التوتر الديبلوماسي الذي يشهد منذ قرابة الشهر بين الجارين المغرب و الجزائر حلقة جديدة من فصول تصعيده الاعتيادي و المألوف لا يعني واقع القطيعة النهائية بالمرة في مسار العلاقات الثنائية بين البلدين و المحكومة بوتيرة الأزمات الطارئة و المتجددة عبر العديد من المحطات التي تعلو خلالها بمنطق فجائي حرب البلاغات و الاتهامات المتبادلة ، ثم سرعان ما تخبو حدة الحرب الكلامية و السجالات الاعلامية لتترك المجال لمجالس التنسيق و إتفاقات التعاون . حسابات الساسة بالبلدين و مزاجهم المتعكر و سجالاتهم السياسية المتجددة لا تلغي في نفس الوقت واقعا آخر مفروضا على مسؤولي البلدين المدعوين في أكثر من مناسبة الى وضع قاموس التجريح و التجريح المضاد جانبا و الانهماك للتعاون و التنسيق في قضايا كبرى تفرضها غالبا أجندات قوى إقليمية و دولية أكثر تأثيرا و نفوذا من مجرد فلتات لسان عابرة . حينما احتضنت الرباط قبل أسبوعين المؤتمر الوزاري الاقليمي الثاني حول أمن الحدود، بمشاركة وزراء الخارجية والوزراء المسؤولين عن الأمن في دول شمال إفريقيا وفضاء الساحل والصحراء ومناطق الجوار وممثلي الشركاء الإقليميين والدوليين، بما فيهم دول غرب أوروبا و الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا بالاضافة الى منظمة الأممالمتحدة، و حلف شمال الأطلسي، إنتبه المشاركون الى أن الجزائر التي خفضت تمثيليتها بالمؤتمر المذكور الى مستوى ديبلوماسي متدني كانت من أكثر الوفود حماسة لتنزيل مقتضيات "خطة عمل طرابلس_، بغية تعزيز مراقبة الحدود في منطقة شمال إفريقيا وفضاء الساحل والصحراء وتأمينها، وتوطيد الحوار والتشاور بين دول المنطقة والشركاء الدوليين وتطوير التعاون العملياتي في المجال الأمني لمحاربة الإرهاب، والجريمة المنظمة، بما في ذلك تهريب الأسلحة والمخدرات، والهجرة غير الشرعية. الرباط التقطت حينها مؤشرات الحماسة الجزائرية و فككت ألغاز الورطة الأمنية للجار الشرقي الذي يعيش تهديدا إرهابيا رهيبا بلغ مستوى فرض على حكام الجزائر إغلاق أغلبية حدود بلادهم البرية و التقوقع في شرنقة أمنية خانقة لا يجدون في الظرف الراهن منفذا للتخلص منها . الخارجية المغربية تنبهت لتداعيات الوضع الأمني المهتز الذي يحاصر الجزائر و إنتهزت الفرصة المواتية للتأكيد على أهمية التعاون بين الدول المغاربية لمواجهة التحدي الأمني في المنطقة خاصة في ظل الظروف الصعبة التي تمر منها ليبيا . ورقة ليبيا التي وظفتها الرباط تعني الكثير بالنسبة للجزائر التي أوقفت قبل أيام تنسيقها الأمني مع حكام طرابلس في سياق عجز " الثوار السابقين " عن فرض الهيبة الأمنية بداخل ليبيا نفسها فبالأحرى تأمين الحدود البرية الطويلة المشتركة مع الجزائريين ضد التسلل الارهابي الذي أضحى واقعا تكتوي بتبعاته الجزائر و يزيد من متاعبها الأمنية و السياسية الداخلية . حينما غامرت قبل أيام أطراف داخل هرم السلطة الجزائرية بتسويق إشاعة تورط المخابرات المغربية في تجنيد خلايا قتالية من داخل التراب الليبي و تأليبها لضرب إستقرار دول المنطقة فإنها كانت تروم الى تقويض أي تقارب أمني بين طرابلس و الرباط على حساب الجزائر التي إختارت طواعية و عمدا خيار القطيعة مع حكام طرابلس و في نفس الوقت سعت الأطراف ذاتها الى توريط كل من واشنطن الوصية على الحرب العالمية ضد الارهاب و معها الاتحاد الأوروبي الذي تمتد جذور مصالحه الأمنية الى منطقة شمال إفريقيا . الرد الأمريكي لم يتأخركثيرا و موقف البيت الأبيض الذي غازل قبل أيام المغرب ،و أشاد به كحليف إستراتيجي تم تسييجه بالكثير من الشروط التي تصب حتما ضمن القراءة المصلحية لحكام الجزائر . واشنطن ضغطت و دفعت الرباط و الجزائر الى المزيد من التنسيق الأمني لمواجهة المد الارهابي المتنامي بدول الساحل و باريس التي تخوض منذ أشهر حربا ميدانية ضد فلول القاعدة بالساحل الافريقي و بقدر ما تضايق الجزائر في عقر دارها حين تخوض حروبا مكلفة غير بعيد من حدودها الجنوبية مقتنعة بدورها أن مسار الحرب ضد الجماعات الجهادية المتطرفة لن تكتمل نتائجه إلا إذا باركته و إنخرطت فيه الرباط بكفاءتها الاستخباراتية الطويلة و نفوذها الروحي و الاقتصادي المميز بدول الساحل الافريقي و الجزائر أيضا بجيشها المتمرس و قدراتها الهجومية الكبيرة . الضغط الأمريكي و الأوروبي سيجبر بالضرورة المغرب على تطمين الجارة الشرقية بإمكانية التنفيس عن عزلتها الحدودية عبر المنفذ المغربي على الرغم من أن حكام الجزائر يتعنتون في فتح حدودهم البرية مع المملكة و في المقابل ستخسر الجزائر ظرفيا كل الأوراق الديبلوماسية و السياسية التي وظفتها بسبق إصرار و ترصد لمحاصرة المغرب و عزله إقليميا عن المجهود المبذول لمكافحة الارهاب . عمليا الرباط أصبحت فاعلا إقليميا أساسيا في حرب العالم الغربي ضد الارهاب و الجزائر لا يمكنها تعديل أو تغيير هذا المعطى الذي يصب في مصلحة الرباط الاستراتيجية لأن هذا الدور المكتسب بضغط من واشنطن و معها بروكسيل يعني بالضرورة أن ملف النزاع المصطنع بالصحراء سيذوب تدريجيا في مستنقع رمال الأجندة الأمريكية و الأوروبية تجاه المنطقة ككل و لن تستطيع الجزائر بكل إمكانياتها و حملاتها أن تغير من هذا الواقع المفروض بل ستضطر إضطرارا الى التعايش معه و من هنا يمكن لنا فهم مغزى كل المناورات و المخططات التي بادرت بها الجزائر خلال الأسابيع الأخيرة ضد المصالح المغربية و التي كان الهدف الرئيسي منها تدويل نزاع الصحراء تحسبا للمنطق الدولي الجديد الذي سيتجه بدون شك الى شخصنة هذا الصراع المفتعل و تفريغه في قالبه الحقيقي أي قضية ثنائية بين الرباط و الجزائر تعالج في آخر المطاف بين الرباط و الجزائر بمباركة غربية و حتى أممية .