للهجرات، للخروج، للتيه، ذاكرة كما لها تاريخ مُعَمَّدَانِ بالمواجع والآلام، مثلما هما ممهوران بالانتصارات والأفراح، ذلك أن مصائب قوم عند قوم فوائد، وصليب شعب لدى شعب، ارتقاء ذروة ولو على جماجمه، وَكَوْم عظامه. ولنا في التيه البابلي كما في الخروج الأقوامي المتعدد، والتهجير القسري للأنبياء والرسل، والقديسين، والصالحين، بله لشعب بأكمله كما هي حال الشعب الفلسطيني؛ لنا في كل هذا دعامة وتثبيت لقولنا. إن الاقتلاع بما هو ظلم فادح وامتهان قاس وسرقة موصوفة، يستدعي، بداهة، الاستيطان، بمعنى أنه يضع شعبا مكان شعب، وتاريخا معجونا في الخرافة؛ مكان تاريخ موشوم في قرارة الحضارة الأوغاريتية / الكنعانية التي سبقت التوراة ومستتبعاته بما ينوف على خمسة عشر قرنا. وَهَاهُمْ أولاء أحفاد «يشوع بن نون»، قد حققوا للخرافة موطنا، على أرض قيل إنهم وُعِدُوا بها، وقيل، في أكبر أكذوبة عرفها القرن الماضي، أنها أرض خلاء، فلا مناص لشعب يشوع- إسرائيل منها، هو الذي عاش التيه عبر الصحارى، والفيافي والقرون، على أساس من هذه الفرية الظالمة: «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» «لإسرائيل زَانَغْويْل». زَحَفَ شَتَاتٌ لَمْلَمَ أطرافه من زوايا المعمور، على شعب كان ينعم في أرضه فلسطين التاريخية، مستقرا، هنيء البال، زاحمه في البداية وضايقه، ثم طبق بعدئد بنود المؤامرة مستقويا بالغرب، وبِتُرَّهَات مفكرين، وشعراء غربيين مأخوذين بزخرف الأكاذيب وبؤس حال اليهود. ولعل بند الترحيل والتهجير عبر التخويف والتقتيل، أن يكون على رأس باقي بنود السرقة والاغتصاب. كتب «يوسف فايتس» رئيس لجنة الترحيل قائلا: «الترحيل هو الحل يجب أن يكون واضحا أنه ليس من مساحة في هذا البلد تكفي شعبين، فإذا غادر العرب سيصبح البلد رحبا ويتسع لنا». سيكون إذن العام 1948 عاما أسود بكل المقاييس، عام الازورار العالمي عن حق شعب في العيش ضمن جغرافيته وتاريخه. كما سيسجل التاريخ الحديث انتصار الأسطورة على الواقع، وانتصار الخرافة المزخرفة على الأسانيد التاريخية البيضاء من كل سوء ! صحيح أن شعراء ما قبل النكبة، حذروا من عواصف آتية، وَلُؤْمٍ ذئبي يتلامع في آخر الدَّغْل بناء على معطيات واقعية شهدها القرن العشرون، سواء من خلال الهجرات اليهودية المتعاقبة إلى فلسطين، أو من خلال السكوت، بل التواطؤ العربي مع الغرب المتصهين، ومع جمعيات يهودية لبست صوف الحملان. هكذا وفي مثل الدوخة أو السرنمة، ضاع ثلثا الأرض، وطوح بالسكان إلى النسيان. ومعلوم أن عام الطرد والفقد اصطلح عليه بعام الخروج، قياسا إلى خروجات أخرى عرفتها شعوب كما عرفها أفراد. ولا مشاحة في أن الشعر الذي رسم نُذُرًا، وَصَوَّرَ غيوما غائلة قادمة، في ما قبل، انبرى، مجددا، واصفا ومصورا وكاتبا بالجملة، سيرة ذاتية جماعية للنكبة، مستدعيا مراياها المتعددة، ومستبطنا لوعتها وجراحات شعب مقتلع ومنذور للخلاء والبرد والجوع، والمخيمات. فكأن لسان حال الفلسطينيين الخارجين من الأندلس هو لسان حال «إرميا» النبي في مراثيه باسم يهود العهد القديم : «اذكر يا رب ماذا صار لنا، أشرف وانظر إلى عارنا، قد صار ميراثنا للغرباء، بيوتنا للأجانب، صرنا أيتاما بلا أب، أمهاتنا كأرامل. أخذوا الشبان للطحن، والصبيان عثروا تحت الحطب، مضى فرح قلبنا، صار رقصنا نَوْحا، سقط إكليل رأسنا». لم يكن هذا الخروج الأليم الذي عرش وتسرطن إلى اليوم، إلا نتيجة حتمية للتواطؤ الدولي، وللهزيمة العربية. وعندما تم بأعتى الوسائل مكرا و ذئبية، أمكن للمشروع الصهيوني