرا وتشكيلا ودراسات اقتصادية وسياسية. من هذه الرؤية الجمالية كشف يعقوبي في حوار مع "المغربية" عن آليات الكتابة، إذ يرى أن أول الكلام هو الشعر، قد يكون مقفى وحرا. وأضاف أن حرقة الإبداع سكنته منذ أن تفرغ للكتابة على نواصي الأسندة والأوراق، فهو يبدع بطريقتين تعبيريتين جماليتين، أولاهما بالقلم وثانيهما بالريشة والألوان. هكذا يمتزج في أعماله ما هو شعري بما هو تشكيلي، في صيرورة واحدة، ودلالات متعددة. في هذا الحوار يتحدث اليعقوبي عن ثنائية الشعر والتشكيل في التجربة المتميزة التي خاضها في حقيبته الجديدة "تضافر الالوان". لماذا آثرت أن يخرج مؤلفك الجديد على شكل "حقيبة فنية"؟ آثرت أن يكون كتابي الجديد على شكل حقيبة فنية تجمع حوالي 70 لوحة تشكيلية وأشعارا، لأن اللوحة أكثر تعبيرا وحاملا يوصل الفكرة والرسالة معا، فالإبداع البصري أكثر معنى ومبنى وإيصالا، بينما الكلمة قد تحمل في تضاعيفها أمرا جارحا، ما يجعلها تستفز وتستفز، حينما تكشف عن أمر ما قد يؤول بشكل خاطئ، مما يخلق عداوات مجانية. زاوجت في "تضافر الألوان" بين التشكيل المدرج في الإيقاع اللوني، والشعر الموغل في استحضار زمن الحكمة، كيف تتمكن من القبض على جنسين تعبيريين في إبداع واحد متجانس؟ سكنتني حرقة الإبداع منذ أن تفرغت للكتابة على نواصي الأسندة والأوراق، إذ أصبحت أكتب بطريقتين تعبيريتين جماليتين، أولاهما بالقلم وثانيهما بالريشة والألوان. إن الكتابة بالطريقتين معا تصدر عن أفق إبداعي واحد، وبالتالي فإن رهاني الإبداعي، كما تجسد في حقيبة "تضافر الألوان" يخطو باتجاه التمسك بنص تتألق فيه الكلمة واللون معا. فالشاعر والفنان التشكيلي، يقدمان الأحاسيس والأفكار في صور، كانت فكرة ارتباط الشعر بالرسم عن طريق تقديم المعنى مصورا سائدة منذ القدم، فسيمونديس الإغريقي الذي عاش قبل أرسطو قال (الشعر رسم ناطق، والرسم شعر صامت). يلتقي الفن التشكيلي والشعر في إعادة تشكيل الواقع من جديد ومحاولة تجاوزه، وفي تحسيس المفهوم ومحاولة تقديمه مشخصا، وتقديم النموذج الفني وتعميمه، لكن كل بحسب مادته التي تشكله. ومن خلال تلك المادة تأخذ الصورة في كلا الفنين خصوصيتها، فالصورة في الفن التشكيلي يصوغها الخط أو اللون أو المادة، أما الصورة الفنية في الشعر، فهي من إيحاء الكلمة التي تشكل عناصرها، فتأخذ بعد ذلك طريقها إلى المتلقي. يطرح مضمون "تضافر الألوان" سؤالا مهما، من يكمل الآخر، هل اللون هو من يفعل الكلمة، أو الشعر هو من يقوي التشكيل، أم أنهما يسيران في خطين متوازيين؟ إن الدمج بين الجنسين، لا يلغي التمايزات بين الشعر والتشكيل، وقوة التجربة تكمن في جعل المتلقي يستشعر عمق التجانس بين الكلمة واللون، حتى في ظل استمرار كل جنس محتفظا بخواصه وفعاليته الإبداعية. مارست الكتابة الشعرية منذ فترة مبكرة من حياتي، ودخلت عالم التشكيل بشكل احترافي منذ مدة ليست قصيرة، وطيلة مساري الإبداعي كنت حريصا على ألا يطغى أحدهما على الآخر، إلى أن توصلت إلى دمجهما معا لأن أي نص شعري جيد يحمل تعبيرا تشكيليا يوظف إيقاع العبارة، وأي لوحة تشكيلية هي قصيدة من لون وظل وخط. أيهما الأكثر حضورا في دواخلك الشاعر المهووس بالكلمة، أو الفنان التشكيلي المفتون باللون؟ هناك دائما حيز شاسع للون والكلمة، فأحيانا أتناسى أنني تشكيلي، فألوذ بالورقة والقلم لأقبض على بنات أفكاري، وأحيانا أتجاهل أنني شاعرا لألوذ بالريشة لأقبض على اللون والضوء، وفي كلتا الحالتين فالشاعر هو تشكيلي والعكس صحيح. هل صادفتك بعض المشاكل أثناء إنجاز الحقيبة؟ المشكل الوحيد الذي عانيته صعوبة الحصول على ناشر، فمشكل النشر يؤرق الكتاب، الناشرون يرفعون عقيرتهم بالشكوى، ويلاحظون أن ما ينفقونه لإصدار الكتب والمجلات الرفيعة يضيع جله ولا يدر ربحا، بينما تراهم يتهافتون على كتب الطبخ وما شاكلها، لأنها تنفد وتروج بكيفية تبعث على الدهشة والاستغراب. وهكذا فالأزمة ضاربة أطنابها والشكوى عامة متصلة من كل جانب. الواجب الأكيد المستعجل خلق انسجام بين القارئ والكاتب والفنان، فالمسؤولية تقع من دون جدل على الكاتب أولا، لأنه هو الذي يوجد القراء ويصنعهم، نظرا للدور الكبير الذي يستطيع القيام به في المجتمع. إنه من واجب الكاتب أو المبدع بصفة عامة الابتعاد عن التهريج الثقافي لأن حاجتنا ماسة إلى العمق في الثقافة وأصالة في المعرفة وصدق في التعبير ليأتي بإنتاج رفيع خليق بتوعية المجتمع وتعريفه بكل ما يدور حوله.