صدر بداية شهر يناير 1998 في الغرب كتاب بعنوان "تاريخ الجاسوسية العالمية" من تأليف جينو ابيتيان، كلود مونيكيه جاء فيه: في المكاتب السرية للدول ودهاليزها، يلعب التجسس، منذ قديم العهود، دوراً مهماً ورئيسياً، إلا أن حرب الجواسيس لا تزال غير معروفة على النحو المطلوب. فهي حرب تسحر المخيلة وتثير الإعجاب، لما فيها من بحث دائم عن الخبر القيم والمعلومة الحساسة، ولما فيها من حبك للمؤامرات، وسعي حثيث للتضليل وإيقاع الخصم في الخديعة. تُعدّ الجاسوسية مهنة من أقدم المهن التي مارسها الإنسان داخل مجتمعات البشرية المنظمة منذ فجر الخليقة .. وقد مثلت ممارستها بالنسبة له ضرورة ملحة تدفعه إليها غريزته الفطرية للحصول على المعرفة ومحاولة استقراء المجهول وكشف أسراره التي قد تشكل خطراً يترصد به في المستقبل .. ولذلك تنوعت طرق التجسس ووسائله بدءاً من الاعتماد على الحواس المجردة، والحيل البدائية، والتقديرات التخمينية، والانتهاء بالثورة التكنولوجية في ميدان الاتصالات والمعلومات.. وعلى مر العصور ظهر ملايين من الجواسيس، لكن قلة منهم هم الذين استطاعوا أن يحفروا أسماءهم في ذاكرة التاريخ، بما تمتعوا من سمات شخصية فريدة أهلتهم لأن يلعبوا أدواراً بالغة التأثير في حياة العديد من الأمم والشعوب.. وهنا في هذا القسم سنستعرض لكم أحداث لم يعرفها أكثركم من قبل .. والتي ستمضون في مغامراتها المثيرة والممتعة عبر دهاليزها الغامضة، لتتعرفوا على أدق التفاصيل والاسرار في حياة أشهر الجواسيس والخونة من خلال العمليات التي قاموا بها. وجاء هذا الكتاب ليسرد لنا تاريخ الجاسوسية منذ العصور القديمة وحتى يومنا هذا، فهو يحدثنا عن نشاط الجاسوسية، أحد أقدم مهنة في العالم، وأكثرها غموضاً، منذ رمسيس الثاني، وحتى بداية القرن الحالي، مروراً بالعهد الوسيط وعصر النهضة والعصر الحديث، واقفاً مطولاً أمام قصص الجاسوسية في خلال الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية وما بينهما، ومتحدثاً عن النشاط الجاسوسي في الحرب الباردة واحتواءاتها، دون أن ينسى الجاسوسية الاقتصادية التي بدعت فيها اليابان في الحقبة الأخيرة من القرن العشرين، الكتاب يعرض علينا حقائق مختلفة، ويسرد وقائع خفية قامت بها الاستخبارات السرية منذ وجودها في سحيق الأزمان وحتى وقتنا الحاضر. إذ نقرأ فيه قصصاً للجاسوسية مثيرة مثل مغامرات "ديون" في البلاط الروسي، وقصة مدير الشرطة برلين القضائية مع كارل ماركس، وقضية الضابط الفرنسي "دريفوس" المتهم بالجاسوسية لصالح ألمانيا (1894-1906)، وقصة الجاسوس البريطاني "لورانس" ومغامراته في بلاد العرب، وقضية "توخاتشيفسكي". الماريشال السوفياتي الذي استطاعت الاستخبارات الألمانية الإطاحة به بوساطة دسيسة ماهرة في فترة ما بين الحربين العالميتين، وقضية الجاسوس السوفياتي "ريتشارد سورجية" الذي أعدم في سنة 1944، وأخيراً قضية الجاسوس الإسرائيلي "إيلي كوهين" الذي نال مصيره على الرغم من محاولاته التضليلية وغير ذلك من القضايا المثيرة، والغامضة أحياناً، التي تشد القارئ إليها وتثير اهتمامه. ويعرض علينا هذا الكتاب أيضاً