يسبقني بصري إلى هناك... يتمرد علي، ويعصى رغبتي. ينفلت مني متحررا من الرقابة التي أحاول أن أفرضها على حركاتي وسكناتي. يسبقني ليقرأ كتابا حالكا مؤلما، كتب بالدم والدموع على جراح نازفة أوندوب قديمة. ربما لم يقرأ بعد، كتب ليطوى فقط، وتطوى معه حكايات وأخبار وأسماء ومسرات ومحن. هكذا هي النهايات، مفاجئة دائما، حزينة دائما، لا تعد بشيء ولا تنتظر أحدا. مسرعة ومتوترة لا تلتفت خلفها،ولا تمشي على قدمين. يسبقني إلى فاكهة الغياب وقد أنضجها اللظى... أفتح نافذة سادرة في العلو، وأسند مرفقي إلى إطار خشبي مطلي بأزرق فاتح كأنه قطعة من سماء خريفية تشي ببذخ مطر وشيك.أميل برأسي إلى الأمام، إلى فراغ ممتلئ بالحسرة،متحررا من عتمة الغرفة ورطوبتها، متعطشا لهواء الشارع وأضوائه وفوضاه.يتركني بصري ويسبقني إلى هناك. إلى تل أسود وحجارة مقدسة لم تسمح إجراءات البحث والتحقيق الطويلة، بإزاحتها من المكان. أجدني أتأمل المشهد ساهما، مستسلما لعجزي، فاحصا بعينين منكسرتين، أنقاضه وجدرانه المتفحمة ورماده الهائل. كأنني أراه لأول مرة، رغم أنني أجاوره، أو يجاورني على الأصح، وهو على هذه الحال، شهرا كاملا. وفي كل مرة، أحاول أن أتجاهله وأتخلص من أسره، وأبحث لبصري عن مستقر آخر غيره، يريحني من ألم الذكرى وكآبة الرماد والأنقاض... فأعجز وأستسلم لسطوته علي وجاذبيته لي. أوووف... لماذا يسير كل شيء إلى ضده؟ لماذا تمضي الحياة إلى نقيضها الموت، والنور إلى الظلمة، والمباهج إلى الأحزان، والأبيض إلى الأسود، والعمران إلى خراب...وهذا المكان لماذا سار إلى نقيضه، أولماذا قفز إلى ضده بسرعة الضوء الفائقة؟ كان عالما مستقلا بذاته وأضوائه ورواده وصخبه وبذخه، ثم صار لهبا ونارا أعقبتهما كومة أنقاض ورماد وسكون مفعم بالكآبة وألوان الحداد. مقهى ميموزا في شارع النصر... يهبط الليل على مهل ليأخذ مكانه في الرصيف بين الكراسي والطاولات وفناجين القهوة ووجوه الزبائن. يمتلئ عن آخره بالثرثرة وأدخنة السجائر وروائح النميمة. الحاج الغالي في ركنه المفضل على يمين الرصيف، يسوي طربوشه الأحمر فوق رأسه الأصلع، ويدفع قدميه الصغيرتين في بلغته الصفراء. يوزع ابتساماته على أصدقائه التجار ويراقب حركات العمال والندل. أذن عليها الحق. قالها وصوت المؤذن يرتفع من صومعة مسجد السنة داعيا لصلاة العشاء. ودعهم وشق طريقه صوب المسجد حريصا على موضعه في الصف الأول، خلف الإمام مباشرة. لم يبتعد كثيرا عندما ارتجت الأرض وحدث الانفجار العظيم وولد الكون من عدم. من دخان أو من سديم أو ذرات أو غبار... رأى الحياة تطل بوجه عبوس على مهل، الكواكب والمجرات والنجوم تسابقه في الطريق. دمار شامل وحريق هائل يوقفان تدفق الزمن القديم، ويعلنان ميلاد زمن جديد... زمن رهيب. تسمر الحاج في مكانه. أحس برجة قوية تحت قدميه. سقط الطربوش الأحمر وطارت البلغة الصفراء من قدميه وتناثرت حبات السبحة من بين أصابعه. مقهى ميموزا يشتعل أمام عينيه المفزوعتين. طاولات وجثث ارتفعت عاليا في السماء ثم سقطت شظايا وأشلاء وشهبا. مقهى ميموزا في قارة بعيدة، ومسجد السنة في جزيرة معزولة والكرة الأرضية تأخذ شكلها البيضوي بالتدريج. تنمو الجبال والسهول والوديان هنا وهناك. لكن الناس لم يأخذوا أشكالهم وأسماءهم وألوانهم بعد. ما زالوا في رحم الغيب لم تتشكل هوياتهم ولم تكتب أقدارهم ومصائرهم. الحاج الغالي وحيد في مكانه. يبحث عن بلغته وطربوشه. يتلمس طريقه نحو المسجد، يقوده صوت المؤذن. ارتفعت حرارة الجو، وكاد الهواء يختفي. اختفى الشارع أيضا، شارع النصر، وهذا المكان أمامه بلا ملامح. خيوط دخان صغيرة تصعد من الأرض وغيوم في السماء. شبه ضوء وشبه عتمة لا تشي بليل أو نهار. هواء حجري ثقيل يشق الصدر ويذبح الحنجرة. صمت هامس وهمس كأنه الصراخ، وصداع حاد في رأس الحاج. سؤال يجرحه ويدوخه: هل أنا حي؟ تجيبه إغماءة مفاجئة. يرى نفسه مدثرا بالبياض فوق فراشة لا تكف عن التحليق. يد تفتح أزرار جلابيته، صوت الحاجة يهمس في أذنيه. صوت المؤذن يرتفع من صومعة مسجد السنة. أذن عليها الحق، يقول لأصدقائه. يودعهم ويختفي في الضباب. يشاهد ميلاد الخلق والخليقة. يشاهد الخطيئة الأولى، كيف خرجت الحياة من دخان ودمار، وكيف صار بلا طربوش وبلا بلغة... أسند مرفقي إلى إطار النافذة الخشبي وأستقبل رطوبة البحر وفوضى الشارع في الأسفل. سيارات مجنونة تهرب من خطر وشيك، أو تلحق به. أطفال يصدرون صيحات نزقة، يقذفون الكرة والحجارة غير آبهين بالمارين جنبهم. نسوة يتشاجرن، شيوخ يفترشون التراب قرب كلاب مريضة، شباب يأخذون مواقعهم تحت أعمدة الكهرباء استعدادا لسهر طويل... يعود بصري إلى حيث سبقني قبل قليل. أسأل نفسي: لماذا لا ينهض مقهى ميموزا من رماده؟ يجيبني صوت الحاج قادما من خلف السحب: لأن الخرافة ماتت من زمن بعيد. أحنيت رأسي وهبطت الأدراج مسرعا. خرجت لألبي صوت المؤذن. جلست في الصف الأول خلف الإمام مباشرة. وجدت الحاج الغالي في انتظاري. حياني بابتسامة قبل أن يمد إلي يده مصافحا. وقفنا للصلاة. أطال الحاج في سجوده. أخذه خشوع الصلاة في ذلك اليوم الحار. ظل ساجدا مسجى في بياضه. صوت الحاجة يدعوه للعشاء، لكنه لا يسمعه. تعاوده إغماءته وتحط به الفراشة على رمل الشاطئ المبلل... يحفر، ويختفي تحت الأصداف.