غريب كيف تؤثر الملابس في سلوكنا. فأنا عندما ألبس الجلباب أتصرف برصانة أكثر مما أكون لابسا سروال الجينز، والقاضي يحس بسلطته تتقوى بمجرد ارتداء وشاحه الأسود، والضابط يتكلم من خلال سلطة زيه العسكري، والطبيب يبدو أكثر هيبة تحت بذلته البيضاء، وحتى المهرج لا يستقيم له التهريج دون زيه المبهرج وأنفه الأحمر. لابسو العمائم والطرابيش وغيرها من أغطية الرؤوس، ليسوا بشواذ عن هذه القاعدة، فهم يتصرفون معها وفق ما ترمز إليه من قيمة ثقافية وتراثية، وما تحمله من رموز ودلالات وطنية. وأغطية الرؤوس، وإن كانت شائعة في مختلف الأمصار كجزء من الرداء اليومي يتيح استقراء التنوع العرقي والتدرج الطبقي داخل المجتمع الواحد، فإنها تختزل في فرنسا، بحكم الأجناس والألوان العديدة التي تعيش فوق ترابها (معدل 60 جنسية بكل مدينة)، كمّا هائلا من الطقوس والعادات التي تداولتها المجتمعات على امتداد العصور.. ففي أول لقاء لك مع باريس، ينتابك الشعور بأن عشرات المدن تحيى في قلب المدينة. مجتمعات تنطق بهويتها وخصائصها من خلال ما تحمله فوق رؤوسها، من إفريقيا بطواقيها الضاجة بالألوان الزاهية، إلى أمريكا بالطرابيش المكسيكية العريضة، وطرابيش رعاة البقر، مرورا بالهند بعماماتها الراجستانية، ومصر وبلاد الشام بلفات الرأس المختلفة، والمغرب برزاته وطواقيه الصغيرة، وما إلى ذلك من أجناس وألوان مختلفة حملت معها إلى باريس مكونات هويتها وثقافتها. فالبعض يرى في هذه الأغطية رمزا للأناقة والجمال، وآخرون يضعونها في صميم الهوية الدينية، فيما تتعامل معها بعض الشعوب لمجرد الاحتماء من البرد والحر، وتذهب شعوب أخرى إلى اعتبارها رمزا للشرف، مما يجعل التعامل معها أمرا حساسا للغاية.. ولفرط احترام العمامة وتجليلها في الكثير من الأوطان العربية، لما ترمز إليه من دلالات الشرف والوقار والفقه، فإن سقوطها بشكل متعمد يعتبر إهانة وإخلالا بالشرف. وكلنا يستحضر قصة الشيخ أحمد المقدودي، عالم أصول الفقه، الذي سقط من على جواده في بغداد، وتدحرجت رزته فصاح المارة "ارفعوا تاج الإسلام" دون أن يبالوا بشيخ الإسلام. ويرفض مغاربة فرنسا من أبناء الجيل الأول، التخلي عن رزاتهم البيضاء المسترسلة إلى حد الكتف، غير عابئين بانزعاج أبنائهم من مثل هذه الكُرات المستديرة فوق رؤوسهم، ويعتبرون التخلي عنها نوعا من التنكر للهوية المغربية، ثم ما العيب في ارتدائها ما دامت تقيهم من الحر والبرد معا، وتمكنهم من حفظ بعض الوثائق في ثناياها وحتى بعض الأوراق النقدية أحيانا. ويستشهد بعض العارفين بالمكانة المتميزة للرزة أو العمامة عند العرب، بما قال عنها اللسان العربي من أنها /مدفأة في القر ووقاية في الحر، وزيادة في القامة، وهي فوق ذلك تيجان العرب. ويصادفك في الأحياء الباريسية ذات الكثافة العربية والإفريقية، كمّ هائل من أغطية الرؤوس المختلفة، حيث تتجاور الرزة المغربية والطاقية المراكشية مع اللفة الجزائرية بألوانها الزاهية، والطربوش التونسي بعذبته المدلاة، والطاقية الإفريقية المخروطة الشكل، والعمامة الشامية ذات العشرة أمتار بدلالاتها الدينية والعلمية، من عمامة الشيخ الطهطاوي المسترخية إلى الخلف إلى عمامة أيمن الظواهري المشدودة على الوجه. وقد اكتشفت بعض دور الأزياء الفرنسية في أغطية الرؤوس منجما ذهبيا في مجال الأناقة النسائية والرجالية، وتفننت في طريقة التعامل مع إكسسوارات الرأس مستلهمة أفكارها من ثقافات وعادات غابرة. ومعرض "أغطية الرؤوس" الذي تقيمه المصممة العالمية ناتالي جونان بالمركز الثقافي المتوسطي بباريس إلى غاية 26 مارس الجاري، يتيح استقراء التنوع العرقي والثقافي للمجتمعات من خلال ما تحمله فوق رؤوسها. وتحاول جونان في كل معرض من المعارض التي أقامتها بالعديد من العواصم العالمية، السفر بجمهورها طورا إلى الحضارات الغابرة في المكسيك، وطورا إلى سواحل جزر الكرايبي، أو إلى عهد كليوبترا ومصر القديمة، لتنقل إليه من خلال أغطية الرؤوس، نماذج من حضارات مختلفة بعد أن أضفت عليها لمسة باريسية من حيث نوعية القماش وقوة الألوان. وتختزل القطع المعروضة حضارات مختلفة من خلال مجموعة من الكاسكيطات الأسترالية الصارخة الألوان، وطرابيش رعاة البقر المتأصلة في عادات المجتمع الأمريكي كرمز للجمال والقوة، قبل أن تتحول إلى رمز للأناقة الهوليودية، والطرابيش الكنائسية المزركشة السائدة في القرون الوسطى وعصر النهضة، وغير ذلك من أغطية الرؤوس المنتشرة في تركيا وآسيا وغرب أوربا. وتكشف جونان أنها لم تقع بعد في سحر العمامة رغم ما كان لهذا الإكسسوار من صيت كبير في الأوساط الأوربية والأمريكية خلال الخمسينات والستينات، حيث زيّن عددا من رؤوس نجمات هوليود وهن في عز شبابهن، وخاصة إليزابيت تايلور في فيلم "أربعاء الرماد" سنة 1973. وحتى لو كانت بعض أغطية الرؤوس تعرف اليوم بعض التراجع أو الانقراض، بسبب عدم تناغمها مع الأنماط المظهرية الجديدة، فإن الكثير منها سيظل شاهدا وحاميا للهوية الثقافية للمجتمعات، حتى وإن صدق المثل الفرنسي : " الرأس بما يحمله، لا بما يُحمل عليه".