أن يتبلور، ويستتب على أرض فلسطين. فشرط المضي في تصريف الفعل الصهيوني في الحضور والوجود، متصل عضويا بشرط إعطاب الفعل العربي أساسا، ومحو الصوت الفلسطيني بإبعاده إلى الشتات، أي إحلال دياسبورا جديدة مكان دياسبورا عتيقة وممتدة. كما لو أن جريرة الفلسطيني هي انوجاده بأرض نسجت حولها التوراة في أكثر مدوناتها تعديلا أو تحريفا، خرافة تَقِدْمَتِهَا لليهودي القادم من تيه صحراوي، وتيه بابلي. إنها سخرية أقدار، ووجيع مفارقات، ونكد دنيا بتعبير المتنبي، أن يجد المرء نفسه خارج أرضه من دون اشتهاء، ولا اضطرار، ولا جرم أتاه. من هنا، تم تسويغ المقاومة والنضال ميدانيا، والكتابة الإبداعية وجدانيا التي تشرنقت ?بالأساس- في بداياتها حول التذكير بهوية أَ رْض، وهوية شعب . لقد وُصِفَ الخروج الأول كما الخروج الثاني (1) بأنه فَقْدٌ وسرقة، وظلم فادح لا شبيه له في التاريخ ، فالآلام المسطورة في المتن الشعري الفلسطيني الذي أعقب النكبة، كانت مغموسة في الجرح العاري، مخلوطة بالأمل الديني في الجهاد والحض على الاتحاد والاستشهاد، والحلم بالعودة القريبة، والوطن المتلألئ القباب المرئي على مرمى حجر. غير أن الشعراء المعاصرين أدركوا ?وخصوصا بعد العام 1967- أن العودة صارت إلى المحال، وأن الحلم الذي رَصَّعَ ركام القصائد فلسطينيا، وعربيا، شطبته سكاكين الواقع العربي الذي آل إلى الخنوع، والاستسلام. ومع ذلك، تبلور التعبير شعريا عن هذا الحلم بجرعات زائدة من الفطنة، والوعي، والإدراك. ما نعنيه بهذا الكلام، هو أن الشعراء وفي طليعتهم محمود درويش وسميح القاسم، وعز الدين المناصرة، راحوا يستلهمون الصبر والأمل، والحق في العودة من دم الشبان والشواب الأبرار، ومن أصدقاء السلام في العالم، ومن نضالات شعوب نالت استقلالها حديثا، وشعراء ترنموا بأغاني الحرية والمقاومة، من أجل إقامة سلام عادل على الأرض، وتشييد مجتمع ينعم بالديمقراطية والتعايش والتساكن بين الشعوب، كما هو الشأن في حالة الفلسطينيين، والإسرائيليين. من أجل هذا وقع الشاعر الفلسطيني، «عز الدين المناصرة» عشرات النصوص، واصفا الفقد الفاجع، والخروج المرير، راسما عنفوان احتضان الأرض وأشيائها، في شعريته، وفي واعية، وذاكرة الأوديسيين الفلسطينيين الجدد، ومذكرا ?كحال زملائه- بين الفينة والأخرى، سبب الهزيمة والسقوط . ها هو ذا يتقدم صارخا في البرية مثلما صرخ جده امرؤ القيس، بل إنه يَلْبَسُهُ وَيُعَصْرِنُه: (ضاع ملكي في ذرى رأس المجيمر ضاع ملكي وأنا في بلاد الروم، أمشي، أتعثر من ترى منكم يغيث الملك الضليل في ليل العويل). يستقوي الشاعر بالتذكار رغم أنه في حِلّ منه، ليري العالم حقا مضاعا، بل مسروقا. ومن ثمة، ينسج أواصر قربى، ووشائج وَصْل واتصال بالتاريخ بوصفه القاع الهوياتي، والجذع الذي يستند إلى جذور ضاربة، ومتعشقة في ذرات التراب والماء والعناصر، أي في الجغرافيا كما طَوَّبَهَا وشيدها أسلاف وبناؤون. ومن جهة أخرى، يستقوي فنيا وجماليا بما يُضَمِّنُهُ من أبيات، أو نتف شعرية قديمة مُسَوِّغُها أنها ذات عُلْقةَ وامتزاج بالرؤية الدرامية، والسيرة الشعرية زَمَكَانيا : (كنا نُنَثْوِرُ خبزنا الطاغي لكل الكائنات كنا جبالا راسيات سرنا إلى البعيد يحثنا الركب وتركنا ربعكم الحنون حتى إذا وصل المغني في تقاطيع الغيوم شُفْنَا نجوم القدس مسبلة العيون وَتَلَفَّتَ القَلْبُ). - إشارة : يذكر أن الخروج الثاني كان العام 1982، وهو خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت على متون البواخر متعددة الأجناس..