قليلة هي الدول في العالم التي يعاني فيها طلاب العلم ما يعانيه طلبته في المغرب، وقليلة هي المدن التي تُورد طلاّبها السعير كما تفعل الرباط في من تيمّموا شَطرها سعيا وراء المعرفة والتحصيل، ونادرة هي العواصم التي تضيع فيها عصمة الطلبة وعصاميتهم كما يحدث في عاصمة العلم لدينا المسماة ترفا "العرفان".. وكان حريا أن تسمى مسلخ الخرفان أو الجحيم حيث تلظّى بالطلبة النيران.. ! ولأن الشيء بالشيء يُذكر، وحتى لا يكون كلامنا إفكا يُفترى، سأقص عليكم من نبإ بعض الذين جاؤوا إلى الرباط والفرحة بنيلهم الباكالوريا بالميزات وولوجهم تلك المدرسة العليا أو هذه الكلية المثلى، تسبقهم بزفها إلى الأهل والخلان والعشيرة والجيران الركبان، فلما أتوها في مثل موسم الدخول الجامعي الذي نستقبله، وقفوا على الخيبة في دروب العرفان وصعقوا بحقيقة الوضع القاتمة التي جاءهم الكابوس الجامعي يحملها. من هؤلاء، "يوسف" الذي لم يحالفه الحظ لينعم بالطفرة الكبرى والبشارة العظمى التي حملها الوافد الجديد (ترامواي الرباط - سلا) لطلبة سلا النائمة وراء النهر في تقريب أسفارهم إلى حيث استقرت مدينة العرفان في أعلى العاصمة. التحقت الشاب ذي 19 سنة بعدما حصل على شهادة الباكالوريا بكلية العلوم، وكان أول من يلتحق بالجامعة من أبناء أسرته البسيطة بساطة أغلب الأسر المغربية التي تكد بالنهار لتنفق ما جنته بالليل.. لينقطع "يوسف" عن الدراسة بعد أشهر قليلة لسبب قد يبدو هينا وهو عند من عرف معنى الفقر عظيم ! لم يكن في مقدوره أن يوفر ثمن التنقل والغذاء يوميا لقطع 14 كلم التي تفصل محل سكناه في سلا عن مدينة العرفان في حي السويسي الذي لم يزره قط قبل ذلك العام، حيث توجد الكلية التي يتطلب بلوغها استقلال حافلتين في الذهاب ومثلهما في الإياب..، أستشعر غصة في قلبه تأبى أن تنهضم حتى اليوم وقد مرت سنوات، كلما تذكر تلك الظروف الحالكة التي منعته من تحقيقه حلم إتمام دراسته، وهو الحاصل على نقطة 20/20 في الرياضيات في الامتحان الوطني للباكالوريا،.. قد يقول قائل إن ذلك كان في الماضي وإن الأوضاع مع مقدم لحسن الداودي وزير العدالة والتنمية المشرف على القطاع قد تحسنت، أقول لا وربك إن دار العرفان مازالت على حالها، وإني لأعايش إلى يوم الناس هذا، حالات لا حصر لها لطلبة يعانون منذ العام والعامين والثلاثة مرارة انتظار دورهم الذي لا يأتي أبدا في الاستفادة من السكن الجامعي.. "اليوسفان" طالبان جمع بينهما اسم يوسف، وقد جاء أحدهما من أقصى الشمال طنجة والآخر جاء من أقصى الجنوب أكادير، يدرسان الآن في سنتهما الثانية بأحد المعاهد العليا وسط مدينة العرفان، التي منذ وصلاها وهما يكدان ويشقيان لنيل حقهما في سريرين يؤويانهما في الحي الجامعي عبثا.. مرت سنة وهاهما اليوم مقبلان على سنة أخرى ولا جديد تحت شمس حلقات معاناتهما المسترسلة مع التنقل (من دار عمتي لدار خالتي..) وقرع أبواب المسؤولين دون طائل.. إن الجديد الوحيد، الفريد والأكيد، الذي جاء به السيد لحسن الداودي، الذي تغنت به جريدة المصباح وسارت مثيرة بفتوحاتها المنتظرة للتعليم العالي الركبان، في نظر هؤلاء وغيرهما كثير، هو أن جعل سيادته للاستفادة من السكن الجامعي بالسويسي -الذي ظلت أبوابه موصدة لما يربو عن العام بعدما "هُجر قاطنوه من الطلبة ولم تبق فيه إلا الجرذان"- لائحة من الوثائق المطلوبة تبدأ بشهادة الحياة الجماعية للطالب ولا يعرف أين تنتهي لطولها... وأصحاب الأسرة والغرف معروفون مسبقا! وكل من مر بالدراسة في مدينة العرفان من الطلبة يعرف من أقصد، من بنات الليل اللائي ما هن بطالبات ولا بمتدربات، ومن عتاة مناطق معينة من المملكة الذين لم تطأ أقدامهم قاعة الدراسة منذ حلول بمدينة العرفان، ومن الذين استباحوا حرمة الحي بجلب الخمور والعاهرات وإحياء الليالي الحمراء، ومن الذين يعيثون فسادا في الحي بنهب الغرف وترويع قاطنيها.. ! ذلك وجه من وجوه ما يخفيه الدخول الجامعي للطلبة في بلادنا والعاصمة فيه نموذجا، وتلك نقطة غيض من فيض قصص المعاناة والألم التي عاينتها خلال 6 سنوات خلين.. فأفلا يستحق الدخول الجامعي لقب الكابوس الجامعي بجدارة واستحقاق دونما مراء ولا نفاق ؟!