تطورات مهنة الجاسوسية والمراحل التي مرت بها في تاريخها الطويل. ونستطيع القول إن التجسس أصبح اليوم "شاملاً" أي عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وعلمياً، كما أصبح مطالباً بمطاردة أشكال الجريمة مستخدماً أحدث الوسائل التقنية وحتى الأقمار الصناعية والانترنيت. أول عملية تجسس في التاريخ: مارس الإنسان التجسس منذ فجر الخليقة .. استخدمه في الاستدلال على أماكن الصيد الوفير، والثمر الكثير، والماء الغزير، والمأوى الأمين، الذي يحميه من عوادي الطبيعة والوحوش والبشر، وتختلف شدة ممارسة التجسس بين مجتمع وآخر حسب نوع الأعراف والتقاليد، والعادات السائدة، فنراه على سبيل المثال سمة ثابتة عند اليابانيين، حتى أن الجار يتجسس على جاره بلا حرج، فالتجسس جزء من حياتهم العادية داخل وخارج بلادهم، كما أن الشعب الياباني يؤمن بأن العمل في مجال المخابرات خدمة نبيلة، في حين أن معظم شعوب العالم تعاف هذه المهنة، التي لا غنى عنها في الدولة المعاصرة، حتى تقوم بمسئولياتها. فلا يكفي أن تكون الدولة كاملة الاستعداد للحرب في وقت السلم، بل لابد لها من معلومات سريعة كافية لتحمي نفسها، وتحقق أهدافها في المعترك الدولي. لقد أصبح جهاز المخابرات هو الضمان الأساسي للاستقلال الوطني، كما أن غياب جهاز مخابرات قوي يمنى القوات العسكرية بالفشل في الحصول على إنذار سريع، كما أن اختراق الجواسيس لصفوف العدو يسهل هزيمته. ولعل هذه الغاية هي التي أوعزت إلى الملك تحتمس الثالث فرعون مصر بتنظيم أول جهاز منظم للمخابرات عرفه العالم. طال حصار جيش تحتمس الثالث لمدينة يافا ولم تستسلم ! عبثا حاول فتح ثغرة في الأسوار .. وخطرت له فكرة إدخال فرقة من جنده إلى المدينة المحاصرة، يشيعون فيها الفوضى والارتباك، ويفتحون ما يمكنهم من أبواب.. لكن كيف يدخل جنده؟. إهتدى إلى فكرة عجيبة ، شرحها لأحد ضباطه واسمه توت، فأعد 200 جندي داخل أكياس الدقيق، وشحنها على ظهر سفينة اتجهت بالجند وقائدهم إلى ميناء يافا التي حاصرتها الجيوش المصرية، وهناك تمكنوا من دخول المدينة وتسليمها إلى المحاصرين.. وبدأ منذ ذلك الوقت تنظيم إدارات المخابرات في مصر والعالم كله. ويذكر المؤرخون أن سجلات قدماء المصريين تشير إلى قيامهم بأعمال عظيمة في مجال المخابرات، لكنها تعرضت للضعف في بعض العهود، كما حدث في عهد منفتاح وإلا لما حدث رحيل اليهود من مصر في غفلة من فرعون. وتجدر الإشارة إلى أن تحتمس الثالث غير فخور بأنه رائد الجاسوسية، فكان يشعر دائماً بقدر من الضعة في التجسس والتلصص ولو على الأعداء، وكأنه كان يعتبره ترصداً في الظلام أو طعناً في الظهر، ولو كان ضد الأعداء، مما جعله يسجل بخط هيروغليفي واضح على جدران المعابد والآثار التي تركها – كل أعماله، من بناء المدن، ومخازن الغلال للشعب، وحروبه، أما إنشاء المخابرات فقد أمر بكتابته بخط ثانوي، وأخفاه تحت اسم العلم السري مفضلاً أن يذكره التاريخ بمنجزاته العمرانية والحربية والإدارية، وما أداه من أجل رفاهية شعبه، دون الإشارة إلى براعته في وضع أسس الجاسوسية. غدا كيم فيلبي الجاسوس الذي خان أجيالاً ...