لم أكن أتوقع سماع ما سمعته في تلك الجلسة التي جمعتني بأخي و شخص ثالث كنت أشاهده دائما بصحبة بعض أولاد الدرب. لا أعرف متى حل بالحي هو و أسرته الصغيرة و لا ماذا يفعل لكسب قوته. شخص في بداية عقده الرابع كما بدا لي، هادئ الطبع، متوسط القامة، يميل إلى النحافة، و يدخن كثيرا. عادة ما يتحدث بصوت خفيض و كأنما به خجل أو وجل، أو أنه لا يرغب في أن يشاركه غير جلسائه. و رغم انتقالي إلى حي آخر لا يبعد كثيرا عن درب السلطان، فقد ظل هذا الحي جزءا مني، أحمله معي أينما ذهبت؛ يجرفني الحنين إليه دائما، حتى إنني قلت لبعض الأصدقاء إن عقدة أبناء درب السلطان هي حيهم. يصعب عليهم فراقه. ربما كنت من هؤلاء. و لو أنني أحيانا أكره زيارته بعد أن غزته تجارة الملابس المهربة من الشمال، و البضاعة الصينية التي أضرت باقتصاد الوطن. هذا بالإضافة إلى الوافدين الجدد، الذين توافدوا عليه مثنى و زُرافات، ربما بعد أن ضاقت بهم مدنهم و قراهم بما رحبت. أتذكر ما يقوله أهل البيضاء الأصلاء من أن الولي الصالح سيدي بليوط ( اسمه الحقيقي أبو الليوث) يرحب بالغرباء و يغدق عليهم بركاته، ربما نكاية بأبناء هذه المدينة الذين لا يكترثون له. كثيرا ما سمعت من يقول» بليوط لقرع كايعطي غير لبراني». ماذا حدث للولي مع هؤلاء حتى يدير إليهم ظهره، و يفتح ذراعيه للغريب ليحضنه و يبارك تجارته أو عمله؟ و لكم كنت أجد متعة كبيرة و أنا أتجول في أزقة درب السلطان، أتذكر كيف كانت تبدو لي الزنقة عريضة، و كيف كانت الدكاكين مختلفة في أنشطتها التجارية من بقال إلى جزار إلى مصلح الدراجات الهوائية و النارية، إلى محل لبيع الأحذية ( باطا)، إلى مطعم، إلى سفناج، إلى بائع رؤوس الغنم المبخرة، إلى مخبزة، إلخ... الآن تغير كل شيء. مسحت الملابس كل شيء. أحيانا أقرر عدم العودة إلى الحي، لكن ما ألبث أن أخلف وعدي. أجد نفسي وسط دروبه، و كأن قوة مغناطيسية تجذبني رغما عني. و أحيانا أبرر ذهابي بكون بيتي الجديد بحاجة إلي شيء لا يوجد إلا هناك. أراوغ ذاتي، متذرعا ببعض الأسباب الواهية، رغم أنني أدرك حقيقة الأشياء. هل أتنكر لهذا الحي الشعبي كما يفعل البعض، و أنفض يدي منه؟ في ذلك المساء و الجو بارد بعض الشيء و نحن جلوس، بدأ هذا الشخص صاحب العوينات الطبية يسرد حكايات حسبتها من صنع مخيلته. أتابع حديثه بإعجاب و انبهار. لم أرغب في الرد عليه، و لا مقاطعته حتى. بين لحظة و أخرى ألتفت إلى أخي، يبادلني النظرة و نطبق صامتين. و الواقع أنني حسدته على الطريقة التي يدير بها الحديث. خزان من الحكايات التي لا تنتهي. هل هي حكايات حدثت له بالفعل، أم أنه يؤكد ادعاء ثربانتس من أن العرب أمة كذابة. لم يكن فن الحكي حرفته، فقد حسبته أحد رواة الحلقة. لكن ما لبثت أن تداركت الأمر من أن الحلقة في الدارالبيضاء، دقت آخر مسمار في نعشها منذ مدة، أو أنها مازالت تحتضر. له حرف عدة. يقوم بإصلاح كل شيء لصلاح الحال و العيال. هكذا قال لي أحد أبناء الحي. ولعل ما أثار دهشتي عفته و أنفته. لم يكن من الذين يستجدون عواطف الناس و لو أنه يعاني قلة ذات اليد، يرضى بما ينفحه له الناس مقابل الخدمات التي يقدمها لهم، و أحيانا على شكل اقتراحات. قال لنا إن أحدهم سأله عن حيلة فعالة يتم بها التخلص من فأر كان قد عاث في مطبخ بيته فسادا، رغم أنه قام بجميع الحيل للقضاء عليه. الاقتراح الذي قدمه له كان شديد البساطة: أن يخلط الجبص بمسامير صغيرة و يغلق الثقب الذي ينسل منه الفأر إلى المطبخ، حتى إذا ما حاول حفر الثقب من جديد دميت قائمتاه بعدها يلقى حتفه من أثر الجروح. أو يخلط الجبص بالسكر المدقوق. فإذا ما تذوقه، استمرأه، ثم أتى عليه. بعدها تنتفخ بطنه بالجبص و لا يقدر على التبرز. هكذا لن يحلم بالعيش ثانية. لكن أغرب ما سمعت خلال تلك الجلسة، و أنا أصغي إليه جيدا خشية أن تفلت مني كلمة قد تخل بلذة الحكاية و أؤولها على غير معناها، كانت حكاية القرد و المعزة. قال محدثنا: «فكرت مرارا أن أشتري قردا أدربه على بعض الحركات البهلوانية حتى أتمكن من الذهاب إلى الأسواق القروية التي تقام بالضواحي، و أحيي بذلك الحلقة هناك. كل مرة أعدل عن الأمر. و حتى هذه الساعة ما زالت الفكرة تراودني. قد تسألوني عن كيفية تعليمه هذه الحركات. ربما يبدو لكما الأمر صعبا. إنه بالفعل كذلك، لكن لدي حيلة أوصاني بها أحد العارفين بالأمور، مجربة و مضمونة النتائج.» تساءلت في خيالي عن ما علاقة القرد بالمعزة، و ما دورها في التدريب. جذب من جيب قميصه سيجارة، أشعلها؛ عب نفسا طويلا إلى أن انتفخ صدره، ثم نفث الدخان من أنفه و بعضا من فمه. و كأنه يتلذذ بسرد الحكاية. ظللنا ننتظر البقية. و كأنما حصل بيني و بين أخي توارد الأفكار، سأله: « و لكن ما وظيفة المعزة في هذا كله؟» ابتسم و نظر إلينا مليا. ثم التقط خيط الكلام، و قال: « للمعزة دور جوهري في التدريب. إنها كبش الفداء، أو القربان في طقس التعلم. فالقرد لا ينفذ الأوامر إلا بالتوعد و التهديد. في البدء، أربط القرد و أضعه بعيدا شيئا ما، و أتجاهله، و أبدأ بإصدار الأوامر إلى المعزة. أطلب منها أن تقلد بعض الحركات التي أكررها أمامها، و القرد المربوط يتابع المشهد دون أن ينتبه إلى أنني أراقبه. قد يأخذ الأمر عدة أيام، أكرر خلالها نفس الحركات أمام المعزة التي أعرف منذ البداية أنها لن تستطيع تقليدها لكونها وسيلة. غايتي، و الأهم عندي، هو القرد الذي عليه أن يستبطن الحركات التي أقوم بها. في كل مرة أكلم المعزة، و لا ألقي بالا للقرد.» عندما أتأكد من استيعابه لكل الحركات، بعد أن أكون قد منحت كل واحدة منها اسما «نومة الراعي الكسلان»، «نومة القايد في الخيمة»، «شبعة الغني و هو يمرر يده على بطنه»، ...إلخ و ذلك على أساس التكرار، كإحدى آليات التعلم، أقوم بطرح المعزاة أرضا، أذبحها على مرأى منه، علما بأنني أعرف أنه سيبدأ بالصراخ و القفز هنا و هناك من شدة الهلع حالما يرى المشهد و الدم المراق. بعدئذ أقوم بسلخ المعزاة، و تقطيعها، وهو لا يزال يصرخ، محاولا تقطيع الحبل و الهرب. أترك كل شيء، وأنسحب، و لا أعود إلا بعد فترة يكون القرد قد استوعب الدرس.» « في اليوم الموالي، بعد أن يتم تنظيف المكان من آثار الذبح و السلخ، أفك قيد القرد، و أكتفي بوضع طوق حول عنقه. و ما إن آمره بالقيام بإحدى الحركات، مهددا إياه بالذبح، حتى ينصاع و يقوم بها في الحال. تلك هي الطريقة الناجعة لترويض القردة مع العلم أنها عنيدة و لا تنسى من يؤذيها، و بإمكانها أن تنتقم لنفسها إذا ما غفلت عنها. فقد حكي، و الله أعلم، و العهدة على الراوي، أن مروض قرود لقي حتفه على يد قرد دربه على القيام بحركات تبعث على الضحك، و تسلي المتفرجين. و سبب ذلك أن القراد أفرط في إيذاء القرد. لكن الحيوان كان دائما يتحين الفرصة لأخذ الثأر. حتى إذا كانت إحدى الليالي، و غط المؤذي في نومه دون أن يعقله، انتهز القرد الفرصة. توجه إلى المطبخ و جاء بسكين، وذبح معذبه من الوريد إلى الوريد، مقلدا بذلك ما قام به المروض مع المعزة. ثم فتح النافذة، و فر لا يلوي على شيء، تاركا القتيل يسبح في دمه.» قلت ضاحكا: « و هل تم اعتقال القرد و حرر محضر في حقه؟» أجاب و هو يسحق عقب سيجارته بمقدمة حذائه، و الابتسامة لا تفارقه: « سجلت ضد مجهول.» في الطريق إلى البيت، لم أتوقف عن التفكير في بافلوف و سكينر، و في العصا و الجزرة، و في مثل هؤلاء الأشخاص الذين وهبوا ملكة الحكي و أسر الناس. ربما لأن قدرهم كان عيش العديد من التجارب، أو لأنهم جبلوا على هذا الأمر. لكن ليس كل من عاش عدة تجارب قادرا على الحكي. كما أن ليس كل من يحكي قادرا على أسر المستمع. الحكي فن و هبة؛ و التجارب معين ينهل منه الحكاء. إنها مثل القصص والروايات التي يقرأها القصاص، أو الروائي كي يحاورها في شكل إبداع سردي. فكيف بالذي تنتفي فيه كل هذه الأشياء ويرغب في الحكاية؟ رن الهاتف. أوقفت السيارة جانب الطريق للحديث مع مهاتفي. و انقطع خيط التفكير.